الطريق إلى معرفة سماع الراوي ممن روى عنه

إن معرفة كيفية التحقق من سماع الراوي ممن روى عنه حتى نحكم على سنده بالاتصال مفيدة جداً , وخصوصاً لمعرفة المرسِلين , والمدلِّسين وغيرهم .. فهناك ثلاث طرائق للتحقق من ذلك , أُلخصها بالآتي (1) :

الطريقة الأولى : النظر في ترجمة الراويين في كتب الجرح والتعديل , للوقوف على أنه يروي عنه , فإن وجدنا في الترجمتين أو إحداهما أن فلاناً يروي عن فلان حكمنا بالاتصال بينهما , وإلا توقفنا .

ولعل أشهر الكتب عناية بهذا الجانب كتاب : ( تهذيب الكمال ) للحافظ المزي , الذي هذب به كتاب ( الكمال ) لعبد الغني المقدسي , ثم جاء بعد ذلك الإمام مغلطاي , فحاول في كتابه ( إكمال تهذيب الكمال ) تتميم عمل الحافظ المزي بإضافة ما يقف عليه ممن أغفلهم المزي , فأفاد جداً , إلا أنه لم يستوعب , ثم جاء الحافظ ابن حجر في كتابه ( تهذيب التهذيب ) فتوقف عند عمل مغلطاي , بالإضافة إلى أنه عمد إلى حذف كثير ممن ذكرهم المزي , ولا شك أنه لو تمم عمل مغلطاي بإضافة ما يقف عليهم لكان أجود من المنهج الذي سلكه .

ومما هو معلوم أنه لا الحافظ المقدسي , ولا المزي , ولا مغلطاي , ولا ابن حجر ولا من جاء قبلهم أو بعدهم قد استوعب في كتبه أو في مؤلفاته جميع من روى عن المترجَم له , أو جميع من روى عنه المترجَم له , فلا سبيل إلى ذلك في أغلب الرواة . وعليه , فإن الحكم على الرواية بالانقطاع بمجرد أن المزي , أو مغلطاي , أو غيرهما لم يذكرا أحدَ الراويين في ترجمة الآخر لا يصح , بل يمكن اعتبار ذلك قرينة ولكن بحذر شديد .

ومن الجدير بالذكر أيضاً أنَّ الحكم بالاتصال بين الراويين لا يمكن التعويل عليه بمجرد ورود عبارة : ( روى عن ) , و ( روى عنه ) بدون التصريح بالسماع ونحوه من صاحب الكتاب نفسه , أو من غيره , لأن هذه العبارات لا تفيد سوى إثبات ورود روايته عنه , إذ قد جرت عادة الأئمة أن يعبروا بالرواية عن الشخص ولا يريدون بذلك إثبات السماع والاتصال , فقد يكون روى عنه بالواسطة , في الإرسال , أو التدليس , أو ما شابه ذلك ... 

ومن ذلك قول الإمام أحمد حين سأله أبو داود : ( عامر بن مسعود القرشي له صحبة ؟ قال : لا أدري , قد روى عن النبي ) (2) . وقال ابن المديني : (لم يسمع أبو قلابة من هشام بن عامر , وروى عنه ) (3) .

ومثل ذلك يقال أيضاً في عبارة ( حدث عن ) , ( وحدث عنه ) , فقد يطلقونها ويريدون بها التحديث بواسطة , ومن ذلك قول الإمام أحمد في خالد الحذاء : حدث عن الشعبي , وما أراه سمع منه (4) .

فَجَعْل قول المزي وغيره ( روى عن ) , أو ( حدث عن ) , وغير ذلك من الصيغ الشبيهة على أنه يريد مجرد الرواية , وقد تكون متصلة أو منقطعة , أولى , ما لم يقم دليل على خلاف ذلك , بل يُجعل قوله هذا قرينة على الاتصال فقط لا أكثر , ومما يدل على ذلك , أن المزي نفسه قد يعقب ذكر بعضهم بقوله : ( لم يدركه ) , أو ( مرسلاً ) , أو ( يقال : مرسل ) , ونحو ذلك . وتقوى هذه القرينة _ قرينة الاتصال _ إذا كان صاحب الكتاب عرف عنه بالاستقراء حرصه على ذكر من سمع منهم المترجَم له , ومن سمعوا منه , وذلك مثل الجرح والتعديل لابن أبي حاتم , وغيره .

وأما استخدامهم لعبارة ( روى عن فلان ) , ( وروى عنه فلان ) في المتصل فكثير جداً , ولا يحتاج للتمثيل .

الطريقة الثانية : كلام أئمة النقد في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه نفياً وإثباتاً , كالمراسيل لابن أبي حاتم , وتهذيب الكمال للمزي , وجامع التحصيل للعلائي ... وكذا كتب العلل والسؤالات وغيرها ...

وأعلى من ذلك نص الراوي نفسه على أنه لم يسمع ممن روى عنه . ومثاله : قول عبد الملك بن ميسرة : ( قلت للضحاك : سمعت من ابن عباس شيئاً ؟ قال : لا , قلت : فهذا الذي تحدث به ؟ قال : عنك , وعن ذا , وعن ذا ) (5) 

ويلي ذلك أحكام أئمة النقد بأن فلاناً سمع من فلان أو لم يسمع منه , كقول ابن المديني : ( إبراهيم النخعي لم يلق أحداً من أصحاب النبي  ... وقد رأى أبا جحيفة , وزيد بن أرقم , وابن أبي أوفى ولم يسمع منهم )(6). 

وأمثلة ذلك كثيرة جداً ... وعلى هذا : فكل ما يأتي عن إبراهيم النخعي من روايته عن أحد الصحابة فهو منقطع .

ويشبه هذا ما إذا نص إمام على من سمع منهم الراوي ونفى من عداه , كقول ابن المديني : ( لم يلق القاسم بن عبد الرحمن من أصحاب النبي غير جابر بن سمرة )(7). اهـ

أما إذا لم نجد نصاً لأحد الأئمة , فيمكننا أن نعرف سماع الراوي ممن روى عنه أو عدم ذلك من خلال خطوتين :

الخطوة الأولى : أن نعرف أن هذا الراوي لم يدرك راوياً ولم يسمع منه , فمن باب أولى أن لا يدرك من مات قبله , ومثال ذلك : قول البخاري لما سأله الترمذي عن سماع أبي البَخْتَرِي من سلمان : ( ( لا ) , لم يدرك أبو البختري علياً , وسلمان مات قبل علي )(8).

وعلى هذه الخطوة عوَّل كثير من المتأخرين , كالذهبي , والعلائي , وابن حجر(9) , وغيرهم .

الخطوة الثانية : وهي عكس الأولى , وهي أن نعلم أن شخصاً لم يدرك آخر , فنستدل على أن من هو أصغر منه لم يدركه من باب أولى . كما في قول شعبة : ( كان أبو إسحاق أكبر من أبي البَخْتَرِي , لم يدرك أبو إسحاق علياً , ولم يره )(10) . ومراده : أن أبا البختري لم يدرك علياً , بدلالة أن أبا إسحاق _ وهو أكبر منه _ لم يدركه .

علماً أنه يجب علينا أن نُسَلِّم بإجماع العلماء على إدراك راو لآخر , أو نفي ذلك , وإن خالف كلامهم ما تقدم في الخطوتين السابقتين . وذلك كقول أبي حاتم الرازي : ( الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً , لا لأنه لم يدركه , قد أدركه , وأدرك من هو أكبر منه , ولكن لا يثبت له السماع منه , كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير , وهو قد سمع ممن هو أكبر منه , غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة )(11). اهـ

وكذا إذا صدر مثل هذا الحكم من إمام واحد , ما لم نجد له معارضاً من إمام آخر .

ولابد بالإضافة إلى كل ما تقدم من الجمع بين الأقوال المتعددة والمتعارضة للإمام الواحد , في إثبات السماع لراو من آخر , أو نفيه , وكذا التأكد من صحة هذا القول من ذاك , فقد يكون أحدهما صحيحاً والآخر خطأ (12) . 

وبما أن الأمر اجتهادي فقد يكون القولان صحيحين , بأن ترد عن الإمام روايتان متعارضتان , إحداهما بالسماع والأخرى بالنفي , فحينئذٍ قد يكون الإمام قد حكم للأولى بالسماع لقرائن ظهرت له , وحكم للأخرى بالنفي لقرائن أخرى , كما روي عن ابن معين في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود في روايته من أبيه , فقد روي عنه روايتان : الأولى بالسماع , والثانية بالنفي(13) . ومن هذا القبيل اختلاف الأئمة في عامر بن مسعود الجمحي هل هو صحابي أو تابعي ؟(14). فلا يكفي الوقوف على قول واحد لإمام بأول حكم له نقف عليه ...

وقد يكون الخلاف بين العلماء حقيقياً , ومثال ذلك : أن ينفي إمام صحبة راو ويريد بها الصحبة الخاصة , ويثبتها آخر ويريد بها ثبوت الرؤية , فمرد الخلاف حينئذٍ إلى الاختلاف في مصطلح الصحابي , ومن ذلك أيضاً : أن يثبت إمام لقي راو لآخر , ويريد به اللقي المجرد عن السماع , وينفيه آخر , ويريد به اللقي بمعنى السماع ... 

علماً أن ما يقول به الجمهور مقدم على ما يقول به واحد أو أكثر دونهم , حتى وإن ثبتت صحة الأقوال إلى قائليها _ الواحد أو الاثنين مقابل رأي الجمهور _ كما في سماع الحسن من أبي هريرة , فالجمهور على أنه لم يسمع منه , فالقول قول الجمهور وإن خالف في ذلك بعضهم(15).

وكذا الرأي الذي يقول به ثلاثة مقدم على ما ينفرد به واحد ... والقول الذي يجزم به إمام أقوى من الرأي الذي يقوله غيره وهو متردد ... وهكذا .

الطريقة الثالثة : النظر في دلائل ثبوت السماع أو نفيه , وذلك عند غياب الطريقتين السابقتين , وهذه الطريقة قد بنى عليها كثير من الأئمة أحكامهم في الاتصال والانقطاع .

وذلك من خلال السبر والتقسيم والموازنة بين الطرق , والتتبع لسير الرواة , ورحلاتهم , وولاداتهم ووفياتهم وكيفية رواية الراوي عن الشخص بعينه , وغير ذلك .

وغير خاف أن سماع الراوي ممن روى عنه مبني على إدراكه له , أي أن يكون ولد قبل وفاة من روى عنه , فمتى وجدنا أن الراوي ولد بعد وفاة من روى عنه حكم حينئذٍ بالانقطاع بينهما قطعاً .

ويلتحق بذلك ما إذا أدرك من عمره شيئاً يسيراً , كأن يكون ولد قبل وفاته بسنوات قليلة , فالحكم حينئذٍ الانقطاع أيضاً , ومن هنا اهتم العلماء بتحديد ولادة الراوي , ووفاته , ووفاة من روى عنه , وطبقاته , وطبقات من روى عنه , وتلامذته ... لما لذلك من دور كبير في الحكم على الرواة بالسماع , أو عدمه من خلال ذلك .

بالإضافة إلى قرائن أخرى تستخدم كثيراً في ترجيح أو نفي السماع , بعد ترجيح الإدراك والمعاصرة .

فمن هذه القرائن : اختلاف مكان الراويين , ولا رحلة لأحدهما إلى مكان الآخر حال وجوده فيه , وتتأكد هذه القرينة مع صغر سن الراوي حين وفاة من روى عنه .

وفي هذا يقول ابن رجب الحنبلي : ( ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال : أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قد رحل إلى بلد كان الراوي عنه فيه . قال : نقل مهنا عن أحمد قال : ( لم يسمع زُرارة بن أوفى من تميم الداري ، تميم بالشام وزرارة بصري ) . وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء : ( قد أدركه ، ولا أظنه سمع منه ، ذاك بالشام وهذا بالبصرة ) . وقال ابن المديني : ( لم 

يسمع الحسن من الضحاك بن قيس ، كان الضحاك يكون بالبوادي ) )(16). اهـ

ومن القرائن أيضاً : أن يروي الراوي عن شخص ثم يروي عنه بواسطة .

يقول ابن رجب الحنبلي : ( فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً _ ولم يثبت لقيه له _ ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة , فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه . قال أحمد : ( البهي ما أُراه سمع من عائشة ، إنما يروي عن عروة عن عائشة . قال : وفي حديث زائدة عن السدي عن البهي قال : حدثتني عائشة . قال : وكان ابن 

مهدي سمعه من زائدة ، وكان يدع منه ( حدثتني عائشة ) ، ينكره )(17). اهـ 

إلى غير ذلك من الطرق والخطوات والقرائن الأخرى ...

===-

( 1) انظر : الاتصال والانقطاع , لإبراهيم اللاحم : 51 _ 93 , والنكت , للزركشي : 169 _ 170.

(2) سؤالات أبي داوود : 184 . وانظر للفائدة : 208 , من المرجع نفسه .

(3) المراسيل لابن أبي حاتم : 109 . وانظر للفائدة في أمثلة ذلك : 46 , 84 , 153 , 131 , 170 , 168 , 161 , 215 , 216 , 224 , 226 , 298 , من المرجع نفسه .

(4) المراسيل , لابن أبي حاتم : 54 . وانظر : 78 , فقرة : ( 281 ) . و : 231 , فقرة : ( 863 ) ...

(5)المراسيل : 95 , والجرح والتعديل : 3 / 459 , 8 / 333 . وانظر للفائدة : المراسيل : 58 , 154 , والكامل : 1 / 86

(6) العلل , لعلي بن المديني : 65 , والمراسيل , لابن أبي حاتم : 9

(7) العلل , لعلي بن المديني : 63 , والمراسيل : 175

(8) العلل الكبير : 2 / 964 .

(9) انظر : سير أعلام النبلاء : 5 / 353 , وجامع التحصيل : 332 , وتهذيب التهذيب : 9 / 474 , 3 / 159 , 7 / 436 .

(10) المراسيل لابن أبي حاتم : 74 , 76 , والجرح والتعديل : 1 / 131 .

(11) المراسيل : 192 رقم : ( 703 ) , وشرح علل الترمذي : 1 / 368 .

(12) وذلك مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناده إلى بهز بن أسد , أنه قال في الحسن البصري : ( لم يسمع من عمران بن حصين شيئاً ) . 

( المراسيل : 38 ) . ثم أخرج فيما ثبت للحسن البصري سماعه من أصحاب رسول الله  بالإسناد نفسه , عن بهز قوله : ( وسمع من عمران ابن حصين شيئاً !! ) . ( المراسيل : 45 ) .

(13) تاريخ الدوري عن ابن معين : 2 / 351 , وتهذيب الكمال : 17 / 240 .

(14) انظر : جامع التحصيل : 205 , رقم 325 . ونحو ذلك كثير في جامع التحصيل , وسؤالات أبي داوود , والكامل , والمجروحين ...

(15) انظر : العلل لابن المديني : 57 , والمراسيل , لابن أبي حاتم : 34 , وتهذيب التهذيب : 2 / 267 , ومعرفة الرجال , لابن معين : 1 / 128 , وعلوم ابن الصلاح : 133 , وجامع التحصيل : 114 .

(16) شرح علل الترمذي : 1 / 368 . وانظر : العلل لابن المديني : 55 , والمراسيل لابن أبي حاتم : 33 .

(17) شرح علل الترمذي : 1 / 368 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين