تركيا والربيع العربي


د.أحمد محمد كنعان
 
في زيارتي الأخيرة إلى تركيا ، تهيأت لي فرصة طيبة لاطلع على بعض الإنجازات العظيمة التي حققه هذا البلد الصديق خلال سنوات قليلة من عمر الزمان ، فليس غريباً إذن أن تطالعنا الأخبار يوماً بعد يوم أن تركيا بدأت تسترد أبناءها الذين هجروها لعقود طويلة مشردين في أصقاع المعمورة ، فقد نشرت مجلة "دير شبيجل" الألمانية في عدد خاص أفردته للحديث عن التطورات الهائلة التي شهدتها تركيا خلال السنوات القليلة الماضية ، تضمن مقابلة مطولة مع اثنين من الأتراك الذين هاجروا إلى ألمانيا في الستينات من القرن الماضي ، وعادوا مؤخراً إلى أحضان موطنهم تركيا ، أحدهما المواطن التركي بهادر < BAHADIR> هو رجل عادي قصد ألمانيا مهاجراً في أواسط الستينات من القرن المنصرم ، وقد فوجيء حال وصوله إلى ألمانيا أنه المهاجر التركي رقم "مليون" وكان في استقباله حشد كبير من العمال والمسؤولين الألمان الذي رحبوا به ومنحوه الجنسية الألمانية على الفور ، وحريٌّ بشخص قوبل هذه المقابلة الحارة أن يكون شديد الانتماء للبلد الذي احتضنه فلا يفكر بمغادرته على الإطلاق ، وبالفعل عاش الرجل سنوات لا تنسى من حياته في تلك البلاد التي كانت تنهض بقوة من مآسي الحرب العالمية الثانية ، وساهم الرجل في بناء البلد ، وقدم أفضل ما عنده من جهده .
 
إلا أن الرجل في السنوات الأخيرة بدأ يشعر بخيبة أمل لما آلت إليه الحال هناك ، فقد تغير الألمان كثيراًَ كما ذكر هذا الرجل ، وبدأ الفساد والكسل والمحسوبيات تنخر في جسد الأمة الآرية التي كانت إلى حين تعد نفسها الأمة الوحيدة الجديرة بالعيش الكريم ، كما أن أخبار بلده تركيا بدأت تدغدغ أحلامه ، وتذكره بالذي مضى من حال تركيا العظيمة التي ظلت لقرون طويلة سيدة الدنيا ، وعندما سئل الرجل عن أسباب حنينه إلى موطنه وعودته إلى أحضان بلده ذكر الكثير من أخبار تركيا الحديثة التي بدأت تخرج من مستنقع العلمانية ، وتعود إلى أفياء دينها ، ولعل أكثر ما شجع الرجل على جمع حقائبه وعودته إلى بلده أخبار القضاء على الفساد هناك ، وما حققته تركيا من نهضة صناعية وعلمية واسعة ، والقضاء على البطالة والفقر بعد أن تضاعف دخل الفرد التركي أكثر من خمس مرات في غضون عشر سنوات فقط ، ولهذا لم يتردد الرجل في جمع حقائبه والعودة إلى بلده للمشاركة الفعالة في بناء مستقبلها كما شارك من قبل في إعادة بناء ألمانيا ، علماً بأن هذا الرجل ليس الوحيد فقد سبقه بالعودة عشرات الألوف من أبناء تركيا كما ذكر في مقابلته .
 
والحقيقة أن ما ذكره هذا المواطن التركي العائد بشوق إلى أحضان بلده الأم ليس هو كل شيء عن تلك النقلة الواسعة التي حققتها تركيا خلال السنوات القليلة الماضية ، وجعلتها تسترد أبناءها ، في ظل حزب العدالة والتنمية بقيادة المبدع الكبير "أردوغان" ، بل هناك أسباب أخر عديدة ، نذكر منها ذلك الموقف الكبير الذي أجبرت فيه تركيا كبار مسؤولي الكيان الصهيوني على الاعتذار عندما تعمد الرجل الأول في خارجية الصهاينة قبل عام على إهانة وزير خارجية تركيا !
 
ثم جاء ذلك الموقف الآخر الكبير حين انسحب رئيس وزراء تركيا "رجب طيب أردوغان" في مؤتمر دافوس 2009 من المنصة التي كان يناظر فيها رئيس الكيان الصهيوني "شمعون بيريز" احتجاجاً على مدير اللقاء الذي لم يعط أردوغان الوقت الكافي للرد على افتراءات بيريز !
 
وموقف آخر أكبر ، ذكره العالم العربي الكبير "أحمد زويل" الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لدى زيارته لتركيا العام الماضي ، فقد ذكر في مقابلة تلفزيونية شاهدها الملايين أنه كان في زيارة لتركيا مبعوثاً علمياً من قبل الرئيس الأمريكي "أوباما" ، وكان على موعد لمقابلة "أردوغان" فطلب منه السفير الأمريكي في تركيا مرافقته ، فذهبا معاً ، وعندما دخلا مكتب أردوغان وجاء السكرتير بخير أردوغان بمجيئهما أنكر أردوغان مجيء السفير ، وطلب من سكرتيره إدخال زويل وحده دون السفير ، وهكذا ظل السفير ينتظر ولم يسمح له أردوغان بمقابلته ، ولم يكتف "زويل" بهذا الخبر الذي يثلج الصدر لأنه يعبر عن اعتزاز رجل تركيا الأول بنفسه ووطنه وأمته ، ويضع الأمور في نصابها ، بل ذكر زويل ما يثلج الصدر حول التقدم الهائل الذي طرأ على التعليم في تركيا ، ووصف تلك النقلة بأنها "مذهلة" وأن مستوى الجامعات في تركيا أصبح يضاهي مثيلاته في أرقى دول العالم !
 
ثم جاء الموقف الأخير من قبل تركيا في حادثة "سفينة الحرية" التي أعدتها تركيا لرفع الحصار عن غزة التي ارتكب فيها الجيش الصهيوني تلك الجريمة الشنعاء التي راح ضحيتها عشر شهداء من الأتراك ، فقد توعد "أردوغان" الكيان الصهيوني بحساب عسير للمسؤولين عن الجريمة ، وبدأ خطوات عملية حاسمة في هذا الاتجاه ، فجمد العلاقات مع الصهاينة ، وأوقف العمل بكافة الاتفاقيات المبرمة بينهما ، مما اضطر كبار المسؤوليبن الصهاينة ، والأمريكيين ، وهيئة الأمم المتحدة ، للتدخل واحتواء الخلاف بين الطرفين ، واعدين تركيا بتحقيق مطالبها كاملة !
 
إن هذه المواقف الوطنية النادرة ، وتلك الأخبار عن هذا البلد الإسلامي الذي استطاع في سنوات قليلة أن يقضي على الفساد ، وينهي مشكلات البطالة والفقر ، ويرفع دخل الفرد أضعافاً مضاعفة ، ويقف هذه الموافق العظيمة ، ويحرز هذا الوضع العالمي والإسلامي الكبير ، جدير بأن يسترد ثقة أبنائه به ، وأن يسترد أبناءه .. فهل يفعلها "الربيع العربي" ويعيد لنا أبناءنا الذين شردهم الاستبداد والحقد والرعونة السياسية في أصقاع الأرض ؟ نرجو ذلك .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين