الصبر على متاعب طلب العلم

ومن أدب المتعلم في الإسلام: أن يُوطِّن نفسه على احتمال المتاعب، ومواصلة عناء النهار بسهر الليل، والصبر على مَشاقِّ الارتحال في طلب العلم. ولا يخفي على طالب علم ما ذكره القرآن العظيم، وما نَوَّه به الرسول الكريم من أمر موسى كليم الله، ومُصْطفاه عليه السلام، وارتحاله في طلب العلم عند عبد الله المعروف بـ "الخضِر" عليه السلام:[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا] {الكهف:60} ، وقطع هو وفتاه ما قطَعَا من مفاوز، ومسافات لا يعلم طولها إلا الله تعالى، كان من أثرها ما عبَّر عنه موسى بقوله لفتاه:[فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا] {الكهف:62} ([1]) . وكان ما كان من عودتهما مرة أخرى قافلين إلى الموضع المنشود للقاء.

 

وقال ابن عباس: طلبت العلم، فلم أجده أكثر منه في الأنصار، فكنت آتي الرجل فأسأل عنه: فيقال لي: نائم، فأتوسَّد ردائي، ثم اضْطجع حتى يخرج إلى الظهر، فيقول: متى كنت ههنا يا ابنَ عمِّ رسول الله، فيقول: منذ زمن طويل فيقول: بئسما صنعت، هلا أعلمتني؟ فأقول: أردتُ أن تخرج إليّ وقد قضيت حاجتك"([2]).

 

وكان ابن عباس يقول: ذللت طالباً، فعززت مطلوباً[3].

 

وذكر ابن عبد البر وغيره: أنَّ أبا أيوب الأنصاري رحل من المدينة إلى مصر ليسمع من عقبةَ بن عامر حديثاً سمعه من النبيِّ r في ستر المسلم على المسلم، فلما سمعه منه أتى أبو أيوب راحلته فركبها وانصرف إلى المدينة، وما حلَّ رَحْله([4]).

 

ونحو هذا حدث لجابر بن عبد الله الأنصاري، فقد رحل مسيرةَ شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد([5]).

 

وقال سعيد بن المسبب: إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد[6]. 

 

وحدَّث الشعبي رجلاً بحديث، ثم قال له: خذها بغير شيء، وقد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة، (وكان الشعبيُّ بالكوفة بالعراق)[7].

 

وقال الشعبي: لو أنَّ رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة، ما رأيت أن سفره قد ضاع([8]).

 

ورحلات المسلمين وبخاصَّة علماء الحديث في طلب العلم لا يعرف التاريخ لها نظيراً. ومن طالع رحلات الأئمة مثل الشافعي، وابن حنبل، والبخاري، ومسلم وغيرهم، عرف مبلغ ما عاناه هؤلاء الفحول في طلب العلم.

 

لقد بذلوا في طلبه النومَ بالليل والراحةَ بالنهار، وتحمَّلوا الشظف والفقر في سبيله غير ضَجِرين ولا متبرمين. فقد تلقَوا عن شيوخهم هذه الحكمة: لا يُنال العلم براحة الجسم.

 

 وكان الإمام مالك يقول: إنَّ هذا الأمر لن يُنال حتى يذاق فيه طعم الفقر، وذكر ما نزل بربيعة من الفقر في طلب العلم، حتى باع خشبَ سقفِ بيته، وحتى كان يأكل ما يلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر!.

 

وقال شعبة لأصحابه: ليبلغ الشاهدُ منكم الغائب: من ألحَّ في طلب العلم – أو قال في طلب الحديث – أورثه الفقر.

 

وقال سُحنون: لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع([9]).

 

وليس المهم في طلب العلم محض تعب البدن، بل أهم منه تفريغ القلب له بالتقليل من شواغل الدنيا الماديَّة، وصوارف الحياة الاجتماعيَّة، فإن العلائق شاغله وصارفة. وقد قال تعالى [مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] {الأحزاب:4}.

 

ومهما توَّزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق، ولذلك قالوا: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيَه كلك، فإذا أعطيتَه كلك فأنت من إعطائه إيَّاك بعضه على خطر.

 

قال الغزالي: والفكرة المتوزِّعة على أمور متفرقة كجدول تفرَّق ماؤه، فنشفَّت الأرض بعضه، واختطف الهواء بعضه، فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع[10].

 

فهذه نظرتهم للعلم، وهذه كانت حياتهم في طلبه. وكانوا قريري العين بها، فإنَّ لذة معرفة الحقيقة تُنسي مشقَّة الحصول عليها. وقد قيل لأحد العلماء: فيم لذتك، فأجاب: في حُجَّة تتبختر اتِّضاحاً، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً!.

 

ومن الصبر المحمود، والمطلوب لطالب العلم: أن يصبر على أستاذه، ويحتمل شدَّته إن كان شديداً، وغضبَه إن كان غضوباً، ويحترم صمته فيما لا يُحب الكلام فيه.

 

 وخير مثل لذلك هو صبر موسى على الخضر عليهما السلام: [قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا(70) ]. {الكهف}.

 

فهذا صبرٌ أشدُّ من الصبر على نَصَب الأسفار، ومتاعب الفقر والارتحال، ولهذا صبر موسى على النَّصب في سفره الطويل، ولم يطل صبره على هذا الأخير، وقال له الخضر: [قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا] {الكهف:78}.

 

من كتاب : الرسول والعلم 

------------

([1]) القصة في سورة الكهف. وجاءت في الحديث المتفق عليه: متفق عليه: رواه البخاري في العلم (74)، ومسلم في الفضائل (2380)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

([2]) رواه الدارمي في المقدمة (585).

[3] - جامع بيان العلم (756).

([4]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (567).

([5]) رواه أحمد (16042) وقال مخرجوه: إسناده حسن، والبخاري في الأدب المفرد في السلام والمصافحة (970)، والحاكم في التفسير (2/ 437 - 438)، وصحَّح إسناده ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 625): رواه أحمد ورجاله وثقوا ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (570).

[6] - رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (569).

[7] - متفق عليه: رواه البخاري في العلم (97)، ومسلم في الإيمان (154).

([8]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/313).

([9]) ذكر هذه الآثار ابن عبد البر في: جامع بيان العلم، باب الحض على استدامة الطلب والصبر على الأذى والنصب.

[10] - الإحياء (1/50) . والمزدرع: موضع الزرع. 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين