الشيخ عبد العزيز بن جبر أبا زيد : مفتي درعا ومؤسس الحركة الإسلامية فيها

تمهيد :

 

مدينة درعا لها جذر عتيد في التاريخ , تغزل بها الشاعر امرؤ القيس , وكانت تسمى أذرعات ، وقام الأتراك بتغيير مسماها إلى درعا ,وبعد زوال السيطرة العثمانية عن سوريا بصفة عامة عاد مجتمع حوران لاستخدام اسمها العتيد ولكن بتعبير جديد هو ( ذرعات ) ، وبقيت هذه التسمية تتردد عند جيل السرتفيكا لحين ودعت حوران طابع حياة الأنماط الريفية، وولجت عصر المدينة والمدنية , وبات هذا المكان مركزاً لمحافظة تعرف بدرعا ولمجتمع يعرف بحوران , تقع درعا في الحد الزاوي الضيق  الفاصل بين الأردن وسوريا  وهذا يعكس خطأ في اتفاقية تقسيم الدول سياسيا لسايكس وبيكو ,التي استولدت عالم جديد هو الدول العربية ,تتألف درعا من مضلعات طبيعية متموجة مشقوقة بوادي جرفي ينتصب على جانب منه مرتفع مزدان بأشجار وشجيرات  يبدو جبلاً بارتفاع نسبي ,  ومن أحد بيوتات هذا المرتفع المأهول بقصص الحياة نشأ شيخنا عالم حوران الراحل الفقيد الشيخ عبدالعزيز أبا زيد, مفتي عموم محافظتي درعا والسويداء, وقد ارتبطت سيرة الفقيد بمآثر جليلة القدر عن شخصيته المنهجية في استصدار الفتوى وتكييفها شرعاً, ولأجل ذلك ينبغي علينا تحديد معالم منهجه في تأصيل الأدلة الشرعية اللازمة لتحقيق مناط الفتوى مع الوقائع والنوازل .

 

إن مجتمع حوران بصفة عامة يتبع في أصوله السلالية العربية السلالات الجنوبية والحجازية بشكل خاص , لكن تاريخ حوران الاجتماعي والديني كان تاريخا دمشقيا ,فمن نوى التحق أحد أطفالها يوما ما بمدارس دمشق الدينية العلمية ليصبح فيما بعد الرجل الذي تضافرت الآراء على إمامته ألا وهو الإمام النووي عمدة الفقهاء والمحدثين ومحرر مذهب الشافعية من قوليه القديم والجديد وإمام الترجيح بين الأدلة المختلف فيها شرعاً ومن مدينة إزرع يخرج من أبنائها شاب يتعلم في دمشق ليصبح فيما بعد الإمام ابن القيم الجوزية الدمشقي  , ومن بصرى الشام يخرج من أبنائها شاب آخر يتعلم في مدارس دمشق ويصبح فيما بعد الحافظ المؤرخ المفسر ابن كثير الدمسقي , ومن الصنمين يخرج من أبنائها ابن أبي العز الحنفي الدمشقي شارح العقيدة الطحاوية , ومن الشيخ مسكين يخرج الفقيه الشافعي أبو بكر الحصني الدمشقي مؤلف كتاب كفاية الأخيار .

 

لكن نصيب درعا جاء متأخراً في تاريخ حوران الديني العلمي لحين ذهب عبد العزيز جبر أبا زيد طفلاً لإحدى مدارس دمشق في حي السادات تلميذاً لعالم الشام وقتذاك الشيخ علي الدقر والشيخ بدرالدين الحسني الدمشقي ,وإذا كان الأئمة ابن كثير وابن القيم وهما متعاصران في الطبقة العلمية وكان ابن أبي العز وابو بكر الحصني قد التزموا البقاء حتى الممات فإن شيخنا عبدالعزيز أبا زيد كان بإمكانه البقاء لكنه عاد لأهل حوران عالماً ثم مدرساً ثم مفتياً .

 

وهو بذلك سار على طريقة الإمام النووي رحمه الله .

 

انطلاقا من هذه الشواهد الآوابد يتبين لنا بأن حوران كانت على مر الدهر جزءاً من الحركة العلمية الدينية الدمشقية وأن إنسانها قادر على الإبداع والتميز , والحمد لله فإن حوران قدمت لشعبها العربي السوري قيادات عسكرية وسياسية وعلماء ورجال أعمال وكل هؤلاء يستنسخ فيهم الزمان إبداع الامام النووي والامام ابن القيم والحافظ ابن كثير وما كان شيخنا عبد العزيز أبا زيد إلا حلقة في سلسلة العطاء والتميز التي لن تنتهي ولن تتوقف.

 

كان الشيخ عبد العزيز أبا زيد من العلماء العاملين الذين بذلوا أكثر من خمسين عاماً فـــي الخطابة والتدريس الديني والوعظ والإرشــــاد والفتوى ، وساهم مساهمة فعالة في بناء أكثر مســـاجد مدينة درعا بالإضافة إلى المدرسة الشرعية ، وتأسيس الحركة الإسلامية فيها .

 

المولد والنشأة :

 

في عام 1910 ولد الشيخ عبد العزيز أبا زيد في مدينة درعا البلد، فنشأ فيها نشأة طيبة في أسرة كريمة , حيث قضى بها طفولته، فنشأ في بيئة زراعية ، وهي إلى الريف أقرب في تلك الفترة أي قبل مائة عام تقريباً ومن أسرة معروفة في منطقة حوران وما جاورها، وعاش بساطة الحياة التي ساهمت في صقل شخصيته القوية والمتسامحة حيث عمل كأبناء جيله في رعاية الأغنام كما عمل في الزراعة كما كان يسافر من درعا إلى دمشق والكسوة على الجمل حاملاً محاصيل القمح والشعير .

 

حديثه عن طفولته وذكرياته :

 

تحدث الشيخ عبد العزيز عن طفولته فقال: (( كنت طفلاً في العاشرة من عمري لما دَخَلت قوات الشريف فيصل بن الحسين إلى درعا تُساندها القوات البريطانية ، متَّجهةٌ إلى احتلال دمشق، كان يَحزُّ في نفسي أن تسير القوات البريطانية بجانب الجنود العرب المرافقين لفيصل، ضد العثمانيين المسلمين، والذين حافظوا على وحدة هذه الأمة طيلة 400سنة.

 

تفرقنا من بعدهم أيدي سبأ، فشكَّلُوا لنا دولاً، ورسموا لنا حدوداً، وكوَّنوا لنا عَلَماً ونشيداً ، ثم بطاقات وجوازات سفر.

 

كان يقولها بحرارة وحرقة أن يرى الجنود العثمانيين مُجَندلين قتلى بأيدي إخوانهم العرب وبتوجيهٍ من الأجنبي.

 

رحلته إلى الحج :

 

تحدث الشيخ عبد العزيز عن رحلته إلى الحج عام 1360 هـ ـ1941م، على الإبل ، وقال: خرجنا من درعا في بداية شوال بُعيد عيد الفطر، سرنا جنوباً لم نحمل معنا لا جوازات سفر ولا تأشيرة حج ولا بطاقة شخصية، ولم نكن نعرفها أصلاً، وسرنا في البادية وتُهنا أكثر من مرة في الصحراء، ولم نَهتد للطريق إلا بأعمدة التِّلغراف التي كانت منصوبة في الصحراء من الأستانة إلى دمشق فالمدينة المنورة وحتى مناطق اليمن الجنوبية، وهذه من أَثار بني عثمان، والتي قطع أسلاكها وأحرق أعمدتها المناضلون العرب، وفَجَّروا العَبَّارات والجسُور التي كانت تسير عليها القطارات من دمشق إلى المدينة المنورة.

 

كنت صغيراً أجلس مع الكبار، وأسمع منهم أحاديث في السياسة لكن لم أكن أعي تفاصيلها.

 

معاصرته لرسم حدود سايكس بيكو:

 

ويتابع ذكرياته قائلاً : « كانوا يتحدثون أنَّ حدوداً قد رُسمت، وأن درعا قد دخلت ضمن دولة اسمها سوريا، ورسموا لها حدوداً: من رسمها كيف... لماذا...؟!!

 

أسئلة لم أكن أجد لها تفسيراً في حينها.

 

وأن الرمثا القريبة منَّا قد أصبحت ضمن دولة اسمها شرق الأردن، وما كنت أعلم أن التلال القريبة منا ستصبح يوماً حدوداً حديدية بيننا وبين أبناء عُمُومَتنا وأقاربنا؟!!.

 

من أسقط هذه الحدود من رسمها كيف قَبِل العقلاء من بني قومنا هذا.. لست أدري .

 

دراسته ومراحل تعليمه :

 

أما عن تحصيله العلمي فبدأ بدراسته في عام 1922في مدرسة نموذج درعا والتي كانت المدرسة الوحيدة في المحافظة في تلك الفترة حيث مكث في الصف الأول لمدة 7 أيام أظهر خلالها تفوقه بالإملاء والحساب، فتم ترفيعه إلى الصف الثاني حيث كان قد تبقى لنهاية العام 53 يوم انتقل بعدها للصف الثالث، وتابع حتى حصل على الصف السادس في عام 1926 ، وفي عام 1927ذهب إلى مدرسة الزراعة في السلمية حيث كانت له ميول زراعية ولكن طلبه بالانتساب قوبل بالرفض حيث كان سنه 9 سنوات (سجل في النفوس سنة 1918) ولكنه أقام دعوى ، وصل على حكم قضائي بإعادة مواليده إلى 1910 ، ثم تبين فيما بعد أنه ولد بين أواخر عام 1912 وأوائل عام 1913 ثم وبعد أن عدل مواليده تبين أنه كان لابد له من الحصول على الصف الأول الثانوي، ولكنه لم ييأس، وحاول خلال 20 يوم أن يحصل الصفوف من السابع وحتى العاشر حيث باءت المحاولة بالفشل ولكنها عكست إصراره وطموحه ، ثم ذهب للعمل في السرايا من خلال كتابة الأوراق ومراجعتها للناس .

 

ثم تهيأت الفرصة لطلب العلم الشرعي من خلال بعض الطلاب الذين كانوا يأتون من الأردن، فيمرون في درعا، وكانوا يقدمون بعض دروس العلم، فكان يجلس معهم وهنا ظهرت رغبته في طلب العلم الشرعي، فغادر إلى دمشق عام 1929 فمكث عدة أيام في مدرسة العداس، ثم انتقل إلى مدرسة السليمانية (المتحف الحربي حالياً) وذلك بناء على أمر الشيخ بدر الدين الحسني .

 

وفي دمشق نهل الطالب عبد العزيز علوم الشريعة الإسلامية على يد شيخ جليل وعالم نبيل ( الشيخ علي الدقر ) رحمه الله تعالى , وكان ذلك في جامع السادات المعروف أول سوق مدحت باشا .

 

وهناك انكب الشيخ على دراسة العلم الشرعي دراسة مستفيضة , ناهلاً من معين أساتذته ومشايخه ( كالشيخ علي الدقر ) مزاحماً العلماء في مجالسهم "حيث كان يحضر مجالس العلم , كدرس الشيخ بدر الدين الحسني , محدث دمشق وفقيهها " . جاداً في الاستزادة والتحصيل , مداوماً على الجد والمذاكرة , حتى أتم بذلك سبع سنين كلف بعدها بالتعليم مدة ثلاث سنوات فأتم بذلك عشر سنين حصل بعدها على إجازة في التعليم والتدريس من الشيخ علي الدقر - رحمه الله تعالى.

 

مواجهة مع الفرنسيين :

 

عانى الشيخ الأمرين هو وبقية الطلاب من الصدامات مع الشرطة ومدير الأوقاف وفي عام 1933 خرج الجيش الفرنسي من أحد المدارس الحربية، فتم نقل بعض الطلاب إليها وهناك حصلت مواجهة بين الطلاب والشرطة نظراً لوجود سينما بجانب المدرسة حاول القائمون عليها توسيعها على حساب المدرسة فهب الشيخ عبد العزيز ورفاقه لنصرة أصدقائهم من طلبة العلم، وبنوا جداراً بين المدرسة والسينما، وكان الشيخ يغادر مع أصدقائه إلى القرى أثناء شهر رمضان للقيام بدروس للوعظ

 

رغبته في الاستقرار في دمشق :

 

واستمر الشيخ عبد العزيز على هذه الحال في طلب العلم حتى عام 1939 ، ثم عرض عليه الذهاب إلى درعا، فرفض ولكن اصرار مشايخه عليه دفعه للقبول على مضض حيث كان يريد البقاء في دمشق لطلب المزيد من العلم الشرعي .

 

 فقد حاول الشيخ عبد العزيز أبا زيد أن يستقر في دمشق حيث الجو العلمي والعلماء والبحوث والمحاضرات وطلبة العلم والمكتبات والمخطوطات ، لكن الشيخ علي الدقر أصرَّ عليه بالعودة إلى بلدته درعا .. للحاجة إلى وجود علماء مثله ليقوموا بالتعليم والدعوة والتوجيه والإصلاح في حوران .. وقال له لما رأى رغبته بالبقاء في دمشق : " لن أكون راضياً عنك إذا لم تعد إلى حوران ، وأنا أعلمُ مناطق بلاد الشام وأريافها أنها بحاجة إلى أمثالكم ".

 

مواصلة الجهاد :

 

انتقل الشيخ من ميدان التعليم في دمشق إلى ميدان الجهاد في درعا ، وفي عام 1941 دخل الجيش الفرنسي والذي كان ضد الفرنسيين الموجودين في درعا أي بين الديغوليين والفاشيين حيث اضطر الشيخ عبد العزيز للانتقال للعيش في المحطة، وبقي فيها 4 سنوات حيث عاش فيها في بيت بسيط لم يكن يقيه من الأمطار حيث دائما ما كانت تجرف أرض المنزل معها والتي كانت من الطين والتبن .

 

جهوده في التعليم :

 

عاد الشيخ إلى درعا حاملاً علومه في قلبه جاعلاً منها منارة يستضيئ بها في ظلمات الحياة, ليبصر بها من حوله أحكام الإسلام ونظمه وليفتح عيوناً عمياً وآذاناً صماً على دين الله تعالى، وسلك إلى ذلك سبيل التعليم, فأخذ يدرس علوم الدين في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية العامة منها والخاصة, والزراعية والمعهد العربي الإسلامي والمعهد القومي والمعهد الأهلي كما تولى تدريس اللغة العربية و آدابها وعلومها منذ عام 1944م إلى عام 1969م .

 

الخطابة  والإمامة :

 

وبعد عودة الشيخ إلى درعا وبعد 8 شهور من وجوده في درعا وقع خلاف بين مجموعة من التجار، والشيخ صالح الحلبي إمام مسجد المحطة القديم وبسبب هذا الخلاف انتقل الشيخ عبد العزيز إلى مسجد المحطة بعد تلقيه لكتاب من المسؤولين في دمشق، وعندما أراد العودة رفض التجار، وأقنعوه أن يبقى كإمام ثانٍ في المسجد وذلك كله بهدف الإصلاح بين الطرفين وذلك في عام 1940 ، واستمر كذلك لمدة سنة و نصف. كما تولى أيضاً الخطابة والتدريس في مساجد درعا منذ عام 1944م إلى يوم وفاته رحمه الله.

 

واستمر الشيخ سائراً في طريقه صابراً على دعوته واضعاً نصب عينيه قول الله عز وجل : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }فصلت 33 .

 

جهاده ضد الاستعمار:

 

أما تاريخه الجهادي فلم يكن أقل من تاريخه العلمي حيث انضم إلى كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة في سورية ، وحين تكوّن الجيش الشعبي في عام 1945 وبعد أن اشتد ساعد أبناء درعا بدأ حركة قوية الدعوة للجهاد لإخراج المحتل .

 

جهاده في حرب فلسطين عام 1948م :

 

وفي عام 1948 أعلن الإمام مصطفى السباعي – رحمه الله – الجهاد المقدس في فلسطين ، وشكل الكتائب المجاهدة، واشترى السلاح ، وأقام معسكرات التدريب في قطنا .

 

وكان الشيخ عبد العزيز أبو زيد في تلك الأثناء يدور على القرى للتحريض على الجهاد في فلسطين ، وعندما تم تشكيل الفرقة التي أرادت الذهاب إلى فلسطين عندها أراد الشيخ أن يخرج معهم للجهاد رفض المحافظ السماح له بالخروج فأجهش بالبكاء بالرغم من كبر سنه عندها ، وكان يصبر نفسه، فيقول:

 

ألا بالصبر تبلغ ما تريدُ               وبالتقوى يلين لك الحديدُ

 

وكان دائم الحرص على نصح طلاب العلم بالصبر والتصبر، فيقول :

 

اصبر على مر الأذى من معلم        فإن رسوب العلم في نبغاته

ومن لم يذق ذل التعلم ساعة      تجرع كأس الجهل طول حياته

 

واستمر الشيخ في مسيرة التعليم والإصلاح .

 

سجنه عام 1967 :

 

تحدث الشيخ أمام مجموعة كبيرة في بيته يوم خروجه من السجن. وكانت قد اقتادته أجهزة المخابرات السورية في الشهر الأول من عام 1967، مع مجموعة كبيرة من علماء دمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقية ودير الزور إلى سجن المزة العسكري على إثر مقالٍ كتبه أحد السفهاء الملاحدة ( واسمه إبراهيم خلاص ) في مجلة      ( جيش البعث ) سخر فيه من الذات الإلهية، ومن الأديان، ووصف الله سبحانه وتعالى بـ(الدمية) تعالى الله عما يشركون، يومها صاح العلماء صيحة واحدة انتصاراً للحق والدين وردعاً لكل بذيء على عقيدة الأمة، التي صانت، وحفظت تاريخ هذه الأمة أمام غزوات الفرنجة الصليبيين والمغول والصفويين، وكان من جملة الذين اعتقلوا من أبناء الحركة الإسلامية الأستاذ أحمد بنقسلي ، والشيخ مصطفى البيراوي ، والكثير من شباب الإخوان ودعاتهم .

 

ولم يفرج عن هؤلاء العلماء إلا في يوم 11/حزيران/1967، يومها سقطت محافظة الجولان كاملة بيد يهود.

 

قال الشيخ:

 

((جَمَعَنا مدير سجن المزة العسكري في ساحة السجن قال لنا: والله إني خجول أن أرى هذه الوجوه الكريمة الطاهرة في المعتقل، وأنا نادم وغفرانكم، أُخرجوا فقد دخل العدو أرضنا ، ولكن بعد فوات الأوان، وقد أصبح المحتل على تخوم دمشق)).

 

معهد الإمام النووي للعلوم الشرعية :

 

وانطلاقاً من حرصة على انتشار علوم الإسلام في أرض حوران لتخرج العلماء العاملين كما خرجت من قبل ابن كثير، والنووي، وابن قيم الجوزية

 

وأمثالهم فقد قام الشيخ بإنشاء ثانوية شرعية للبنين بدرعا في عام 1984، وسماها ثانوية الإمام النووي تيمُّناً بهذا العالم الإمام العَلم، لتدريس علوم الشريعة الإسلامية ولتخريج الوعاظ والحفاظ والأئمة.

 

ثم افتتح الشيخ للثانوية ذاتها فرعاً آخر للبنات , لتكون ثانوية الإمام النووي بفرعيها رافدة المجتمع بالدعاة المخلصين , وبالعلماء العاملين , والعالمات العاملات الواعظات الذين سينهضون بالمجتمع، ويسيرون به في طريق السعادة المنشودة إن شاء الله .

 

الشيخ عبد العزيز أبو زيد : مفتياً :

 

وفي عام 1987م تولى الشيخ الإفتاء في محافظة درعا ، وكان له منهجه في الفتوى.

 

 وحتى نتمكن من تأصيل المنهجية الإفتائية لفقيد حوران الشيخ عبد العزيز أبا زيد ينبغي أن تتبلور الدراسة التأصيلية في إطار منهجي من المبادىء العلمية ومن ذلك بأن الفتوى تنقسم باعتبار المكان إلى قسمين :

 

الاول : فتوى الحال

 

والثاني : فتوى المذهب .

 

المقصود بفتوى الحال بأن المسلم لو كان شافعياً، ثم سافر لمكان يفتي بمذهب الحنابلة، واضطر للفتيا لزمه استفتاء الفقيه الحنبلي، ولو سافر لمكان يستفتي الأهلون فيه على مذهب الحنفية لزمه الاستفتاء وفق مذهب البلد الذي أقام فيه وبذلك نلاحظ بأن فتوى الحال متغيرة بتغير المكان ومقيدة بحدود إقامة المسلم بهذا المكان ,وأما فتوى المذهب فهي إلزام المستفتي بطلب الفتيا من فقهاء مكان إقامته الدائم  مثل حوران حيث المذهب السائد فيه هو الشافعية .

 

للفتوى مدارس منهجية خاصة بالفقهاء، وهي تتغير من زمن لآخر ومن مكان لآخر .

 

-المدرسة الأولى : مدرسة الإفتاء بالمذاهب، وقد أشرنا إليها ، وقد بدأت هذه المدرسة تنحسر لدرجة ما في ظل تنامي المنهجية السلفية إعلامياً .

 

المدرسة الثانية : مدرسة الإفتاء بأشد وأحوط الأقوال في المسألة وهذا يتطلب من الفقيه الاطلاع على مجمل الأقوال في المسألة من كافة المذاهب القائمة والمذاهب المندرسة المنقرضة .

 

المدرسة الثالثة : مدرسة الإفتاء بأيسر الأقوال وهي نقيض المدرسة الثانية ويجمع ما بين المدرستين الاولى والثانية عدم الالتزام بمذهب معين لكن هذا لا يعتبر من المنهجية السلفية في الإفتاء .

 

المدرسة الرابعة : المدرسة التلفيقية وهي تعود لنظرة الفقيه المفتي للسائل المستفتي فإذا رآه أرعنا متداعيا اجابه بقول متشدد وإذا رآه منكلا بنفسه أفتاه بقول لين هين .

 

المدرسة الخامسة : مدرسة مذهب الدليل وهي المدرسة السلفية ولكن هذه المدرسة انقسمت لاتجاهات تضاربت احيانا ومن هذه الاتجاهات :

 

الاتجاه الاول : الدوران بالدليل .

 

الاتجاه الثاني : الدوران في الدليل .

 

الاتجاه الثالث : الدوران مع الدليل .

 

المدرسة السادسة : مدرسة الافتاء من خلال لجنة ووفق هذه المدرسة ينتهي منصب المفتي ويصبح قرار الإفتاء ديمقراطيا حيث يجمع عدد من الفقهاء من مختلف المذهب مع إعطاء الاولوية للمذهب الرسمي في الدولة والمقرر بنصوص القانون المدني .

 

المدرسة السابعة : مدرسة الإفتاء بالخبراء والارتباطات الاستشارية المحلية والاقليمية والدولية وهذه المدرسة يعود فيها الامر لتعيين مفتي لكنه أشبه برئيس مجلس إدارة منه كمفتي ووفق هذه المدرسة يكون للمفتي علاقات مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات والنقابات والخبراء وكليات الشريعة والمجالس الاسلامية العالمية والاوساط الطبية والتكنيكية والوزارات فكل سؤال يرد يتم توزيعه من قبل المفتي الذي يحدد تصنيفه التخصصي وبعد مداولة الخبير المختص يتم تكييف الرأي الخبير شرعاً من خلال لجنة مؤلفة من رجلين أثنين على الأقل.

 

 الأول : أصولي ، والثاني:  فقيه متخصص بالمسألة .

 

المدرسة الثامنة : وهي مدرسة الحوزة الدينية والحركة وهي متبعة في الحوزات الدينية في العراق وإيران حيث يلتزم المفتي في مكان حوزوي (مدرسة دينية ) ويعمل تحت إشراف المرجع الديني عدد من الطلبة الحوزويين ويكون دور المرجع تقرير الاستفتاء بناء على بحث مقدم من الطلبة والذين يتقيدون بالرسالة العملية للمرجع الديني في إطار الإقليم والعرقية المحلية .

 

بعد هذه التقدمة يمكننا محاولة صياغة التأصيل للشيخ الفقيد عبدالعزيز أبا زيد :

 

 أولاً : فالشيخ رحمه الله انطلق أولاً من مبدأ أن المفتي ينبغي أن يحظى باحترام ومحبة المجتمع الذي يستفتيه وهو لأجل ذلك انصرف عن مطامع الدنيا، واشتغل في مراقبة الله عز وجل، وكان أمام حالات الفتيا القائمة على الخصومة والتنازع بسبب الطلاق أو الإرث يعمل أولاً على رأب الصدع وإعادة ربط المتنازعين برابطتهم الأسرية كعوائل وأفراد .

 

فاكتسب محبة المستفتين أولاً ولصفاء سريرته توهج وجهه بنور الإيمان النقي , من خلال دفع المشقة عن المستفتين , ولم تكن الفتوى بالنسبة له وظيفة حكومية مقيدة بساعات الدوام الرسمي بل كان كل مجلس له ينعقد للفتيا ملتمساً الأيسر فالأسهل ويصاحب ذلك عفاف وتقى دون تنازل عن حدود الحلال والحرام وبيان طريق الحق من خلال تثبت علمي دقيق دون تسرع أو خضوع لأي مؤثر شخصي أو رسمي .

 

ثانياً : في بعض الحالات التي كان يواجه فيها اضطراباً وتبايناً في كلام المتنازعين الحاضرين في مجلس الاستفتاء كان يطلب من المستفتي كتابة المسألة، ويطلب تنقيح المسألة من قبل السائل وذلك لأن بعض الناس قد يتغير كلامه في المجلس أكثر من مرة ومثل هذا الأسلوب من الشيخ يساهم في تحقيق مناط السؤال والمسألة ويساهم في تحقيق مناط الجواب بدقة ويمنع من التخالف بين ما هو مكتوب وبين الرواية الشفوية التي سيتناقلها المستفتين عندما يخرجون ويسهم هذا الأسلوب من قبل الشيخ بتحديد مقاصد المتنازعين وخاصة في مسائل الطلاق المتعدد بمجلس واحد أو في الملاعنة الزوجية .لذلك منعا لتغير السؤال وانقلاب مقصد المستفتي يطلب من الشيخ توثيق الموضوع وأحتفظ بأمثلة من عدة أسر في حوران حول هذا النهج

 

ثالثا : الشيخ عبد العزيز رحمه الله كان يصحح من قبل المراجعين والمستفتين له حالات الإفتاء غير المنظم وخاصة من قبل طلبة العلم خريجي كلية الشريعة بجامعة دمشق من أبناء محافظة درعا والمعاهد الدينية والفتاوي الواردة من دول الخليج وخاصة السعودية حيث إن بعض الناس عندما يضطر للفتوى يتعرض لاستفتاءات من داخل الحدود ومن خارجها وقد يقع باضطراب فكان الشيخ رحمه الله يعزل الفتاوى الواردة عن ذهنية المستفتي إشكالية الفتاوى غير المنظمة ويفرض معرفته الشرعية وكما يعلم الجميع بأن قضايا الأسرة والعلاقة الزوجية ذات النصيب الاكبر ومن بعدها مسائل الوصايا والتركات والوقف والرضاع وبسبب النمط الاقتصاد الوطني المخطط رأسيا في سوريا فإن المعاملات التجارية النقدية لم تشغل حيزا في طريقه كما هو الحال في الاوليغاركيات النقدية الخليجية وسيادة الشركات العائلية والقابضة فيها .

 

ربعا : إذا كان السؤال المستفتى به من العبادات فكان الجواب منه شفويا وعفويا كيف لاوهو من تلامذة الشيخ عبدالغني الدقر وبدرالدين الحسني دون أن يخشى عليه الخطأ رحمه الله ويكتفى هنا بأمانة السائل في نقل الفتوى وأما إذا كان السؤال مركباً من عدة معاملات فكان رحمه الله يقسم السؤال تقسيما تصنيفيا كأن يستعي احدها استشارة جهة متخصصة للتثبت من حقيقة المعطيات وخاصة في مسائل المواريث وذلك لحصر الذهن بالموضوع من كل جوانبه وخاصة أننا في حوران لدينا نفس طويل بتطور المشكلات فيما لو كانت المشكلة تتعلق بالنفقة، ونكص الزوج عن متعة المطلقة .

 

خامسا : أدخل الشيخ مبدأ توثيق الفتوى ضمن محضر رسمي في بعض الحالات وفهرسة وترقيم الفتوى لأنه يحتمل عودة المستفتي وخصومه في المعاملة المتنازع فيها لجانب جديد من المشكلة للتأكد من صحة الاقوال الجديدة ومطابقتها مع الأقوال القديمة ولاحتمال وفاة احد الشهود او الخصوم عند تعددهم

 

سادسا : الشيخ عبد العزيز رحمه الله كان مؤسس الفتوى المحلية الوطنية يعني أنه كان عند تحقيق مناط الفتوى يأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية المشروعة للشعب وخصائص العرف الاجتماعي في حوران وواقع الإنسان البسيط وظروف الحال المعيشية وهذه أهم سمة ميزت الشيخ رحمه الله .والشيخ رحمه الله كان يتميز بكفاءة علمية عالية في الفقه والأصول والتفسير والحديث والسيرة النبوية علاوة على فهمه لطبائع المجتمع في حوران حيث هم مجتمعه اولا  وكانت علاقته بأبناء حوران جميعا تسودها روح الإخوة والتشاركية دون حمل الإنسان المستفتي فوق حاجته من الفتوى واستيثاق أصحاب الدين في المحافظة ولأجل ذلك  ارتبط بشيخنا الفقيد العلامة البليغ حمدي العمري علامة الشيخ مسكين ومفتي منطقتي إزرع والصنمين ولم يكن رحمه الله يستفز المستفتي في نكارة ومهاترة ولم يمس خصوصيات السائلين إلا إذا كانت الخصوصية من أصل المشكلة كما لو ادعت الزوجة عنانة الزوج فكان رحمه الله أهلاً للإحاطة بكل الاحكام الشرعية .

 

سابعا :الفتوى عند الشيخ عبد العزيز أبا زيد رحمه الله كانت أمانة شرعية لا تخضع لتوجيه أو رغبة أي جهة، ولم يكن يخاطب أي جهة عن مضمون الفتوى من الجهات الرسمية وغير الرسمية فيما لو كانت بعض المسائل المرفوعة لمجلس تحاكم الاستفتاء تضمنت جنوحاً أو غلطاً من أحد الخصوم المترفعين فكان رحمه الله لديه من الأمانة والورع ما جعله خزانة أسرار الناس الذين وثقوا بشخصه الجليل .

 

مما سبق نستخلص بعض سمات منهجية الشيخ الفقيد عبد العزيز أبا زيد رحمه الله فهو كان يعتني بتحرير ألفاظ الفتيا وبالفعل هذه اكبر عقبة امام اي مفتي عندما يتحدث المستفتي بصيغة البناء للمجهول او يطلق كلامه إطلاقا لأجل تحديد الواقعة حتى يكون الجواب محدداً لأن الكلام إن كان مبهماً من قبل السائل قاد ذلك بالمفتي لقولين وإجابتين وخاصة بالفرائض التي يمنع فيها الطرح المجمل اللفظ ويستحسن وحكمته حتى يكون ادعى لانشراح صدر المستفتي وقيامه بواجب الطاعة والامتثال غن لم يكن في المقام سوى مفتيا واحدا وهذا ما كان عليه مفتي حوران الأول الشيخ عبد العزيز جبر أبا زيد –رحمه الله -.

 

 مشاركاته في المؤتمرات والندوات الإسلامية :

 

 ورغم انشغاله بالتدريس والدعوة والفتوى داخل المحافظة إلا أنه لم يكن بمنأى عن المشكلات التي يعانيها العالم الاسلامي.

 

فكان يشارك بالمؤتمرات والندوات الإسلامية التي تعقد بين الفينة والأخرى في المدن الإسلامية المختلفة فقد شارك في :

 

1- مؤتمر أوقاف الدول الإسلامية المنعقد في مكة المكرمة .

 

2-ومؤتمر الأديان في مدينة باكو عاصمة أذربيجان في الاتحاد السوفييتي السابق .   3-وندوة الفكر الإسلامي المنعقد في الجزائر .

 

4- ومؤتمر العالم الإسلامي في مكة المكرمة.

 

5- ومؤتمر العالم الإسلامي المنعقد في الكويت وذلك بدعوة من رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة .

 

6-كما شارك في مؤتمر وزراء أوقاف الدول الإسلامية المنعقد في اندونيسيا عام 1998م .

 

7-وملتقى الحوار بين الحضارات المنعقد في القاهرة عام 2001م .

 

هذا وإن للشيخ شهرة واسعة في الدول الشقيقة وقد تلقى دعوات عدة من قطر والإمارات العربية المتحدة لإلقاء محاضرات ودروس إسلامية خلال شهر رمضان المبارك بدءاً من عام 1983م و انتهاءً عام 2000م كان يبذل فيها جهده في سبيل الإصلاح والتعليم ولايضن بما لديه من نصح وإرشاد.

 

نشاطاته الاجتماعية :

 

لقد حرص الشيخ عبد العزيز منذ بداية حياته الاجتماعية يوم عاد من دمشق إلى درعا على إصلاح ذات البين بين القرى وبين العشائر، أهم شيء كان يحرص عليه هو التأليف بين العشائر، لأن الخلاف والتنازع حالقة الشعر كما ذكر رسول الله .

 

وبدأ بتأسيس وبناء المساجد وفي مختلف أحياء المدينة والقرى المجاورة، وذلك من تبرعات أهل الخير في دول الخليج العربية، وساهم في بناء مسجد المحطة الكبير بدرعا الذي يعرف بمسجد الشيخ عبد العزيز بعد وفاته .

 

 وكان تجار دمشق يعرفون صدقه وأمانته فكانوا يعطونه زكاة أموالهم ، فيوزعها على الأسر المحتاجة، وكان لديه قوائم طويلة بأسماء الفقراء والأسر المعوزة.

 

كان متواضعاً يراهُ الناس جميعاً كل يوم في المسجد، وفي السوق، وفي بيته، وبقي على مدار أكثر من ستين سنة يعطي دروساً في الفقه في مسجد الشيخ خليل في البلدة القديمة بدرعا ، ودروساً مستمرة لكتاب شرح ابن عقيل، وكتاب أوضح المسالك في بيته للطلبة والجامعيين منهم خاصَّة.

 

وكذلك قام الشيخ ببناء وتأسيس جمعية البر والخدمات الاجتماعية , لرعاية الأيتام والعجزة والمكفوفين ومكافحة التسول عام 1955م وبقي يرأس إدارتها منذ تأسيسها إلى يوم رحيله .

 

وفي زحمة المسؤوليات وكثرة المشاغل لم يتوان الشيخ عن فض النزاعات والخلافات التي تنشأ بين الناس بعيدهم وقريبهم , مقتفياً في ذلك سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم , وسير قضاة الإسلام على مر العصور فكم حقن من دماء وكم أمد من فتن حتى غدا بحق علماً يقصده القاصي والداني , طلباً للفتوى أو المشورة أو الإصلاح .

 

أخلاقه وصفاته :

 

ومن أهم ما ميز الشيخ رحمه الله تواضعه حيث لم يكن يعتقد بأنه أهل للتأليف أو اخراج الكتب أو الرسائل وكان يرى أن في نتاج الأولين الديني الكفاية إضافة إلى أنه لم يمتلك وقتاً للتأليف .

 

وكان الشيخ - رحمه الله - عبر حياته يحارب التقاليد والعادات البالية مثل التزويج بالإكراه وتزويج ابن العم لبنت العم وعدم توريث البنات وحتى وصلت الدعوة به إلى محاربة الأمثال الخاطئة من قبيل (انا واخوي على ابن عمي و انا وابن عمي عالغريب ) ، وكان من أجمل أقواله :

 

لقد أصبحت في هم وغم    من العادات في أبناء جنسي

وكدت أمرغ الخدين بؤسا     و واسفاه على اهلاك نفسي

يضيع العمر في أمر ونهي           وارشاد لإزالة كل لبس

ولكن العوائد محكمات          فلا تغيير في يومي وأمسي

ولا أرجو من الإصلاح شيئاً     إلا أن أوسد وسط رمسي

فكم فوق المنابر يعلو صوت     كما يعلو دوامي وقت درسي

و لكن النداء بوسط واد     كنفخ في رماد وسط رمسي