بر الوالدين والدولة السليمة

عجلة الزمن لا تتوقّف عن الدوران، ولا تتوقّف معها عجلة التغيّر واختلاف الأجيال مع تطوّر حياتهم وثقافتهم، وهو اختلافٌ تراكميٌّ يمكن أن يتحوّل مع الزمن إلى كارثةٍ وطنيّةٍ إذا لم تكبحه قواعد وأُطرٌ علميّةٌ وتربويّةٌ مدروسةٌ تضبط مساره بين آنٍ وآخر. تماماً كالسيّارة التي تحتاج إلى مراقبةٍ، وصيانةٍ، وتبديل قطعٍ، وشهادة صلاحيةٍ للسير، مرّةً في كلّ عامٍ على الأقلّ.

حتّى العائلة المالكة في بريطانية، على سبيل المثال، تجد نفسها بين الحين والآخر في حيرةٍ وإشفاقٍ وهي ترى إلى تقاليدها العريقة تتعرّض للاحتجاج، وربّما الانتهاك، على أيدي الأجيال الجديدة من الأمراء. وقد يقودها التمسّك المطلق بهذه التقاليد إلى ما لا تُحمد عقباه، كما حصل قديماً مع الأميرة ديانا، ومؤخّراً مع الأمير هاري وزوجته ميغان.

نعم، إنّ من الطبيعيّ لآداب (أو إتيكيت) التعامل بين الكبار والصغار أن تتغيّر مع الزمن، ولا سيّما في عصرنا المتطوّر، وبتسارعٍ غير مسبوق، في كلّ شيء، ولكنّ المحور العامّ الذي ينتظم هذه الآداب لا بدّ أن يبقى قويّاً وثابتاً على الزمن إن أردنا لأسرتنا، ثمّ لمجتمعنا، ثمّ لأمّتنا ولأمم العالم أجمع، أن تظلّ في دائرة الأمان، وتحت مظلّة السلامة، وفي نعمة الصحّة العامّة، التربويّة، والبدنيّة، والعقليّة.

ولا شكّ أنّ بِرّ الأبناء والبنات، وتغذية الثقة عندهم بآبائهم وأمّهاتهم، من شأنه أن يؤدّي بهم في النهاية إلى أن يكون البرّ أحد مكوّنات شخصيّاتهم، فيمارسون البرّ مع الجار، ومع المجتمع، ومع الدولة، ومع الله. وعندما يضطرب موقع السلطة في عقل الولد، كما يَحدثُ هنا في الغرب، فيتحوّل في ذهنه مفهوم القيادة إلى طبيعةٍ زئبقيّة حائرةٍ بين سلطة الآباء وسلطة الدولة، وتتعدّد أمامه المرجعيّات، ولا سيّما في سنوات طفولته، بحيث يجد نفسه قادراً على أن يمسك بهاتفه المحمول، ويتّصل بالشرطة مستنجداً إذا تجرّأ وعاقبه أو عنّفه أبوه أو أمّه، حينذاك؛ تُصاب العلاقة "التوجيهيّة" بينه وبين والديه بشرخٍ عميقٍ لا يُجبَر، فيتحوّل عنهما إلى الرصيف الآخر، حيث السلطة الأخرى المنافسة، الأحدث، والأقوى، تلك التي لا تعايشه، ولن تستطيع أن تعايشه، ولا تشرف عليه، ولن تستطيع أن تشرف عليه، بعقلها، وقلبها، وأعصابها، على مدى 24 ساعة في اليوم، و365 يوماً في العام، ولا أن تمنحه، ولن تستطيع أن تمنحه، من الحبّ، والإشفاق، والدفء، والعواطف، والسكينة، ما خصّه الخالق به، منذ خلقه، ليتلقّاه حصراً من أبويه، وبسخاء.

إنّه الآن يجد نفسه ممزّقاً حائراً بين السلطتين، وهذا مِن شأنه أن يدفع به شيئاً فشيئاً بعيداً عن أبويه، بعقله، وبعواطفه، وبانتمائه، فيحرّر نفسه من سلطتهما، ويستقلّ عنهما برأيه وبقراراته، أيّاً كانت سنّه، وأيّاً كانت أهمّية القرارات، فينمو الولد في بيته معتدّاً، وقد استطاع أن يتجاوز سلطة أبويه، بأنّه أصبح مؤهّلاً لتجاوز أي قانونٍ، سماويٍّ أو أرضيّ، يقف في طريقه، أو يحدّ من حرّيته، أو يضع له ضوابط أمينةً تحميه من نفسه، وتحمي الآخرين من تمرّده وتجاوزاته الخطيرة.

وعندما تصل الأمور إلى حدٍّ تسمح معه بعض الحكومات للأطفال، ولمّا يتجاوزوا الرابعة، أن يختاروا جنسهم، بحيث يحقّ للولد أن يقرّر ما إذا أراد أن يكون أنثى أو ذكراً، ومن غير الرجوع إلى أبويه، بل ربّما تعرّض الأبوان للعقوبة إذا تدخّلا في هذه "الخصوصيّة الفائقة" التي أصبحت مُلك الطفل وحده، عندما يشعر الولد بأنّه وصل إلى مثل هذه المرحلة من التحرر من الضوابط والأطُر السماويّة، جنباً إلى جنبٍ مع الأرضيّة، وإلى مثل هذه الدرجة من الثقة والاعتزاز بحقّ الانفصال في قراراته عن والديه، فإنّ هذا من شأنه، وفي عمليّةٍ تبادليّةٍ متنامية، أن يُشعر الوالدين، بدورهما، بمثل هذا الانفصال التدريجيّ، والمؤلم، في المسؤوليّة العاطفيّة والتربويّة والتوجيهيّة، عن ولدهما.

وبدهيٌّ أن ينعكس ذلك على الوالدين بشكلٍ سلبيٍّ وخطير. فينمو عندهما شيءٌ من الخوف والتردّد في التدخّل بقرارات أبنائهما، أيّاً كانت خطورتها وجدّيتها، ثمّ ما يلبث هذا التردّد أن يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى تباعدٍ عاطفيٍّ، وإهمالٍ، وعدم اكتراث، وهكذا في علاقةٍ جدليّةٍ متصاعدةٍ ما تفتأ تنحدر بكلّ الأطراف من سيءٍ إلى أسوأ، فتتضاءل العلاقات والعواطف الأبويّة-البنويّة المتبادلة، وتخبو شعلة الحبّ والتضحية لدى كلٍّ منهما نحو الآخر، ويتحوّل أطراف هذه المعادلة إلى كتلٍ بشريّةٍ جفّت في داخلها العواطف الإنسانيّة، وتجرّدت من شعور كلّ طرفٍ بالاهتمام أو بالمسؤوليّة، أو حتّى بالثقة، تجاه الآخر، فتنهار الأسرة الصغيرة، ثمّ تتوسّع خارطة الانهيار لتشمل الأسرة الممتدّة، ثمّ ما تلبث أن تكتسح المجتمع بأكمله (ولا بدّ أن نتذكّر هنا سؤالنا المتقدّم: أما زالت الأسرة جديرةً باسمها؟).

هكذا يغدو الجار غير مهتمٍ بمعرفة شيءٍ عن جاره، فهو لا يعلم بمرضه إذا مرض، ولا يهمّه أن يعلم، ولا يسمع بموته إذا مات، ولا يهمّه أن يسمع، وتغدو معظم العلاقات الاجتماعية، وربّما العائليّة، محكومةً بقوانين الدولة ومؤسّساتها، فهي التي تقوم بترسيمها وتنظيمها. ولن تكون هذه العلاقات بطبيعة الحال، إن وُجدت، أكثر من لقاءاتٍ جافّةٍ رسميّةٍ، أو شبه رسميّة، بإشراف الدوائر المعنيّة.

عندما تصبح الدولة هي المسؤولة الأولى عن حماية الطفل، وعندما يصل الأمر ببعض الأصوات، وربّما الهيئات والقوانين، إلى الدعوة لحماية الأولاد من والديهم، فهذا يعني أن الطفل قد خسر أعظم حمايةٍ يمكن أن تتوفّر له على وجه البسيطة. وإذا لم تكن الأمّ، ثم الأبّ، هما الخندق الأوّل لحماية الطفل والدفاع عنه؛ فقد خسر هذا الطفل أقوى الخنادق الدفاعيّة حصانةً، وخسرت معها الدولة عروةً أخرى من العُرى الوثقى التي تُحكِم ترابط نسيجها الاجتماعيّ، وأمانها الوطنيّ، وليس بعد ذلك إلّا النهاية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين