بين العلم المادي والعلم الديني

 

إذا أردنا بالعلم: العلم بمفهومه الشائع اليوم، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسيَّة والتجربة – فلا ننكر قيمة هذا العلم، وحاجةَ الناس إليه، لأن العلم الماديَّ مطلوب للإنسان، ولا شك، ولكنه مطلوب طلب الوسائل لا طلب الغايات.

 

وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسِّر له سبلها، ويختصر له الزمان، ويطوي له المكان: فيقرِّب البعيد، ويلين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده أن يضبط سيْر البشر، ويقاوم أنانيَّة الإنسان ونزَعات نفسه الأمَّارة بالسوء.

 

الحاجة إلى العلم الديني : 

 

ولهذا كان الإنسان في حاجة مَاسَّة إلى «العلم الديني» الذي ينمِّي الإيمان ويحيي الضمائر، ويغرس الفضائل، ويقِي الإنسان شحَّ نفسه، وطغيانَ غرائزه على عقله، وهواه على ضميره، وهذا هو الذي يعصم «العلم المادي» من الانحراف، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان.

 

وقد ضرب لنا القرآنُ مثلاً بسليمان -عليه السلام – الذي أتاه الله ملكاً لم يُؤْتِهِ أحداً من بعده.

 

فقد أُحضر إليه عرش بلقيس من سبأ باليمن إلى مَقرِّه بالشام، قبل أن يرتدَّ إليه طرفُه، بفضل ذلك الذي وصفه القرآن بأنه (عنده علم الكتاب) وهنا تجلى الإيمان حين أرجع سليمانُ الفضل إلى الله لا إلى نفسه، فلم يركبه الغرور، أو يستبدّ به الطغيان: [قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ] {النمل:40}.

 

وكذلك كان موقف ذي القرنين الذي فتح الفتوح غرباً وشرقاً، وتوَّج حكمه بإقامة سدِّه العظيم، مستخدماً ما يسَّره له علمُ عصره من وسائل وأدوات، فلما أتم البناء قال في تواضع المؤمنين: [قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا] {الكهف:98} .

 

ألا إنَّ العلم الحق هو الذي يهدي إلى الإيمان، والإيمان الحق هو الذي يفسح مجالاً للعلم، فهما إذن شريكان متفاهمان، بل أخوان متعاونان.

 

وهذا هو العلم الذي يريده الإسلام، أيّاً كان موضوعه، ومجال بحثه. يريده علماً في ظلِّ الإيمان، وفي خدمة مُثله العليا، وإلى ذلك أشار القرآن حين قال في أول آية نزلت: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}  والقراءة عنوان العلم ومفتاحه ومصباحه، فإذا كان أول أمر إلهي نزل به القرآن: «القراءة» كان ذلك أوضحَ دليل على مكانة العلم في الإسلام.

 

ولكن القرآن لم يطلب «مطلق قراءة» وإنما طلب قراءة مقيَّدة بقيد خاص وهو أن تكون «باسم الله»، أو كما قال القرآن: [بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}.

 

وإذا كانت القراءة باسم الله، فقد وجِّهت إلى الحق والخير والهداية، لأن الله تعالى هو مصدر هذا كله.

 

ولا غرو أن نشأ العلم في الإسلام في أحضان الدين، وأن نشأت المدارس في صحون المساجد، وبدأت الجامعات الإسلامية العريقة تحت سقوف الجوامع، بل سمِّي كلٌّ منها جامعاً: جامع الأزهر، جامع القروبين، جامع الزيتونة ... وهكذا.

 

وكانت هذه الجوامع أو الجامعات تدرِّس علوم الدين، وعلوم الدنيا معاً، وكان كثير من العلماء التجريبيين هم في نفس الوقت علماء دين، مثل القاضي ابن رشد الحفيد[1] مؤلف «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه المقارن ومؤلف «الكليات» في الطب.

ومثل الخوارزمي[2] الذي ألف كتابه الفريد – الذي أسَّس به علم الجبر؛ ليحل به مشكلات في الوصايا والمواريث من أبواب الفقه!.

 

من كتاب: " الرسول والعلم" 

([1]) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي، أبو الوليد: الفيلسوف. من أهل قرطبة. عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات كثيرة. وصنف نحو خمسين كتابا  منها:" فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - ط " و" الضروريّ " في المنطق،  و"منهاج الأدلة " في الأصول، و" المسائل - خ " في الحكمة،  و"تهافت التهافت - ط " في الرد على الغزالي، و" بداية المجتهد ونهاية المقتصد - ط " في الفقه .واتهمه خصومه بالزندقة والإلحاد، فأوغروا عليه صدر المنصور( المؤمني) ، فنفاه إلى مراكش، وأحرق بعض كتبه، ثم رضي عنه وأذن له بالعودة إلى وطنه، فعاجلته الوفاة بمراكش، ونقلت جثته إلى قرطبة، قال ابن الأبار: كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه. ويلقب بابن رشد " الحفيد " تمييزا له عن جدّه أبي الوليد محمد بن أحمد (المتوفى سنة 520)، وتوفي ابن رشد الحفيد سنة 595 عن 57 عاما رحمه الله . انظر: " الأعلام" للزركلي 5:318

([2]) محمد بن موسى الخوارزمي، أبو عبد الله: رياضي فلكي مؤرخ، من أهل خوارزم، ينعت بالأستاذ. أقامه المأمون العباسي قيما على خزانة كتبه، وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها، وأمره باختصار (المجسطي) لبطليموس، فاختصره وسمّاه (السند هند) أي: الدهر الداهر، فكان هذا الكتاب أساسا لعلم الفلك بعد الإسلام. وللخوارزمي كتاب (الجبر والمقابلة) ترجم إلى اللاتينية ثم إلى الإنكليزية، ونشر بهما وطبع بالعربية (مختصر) منه، و (الزيج) نقل عنه المسعودي، و (التاريخ) نقل عنه حمزة الأصفهاني، و (صورة الأرض من المدن والجبال إلخ - ط) و (عمل الأسطرلاب) و (وصف إفريقية - ط) وهو قطعة من كتابه (رسم المعمور من البلاد) . وعاش إلى ما بعد وفاة الواثق باللَّه بعد 232. الأعلام 7:116

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين