العقلانية والدين

لاحظنا خلال العقود القليلة الماضية تنظيم المؤتمرات والندوات، وانتشار كتابات الحَداثيَّين الذين انصب اهتمامهم على مركزية الإنسان وتمجيد العقل البشري، وقد امتاز هذا الاهتمام الحداثي بالمغالاة في تجاوز الغيبيَّات الدينية، مع اتجاه يتجاوز المعقول لتقديس "العقل" بحجة المنهجية العلمية والموضوعية، متخفين تحت ستار العلمية والعقلانية والتنوير حيناً، وتحت ستار "البنيوية" و "التفكيكية" وغيرها من التسميات الملتبسة غالب الأحيان !

ويدرك المتتبع لهذه السوق الحداثية وقوعها في هَوَس المعطيات العلمية المعاصرة، وما أنجزتْه ثورة المعلومات والتكنولوجيا من إنجازات، فهذا هو ما شَجَّع الحداثيين على التبجُّح بالمنجزات العلمية وتقديس العقل إلى حد التطاول على المقدَّسات، وازدراء الأديان، وإنكار الخالق، سالكين في ذلك مسلكاً بائساً بعيداً عن العلم والموضوعية .

ومن الملاحظ كذلك أن الطروحات الحداثية تختلف أساليبها، وتتنوَّعَ طرائق عرضها، إلا أنها جميعاً لا تختلف من حيث الجوهر عن مقولات المغالطين من مشركي عرب الجاهلية، فالحداثة تتجاهل عن قصد أن التعاطي مع الغيبيات الدينية ينبغي أن يجري وَفْقًا لمنهجية العلوم الدينية، لا منهجية العلوم التجريبية !

فكما أن علوم الطبِّ تُدرَس بمنهجبة العلوم الطبية، وعلوم الفيزياء تُدرَس بمنهجية هذه العلوم لا غيرها؛ فكذلك ينبغي أن تدرس العلوم الدينية بمنهجية هذه العلوم لا غيرها !

ومن هنا فإن ما درج عليه الحداثيون من ازدراء للإسلام، وإساءة للذات الإلهية والأنبياء، يعبر عن حالة متخلِّفة منهجياً، تنطوي على الازدراء للعقلانية كما يراه علماء الاجتماع وأطباء النفس الذين يرون أن ظاهرة ازدراء الدين، تعكس حالة جفاف نفسي، وإفلاس رُوحي؛ وفقر دم علمي، فالحداثيون – ومثلهم الملحدون - ينكرون كل ما لا يُدركه العقل، أو ما لا تُحِسُّه الحواس وتُحيط به؛ فالحداثي والملحد مستعدان لإنكار وجود دماغه وعقله لأنه لا يراه، في مناكفة عجية هدفها الوحيد إثبات مقولاتهما المتهافتة التي لا تؤمن إلا بالمحسوس والمنظور !

والعجيب أن الحداثي والملحد اللذين يزعمان الإيمان بالعقل وينكران حقائق الدين؛ يتجاهلان عن عمد أن العلم لم يتقاطَعِ في أدقِّ تفاصيله ومكتشفاته مع هذه الحقائق؛ وعلى سبيل المثال نجد أن تناغُمَ العلم في مكتشفاته مع القرآن الكريم، قد أذهلَ العلماء والفلاسفة، حتى أعلن كثير منهم إسلامه عن قناعة علمية تامَّة !

ومن هنا فإن الكتابات الحداثية المعادية للدين، والدعوات المشبوهة إلى الإلحاد، إنما هي تعبيرٌ مُتهافِتٌ عن حالة ضياع فكري، وجفاف رُوحي، واستلاب معنوي، تُغذِّيها عواملُ كثيرة، لعل في مُقدِّمتها ثقافة الكَسْب المادي، وضجيج العصرنة الصاخب، وغياب التربية الدينية الصحيحة ...

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين