الفارون من الموت إلى الموت

 

 

قصة مستوحاة من حدث حقيقي

.

    اتصلت عليه.. رن الهاتف طويلا، كنت أمني نفسي ألا يكون الخبر صحيحا، برغم انتشار الحادثة، وذيوع خبرها..

        جاءني صوته متهدجا حزينا متقطعا، وبدون مقدمات:

- نعم، لقد غرق، وغرق معه كثير، كان في عرض البحر على متن أحد قوارب الموت.. أكوام من البشر يتكدسون صغارا وكبارا، رجالا ونساء، فروا من جحيم الحرب، فوجدوا الموت يترصدهم في عباب البحر.. هناك، وقبل أن تكتحل عيونهم بأرض الأمل تبدد كل شيء.

        كانا معا، أخي الأكبر وأخي الأصغر وسط كدس من البشر في ذلك القارب المشؤوم.. 

        يخبرني أخي الأصغر، وهو أحد الناجين من تلك الكارثة، فيقول: 

    كنت وأخي متلفعين بلحاف رث، عيوننا شاخصة في لا شيء، كانت ظلمات ثلاث تخيم علينا: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الصمت الرهيب، كان الهدوء القاتل يلف المشهد، ويرسم التجهم على الوجوه.. 

      مرت ساعات كئيبة على رحلتنا البحرية الطويلة، وها نحن في مراحلها الأخيرة.

    لقد أصبح الأمل الوردي يتدلى أمام العيون الهائمة، فها هو الفجر بدأ يلوح من بعيد، وها هي الأنداء البحرية أخذت تداعب الأجفان المسمرة ، و ها هو البحر يمتد في الأفق كأنه صرح ممرد من قوارير، وهاهي الأمواج  تتهدج أمامنا كسنابل القمح تداعبها نسائم نيسان.

    كان كل شيء يسير بحسب الخطة التي رسمها قائد المركب:

- "سأحاول أن أسير بسرعة معينة، تمكنني من الوصول إلى جزيرة كوس اليونانية مع بزوغ شمس الصباح، وعندما نرسو على الشاطئ تبدأ رحلتكم الجديدة مع الحياة".

      يالها من كلمات عذبة، ما زالت ترن في أذني، وتداعب خيالي طول الرحلة التي أوشكت على النهاية!!

      - " عندك بحرية يا ريس .. سمر وشرقية يا ريس.. والبحر كويس يا ريس..."

    بهذه الكلمات أخذ قائد المركب يدندن بصوت خفيض، وكأنه أحس بشيء من التفاؤل وهو يرى خيوط الفجر الأولى تتدلى أمام الوجوه.. 

كان صوته نشازا بين هدوء قاتل مطبق على أولئك الحيارى. لم تهزهم كلماته، ولم تدفعهم كثيرا للتفاؤل. كنت أحس بمزيج غريب: أمل وألم.. دمعة وابتسامة.. فرحة وخوف.

    كان أخي الأكبر يأخذ بيدي كل فترة، يفركها ويتلمسها، وكأنه يحاول أن يمدني ببعض الثقة، ويمنحني بعض القوة، ثم لا يلبث أن يدفعها بعنف وسرعة غير معهودتين.

    - ماذا يدور بخلدك يا أخي؟ وبم تفكر؟ ليتني أعرف ما بداخلك. لقد كانت عيناه تحدقان في البعيد، يلتفت إلي لوهلة، ثم ينقلب كأنه يفر من مواجهتي.

آه من هذه النظرات الخاطفة المريبة، لقد كانت تزرع في خوفا دفينا رغم ما يحفني من آمال.

حاولت أن أسأله، لكن لم تطاوعني الكلمات. كنت شاردا أحاول لملمة مشاعري المتناثرة على صفحة الماء لولا صيحة هائلة من قائد المركب يصرخ:

- امنعوا تدفق الماء إلى المركب.. أسرعوا أيها الرجال.. أنقذوا أنفسكم ..

  بدأت كلماته تذوب بين الصراخ.. كان المركب يميل بشكل متسارع على جانبه الأيمن، والماء يتدفق داخله.. لا أعرف كيف سارت الأمور، لا أتذكر إلا أنني وأخي أصبحنا في عرض البحر، وعويل النساء والأطفال يرتفع حولنا.. كان أخي يشدني بقوة صوب طوف قد تعلق به، وفي لحظة ما كنت أحاول التشبث بالطوف انزلق أخي في الماء، وهو يناديني: تمسك جيدا.. لا تفلت الطوف.. حاولت أن أمسكه، لكنه اندفع بعيدا عني.. لم أعد أراه.. لقد ابتلعه البحر كما ابتلع الكثيرين من حولي.

      توقف صاحبي لحظة، وهو يقص علي خبر غرق أخيه، ثم أجهش بالبكاء..

    أغلقت الهاتف، وأنا أتمتم:

لكم الله أيها الفارون من الموت إلى الموت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين