كتب إلي العالم القرآني الأستاذ نعمان علي خان من الولايات المتحدة الأمريكية يستفسرني عن رأيي في مقال للشيخ متولى إبراهيم صالح بعنوان "حرمة الربا على الآكل دون الموكل"، رد فيه حديث "لعن الله آكل الربا وموكله" قائلا:
وأما زعم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا وموكله) فافتراء عليه صلى الله عليه وسلم لا يصح له إسناد ولا تقوم له قائمة، والبيان كما يلى:
1- بعض أسانيد هذا الخبر مقاطيع، ولا حجة فى المقاطيع.
2- وبعضها يدور على أبى الزبير المكي.
3- وبعض على عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود.
4- وبعض على مغيرة بن مقسم الضبي.
5- وبعض على الأعمش سليمان بن مهران.
6- وبعض على سفيان الثورى عن أبى قيس عبدالرحمن بن ثروان. وكلهم مدلسون معنعنون ولم يصرح أى منهم بأى سماع فى أى طريق.
7- وبعض على سلمة بن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه إبرهيم عن جده إسماعيل عن جد أبيه يحيى عن جد جده سلمة وما من هؤلاء ثقة سوى جد الجد سلمة وهو مدلس معنعن.
8- وبعض على الحارث بن عبدالله الأعور وهو متهم بالكذب.
9- وبعض على عيسى بن أبى عيسى الحناط عن الشعبى وعيسى متروك والشعبى مدلس معنعن.
10- وبعض على عون بن أبى جحيفة وهو مجهول موثق بسبر جزئى ناقص لا دليل على صحته ممن ولدوا بعد وفاته يحيى بن معين وأبى حاتم الرازى والنسائى وليس لهم إسناد إلى معاصر له وثقة فيقال وثقة معاصر عارف بشخصه ولم يطالعوا روايته هذه، إذ لو طالعوها لشذذوها لمخالفتها للقرآن ولرجعوا عن توثيقه ولحكموا عليه بأنه غير ثقة أو بأنه ثقة ولكن مخطئ شاذ في زعمه لعن الموكل رغم خلو القرآن من أي تهديد أو حتى توبيخ للموكل.
تخريج الحديث:
قلت: هو حديث صحيح اتفق على إخراجه الإمامان البخاري ومسلم في كتابيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة، وأخرجه غيرهما من أصحاب الأصول الستة وغيرها، و أقتصر هنا على حديثي الصحيحين، ثم أناقش الأسئلة التي أثارها الشيخ متولي إبراهيم.
حديث البخاري:
أخرجه البخاري في البيوع، باب موكل الربا، قال: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة قال رأيت أبي اشترى عبدا حجاما فسألته فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم ونهى عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله ولعن المصور.
وأخرجه البخاري أيضًا في الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد، قال: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي ولعن المصورين.
حديث مسلم:
وأخرجه مسلم في باب لعن آكل الربا وموكله، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم واللفظ لعثمان قال إسحق أخبرنا وقال عثمان حدثنا جرير عن مغيرة قال سأل شباك إبراهيم فحدثنا عن علقمة عن عبد الله قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله قال قلت وكاتبه وشاهديه قال إنما نحدث بما سمعنا.
حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالوا حدثنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء.
مناقشة الأسئلة:
وسأناقش فيما يلي أسئلته سؤالا سؤالا، وهي عشرة أسئلة:
أما الأول، فقال: بعض أسانيد هذا الخبر مقاطيع، ولا حجة فى المقاطيع.
قلت: يفرق عامة المحدثين بين المقطوع والمنقطع، والظاهر أن الشيخ متولي إبراهيم أراد بالمقطوع المنقطع، وقوله "لا حجة في المقاطيع"، لو أخذناه على عمومه، فإن ما قدمناه من حديث الصحيحين ليس في إسناد شيء منه انقطاع، بل كله موصول، فسقط هذا السؤال.
وأما السؤال الثاني، فقال: وبعضها يدور على أبى الزبير المكي، ثم علله بعنعنة أبي الزبير وتدليسه.
قلت: الصواب في أمر أبي الزبير أنه غير مدلس، وقد حققت الأمر في مقدمة صحيحي لمسلم، ولو سلمنا أنه مدلس، فإن مسلما لم يعتمد حديث جابر الذي رواه عنه أبو الزبير، وإنما أتى به شاهدا لحديث ابن مسعود.
وأما السؤال الثالث، فقال: "وبعض على عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود".
قلت: لم يخرجه الشيخان، فليس حديثه إلا متابعة، وكذلك السؤال الخامس: "وبعض على الأعمش سليمان بن مهران"، والسؤال السادس: "وبعض على سفيان الثورى عن أبى قيس عبدالرحمن بن ثروان"، والسؤال السابع: " وبعض على سلمة بن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه إبرهيم عن جده إسماعيل عن جد أبيه يحيى عن جد جده سلمة"، والسؤال الثامن: " وبعض على الحارث بن عبدالله الأعور"، والسؤال التاسع: "وبعض على عيسى بن أبى عيسى الحناط عن الشعبى"، فلا شيء منه في الصحيحين.
فلم يبق إلا السؤالان الخامس والعاشر، فقلت:
وأما السؤال الخامس فقال: "وبعض على مغيرة بن مقسم الضبي"، وعلله بالتدليس، وأنه ليس فيه تصريح بالسماع.
قلت: هو حديث مسلم، وفيه تصريح بالسماع، فقال مغيرة: سأل شباك إبراهيم فحدثنا عن علقمة، وهل شيء أوضح من قوله "حدثنا"، وكذلك أخرجه البزار والبيهقي مصرحا بالتحديث.
ومغيرة بن مقسم من أثبت الناس وأفقههم وأحفظهم إمام من الأئمة، اتفقوا على ضبطه وإتقانه، قال حجاج بن محمد عن شعبة: كان مغيرة أحفظ من الحكم، والحكم معروف بجلالته في الحفظ والإتقان، وقال أحمد بن عبد الله بن يونس عن أبي بكر عياش: كان مغيرة من أفقههم، وقال عبيد بن يعيش عن أبي بكر بن عياش: ما رأيت أحدا أفقه من مغيرة فلزمته، وقال يحيى بن المغيرة الرازي عن جرير بن عبد الحميد قال مغيرة: ما وقع في مسامعي شيء فنسيته، وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: ثقة مأمون، وقال أبو عبيد الآجري قلت لأبي داود: سمع مغيرة من مجاهد؟ قال: نعم، وسمع من أبي وائل، ومن أبي رزين ومغيرة، لا يدلس، سمع مغيرة من إبراهيم مائة وثمانين حديثا.
وقلت: وقد صرح مغيرة بالسماع كما أخرجه مسلم، فالعجب من الشيخ أن يكذب عيانا.
وأما السؤال العاشر فقال: "وبعض على عون بن أبى جحيفة وهو مجهول موثق بسبر جزئى ناقص لا دليل على صحته ممن ولدوا بعد وفاته يحيى بن معين وأبى حاتم الرازى والنسائى وليس لهم إسناد إلى معاصر له وثقة فيقال وثقة معاصر عارف بشخصه".
قلت: يا للتخليط المشين، أهكذا يرد أحاديث الصحيحين، وتستنكر أخبار الثقات؟ إن هذا الحديث الذي تكلم فيه مجازفة وتهورا هو حديث البخاري، أو ليس الذين يعتمد على قولهم ويوثق برأيهم في التعديل هم يحيى بن معين، وأبو حاتم الرازى، والبخاري، والنسائى؟ فإن كان قولهم لا يعتمد فقول من يعتمد؟
ثم قال الشيخ متولي: "ولم يطالعوا روايته هذه، إذ لو طالعوها لشذذوها لمخالفتها للقرآن ولرجعوا عن توثيقه ولحكموا عليه بأنه غير ثقة أو بأنه ثقة ولكن مخطئ شاذ فى زعمه لعن الموكل رغم خلو القرآن من أى تهديد أو حتى توبيخ للموكل".
قلت: إن موكل الربا أي المقترض إن كان فقيرا معسرا، فلا لوم عليه باتفاق الأدلة وإجماع الأئمة، ولكن إذا كان المقترض غنيا، كما قد شاع في عصرنا، فلا شك في إثمه، وليس ذلك مخالفا للقرآن، بل القرآن يعضده وينص عليه، قال تعالى: "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، والموكل متعاون، والآيات في المعنى كثيرة.
فالحديث ليس افتراء، بل هو حديث صحيح، والقرآن والسنة متعاضدان في ذلك ومتناصران.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول