المضامين التربوية في سورة يس (4) والأخيرة

المبحث الثالث: المضامين التربوية السلوكية

1- القسم للأمر العظيم

أقسم الله -عز وجل- في أول سورة يس بالقرآن الكريم على صحة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جاء في تفسير البغوي: (أقسم الله بالقرآن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وهو رد على الكفار حيث قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43](1). والآية تشير إلى تعظيم الأيمان، وألا يحلف المسلم على أتفه الأسباب وأهون الأمور، يقول الشيخ أبو زهرة: (ومن لا يصون يمينه لا يبر بها بل يقع في الحنث الكثير، وقد يكفر وربما لا يكفر، ومن يعرض اليمين في القليل والكثير والعظيم والحقير من الأمور لا يكون متقيًا لله)(2).

2- التلطف والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة

خاطب صاحب يس قومه بقوله {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} يقول الشيخ الطنطاوي: (قال لقومه على سبيل الإرشاد والنصح: يا قوم اتبعوا المرسلين الذين جاؤوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم، ولإنقاذكم من الضلال المبين الذي انغمستم فيه)(3). ولا يخفى ما في قوله {يا قوم} من التلطف في القول واللين في الكلام، وهو أدلُّ على النصح لهم والإشفاق عليهم، وأقرب إلى صرفهم عن طريق الضلال والإضلال، وهو مسلك تربويّ نبوي حكيم لا يرى ألطف ولا أحكم ولا أعدل مدخلا منه إلى النفس، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله))(4).

3- الحرص على هداية الناس:

{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس:30] قال مجاهد: (يا ندامة عليهم في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الدنيا!)(5) والمعنى: يا حسرة الرسل والملائكة على العباد(6)، وسبب التحسر استهزاؤهم بالرسل وتكذيبهم إياهم، وفيه إشارة إلى شفقة الداعية وحرصه على هداية الخلق وإرشاد الحيارى، وأن يطرق كل باب ويبذل كل جهد من أجل هدايتهم، وألا ييأس في سبيل إنقاذهم من عذاب الله في الآخرة، وفي الحديث: ((لأن يهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم))(7).

4- شكر المنعم على نعمه

ذكر الله عز وجل نعمه على عباده في موضعين من سورة يس، وأنكر على المشركين عدم شكر الله -عز وجل- على هذه النعم فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} قال ابن عاشور: (والاستفهام: إنكار وتعجب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة)(8) ، والمعنى: (فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى)(9) ، يقول البيضاوي: ({أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أمر بالشكر من حيث إنه إنكار لتركه)(10). ولا يخفى أن الشكر على ثلاثة أنواع، قال النيسابوري: (وهو على ثلاث منازل: شكر القلب وهو الاعتقاد بأن الله ولي النعم، قال الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وشكر اللسان وهو إظهار النعمة بالذكر لها والثناء على مسديها، قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وشكر العمل وهو إِدْآبُ النفس بالطاعة، قال الله سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، وقد جمع الشاعر أنواعه الثلاثة فقال: (أفادتكم النعماء مني ثلاثة ...... يدي ولساني والضمير المحجبا)(11).

5- التوكل على الله والتسليم له

قال الله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، في هذه الآية (يبين تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدر أمرًا وأراد كونه فإنما يقول له: كن -أي مرةً واحدةً- فيكون، أي فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال الشاعر:

(إذا ما أراد الله أمرًا فإنما .... يقول له "كن" قولةً فيكون)(12).

فإذا كان أمر الله نافذًا فلا ينافي الأخذ بالأسباب لكوننا أمرنا بالتماسها، فأمر الله فوق كل أمر، فنأخذ بالأسباب ونعتقد اعتقادًا جازمًا أن أمر الله نافذ، وهذا هو التوكل على الله والاعتماد عليه والتسليم له، يقول ابن رجب الحنبلي: (وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وَكِلَةُ الأمورِ كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه)(13).

6- كتابة الأثر تدفع الإنسان إلى ترك الأثر الطيب:

إذا أدرك الإنسان أن أثره يكتب بعده اجتهد في ترك الأثر الصالح، قال ابن كثير عند قوله تعالى {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}: (وفي قوله {وآثارهم} قولان: أحدهما نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أَثَرُوهَا مِن بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن يَنقص من أجورهم شيءٌ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ))(14). والقول الثاني أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، وقد ورد في هذا المعنى حديث جابر بن عبد الله قال: (خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد))، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: ((يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم))(15).

وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان يستطيع أن يطيل من عمر نفسه وأن تكون له حياة بعد الموت، وذلك بأن يترك بعده أثرًا طيبًا، وقد أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض هذه الآثار بقوله: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))(16).

7- التسبيح والذكر من العبادات المهمة 

ختم الله عز وجل سورة يس بقوله {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ،} وهذا يناسب ما ذكره الله -عز وجل- في السورة من الآيات الدالة على عظيم صنعه وقدرته، قال في أضواء البيان: (ومن قدرته على كل شيء وتصريفه لأمور ملكه كيف يشاء أن جعل العالم كله يسبح له بحمده تنفيذًا لحكمةٍ فيه كما في قوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، فجمع الحمد والحكم معًا لجلالة قدرته وكمال صفاته)(17). وقد أخبر أن الملأ الأعلى مشغولون بهذه العبادة العظيمة عبادة التسبيح، قال تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وقد أمر الله نبيه بالتسبيح في مواطن متفرقة، منها قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [الطور: 49] فحريٌّ بالمؤمن أن يكون حريصًا على عبادة التسبيح لما تنطوي عليه من أسرار ولما لها من فوائد في تهذيب النفس وغرس اليقين وتعظيم الخالق عز وجل.

8- الإصرار على الباطل من شأن الكافرين:

قال الله عز وجل: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُون} [يس:7] أي (وجب العذاب على أكثرهم)(18) بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار، وعدم تأثرهم من التذكير والإنذار وغلوهم في العتو والطغيان، وتماديهم في اتباع خطوات الشيطان بحيث لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف(19)، وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه(20)؛ ففي الآية تهديد الكافرين بسوء العاقبة، وأن الله قد مضى حكمه وثبت قضاؤه في أن جعل النار مصيرهم وعاقبة أمرهم، فقد وجدوا آباءهم على الباطل وأصروا على اتباعهم في باطلهم؛ لهذا فإن المسلم مأمور أن يفكر ويعمل عقله ويتبع الحجة والبرهان.

أخيرًا لا بُدَّ أن أشير إلى ما يلي:

1- على الباحثين في المجال الشرعي والدعاة والعلماء أن يُعنَوا بنشر التحليل التربوي ونتائجه؛ كي ينتقل الناس من مرحلة القراءة المجردة لآيات القرآن الكريم إلى مرحلة الوعي والإدراك لما تحتويه من معانٍ وتربية وأحكام. 

2- صياغة المناهج التعليمية على ضوء ما تحتويه العلوم من مضامين تربوية ليظهر أثر العلم في سلوك المتعلم. 

3- تقعيد علم التحليل التربوي على ضوء الثوابت في الشرع والتربية واللغة.

العدد السادس من مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الثالثة هنا

(1) محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى: 510هـ)، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرين، (ج7، ص110).

(2) أبو زهرة، زهرة التفاسير، (ج2، ص743).

(3) محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، (ج12، ص23).

(4) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم الحديث (6024).

(5) التفسير الوسيط (3/513).

(6) تفسير السمعاني (4/375).

(7) البخاري (2942).

(8) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23، ص 67).

(9) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص575).

(10) ناصر الدين البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي، ج4، ص268، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ.

(11) أبو الحسن النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)، التفسير البسيط، ج1، ص471، جامعة الإمام محمد بن سعود ، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

(12) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص596).

(13) زين الدين السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)، جامع العلوم والحكم، تحقيق الأحمدي ج3، ص(1266).

(14) مسلم، صحيح مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، رقم الحديث (6975).

(15) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص566)، والحديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب فضل كثرة الخطى إلى المساجد، رقم الحديث (1552).

(16) أحمد، مسند الإمام أحمد، باب مسند أبي هريرة، رقم الحديث (8844).

(17) الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (ج8، ص195).

(18) تفسير البغوي (4/6).

(19) تفسير أبي السعود (7/159).

(20) تفسير السعدي ص (692).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين