تائهون أو أصحاب منهج

في مواكبته للمستجدات والنوازل يقدم الفقه الإسلامي رؤية متفردة تحكمها المصالح الشرعية  التي أرست النصوصُ نوعَها أو جنسَها، أو التفت الشارع إلى تحصيلها في جملة من النصوص.

تشكل هذه المصالح البوصلة الأولية الموجِّهة للاجتهاد الشرعي، وقد انتظمت في سبيل تحقيقها عدد من المصادر التبعية كالاستحسان والاستصلاح وسد الذريعة والعرف.

ولابد للفقيه من حصر أدلته، وبرهنتها، واعتماد ما ترجح إما تقليداً أو اجتهاداً، ثم تكييف المستجدات في ضوئها، وهذا يعني أنه لابد من منهج معياري للفقيه تقوم به الاجتهادات الفقهية ، لتكون أبعد عن هوى النفس أولاً، وأحفظ من الانصياع لمقتضيات واقع مصادم للشرع ثانياً.

فإذا نزلت المستجدة بساحة أهل التمكن الفقهي اعتصم كلٌّ بالمعيار المستقر عنده.

في ضوء ما تقدم يمكننا فهم الخلاف الفقهي الذي وقع في تكييف ( التأمين التجاري)، حيث نثر كل فقيه ما في جعبته من أدوات معيارية فأدت به إلى حكم منسجم مع المتقرر لديه.

وقد اطلعت على منشور لأحد الفضلاء يشرح فيه حالة التفرد الفقهي للعلامة مصطفى الزرقا عليه رحمة الله في إجازة التأمين التجاري، ويرى فيها حسناً بالغاً، أدى به أن يصف الذين خالفوه بالتائهين.

وقد استفزتني قالتُه تلك، لعلمي أن كلا الفريقين يصدر عن منهج علمي، فالمانعون لجواز التأمين، يرون فيه أولاً: مقامرة، حيث تلتزم شركة التأمين بتعويض المؤمن لهم في مقابل استحقاقها لأقساط التأمين، فإن كان هناك فائض فهو لها، وإن كان هناك عجز فهو عليها، فالعقد دائر بين الغنم والغرم، وهذا هو حقيقة المقامرة.

 ويرون فيه ثانياً: غرراً فاحشاً، لا تغطيه دائرة الاغتفار.

ويرون فيه ثالثاً: ربا، فالمال المقدَّم من المؤمِّن قرض يجر نفعاً.

 ويرون فيه رابعاً: أكلاً لأموال الناس دون وجه حق، فبأي حق تتملك الشركة مال المتعاقدين معها، ويتقلب المال بين يديها استثماراً واتجاراً.

ورأى المجيزون- وعلى رأسهم العلامة مصطفى الزرقا عليه رحمة الله- أن عقد التأمين فيه تفتيت للخطر، التفت الشارع إليه في نظام العاقلة في الإسلام القائم على تفتيت الدية في القتل الخطأ على أقرباء القاتل، وفيه معنى التعاون والتكافل .

ولم ير المانعون صحة هذا القياس، لكون العاقلة معدولاً بها عن القياس، إذ الأصل ألا تزر وازرة وزر أخرى، وألا يضمن المكلف إلا ما هو فعله أو ثمرة فعله، فيقتصر بالعاقلة على موردها، ورأوا من زاوية أخرى جانب التعبد أظهر من التعليل في العاقلة.

هذا مختصر المداولات الفقهية التي دارت بين الفريقين، وهي تدل على رصانة المنهجية العلمية التي تحكم الطرفين، وأنها حالة تعارض للأقيسة التي يتجاذب الفرعَ فيها عددٌ من الأصول مما يحتِّم الترجيح المنهجي، وهي حالة وعي وحضور، وتفكر ونظر.

فإذا بدا لنا بالنظر العقلي المجرد ترجح أحد الرأيين لا يحق لنا وصف مخالفه بالتائه، لأننا سنكون في توهان عن الواقع عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين