الشيخ الجليل الشاعر الدكتور إبراهيم محمد الحريري


بقلم: نبيل عز الدين زين العابدين

 

ولد الدكتور إبراهيم محمد الحريري، سنة( 1938 ) م لعائلة عريقة النسب، وهي عائلة الحريري في بسر الحرير في حوران، وترعرع فيها وأكمل دراسته الثانوية الشرعية في معهد الجمعية الغرّاء في دمشق، وبدأ مشواره الجامعي في جامعة دمشق، لكنّ المولى عَزّ في علاه، شاء لشيخنا أن ينتقل بعد السنة الأولى إلى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وبدأت رحلته العلمية الربانية بين علماء مكة وعلماء المدينة فأشرق في قلبه الشاعر نورهما.

 

انتقل بعدها إلى جامعة عين شمس في مصر ليتابع على أيدي علمائها رسالة الماجستير في العلم الشرعي، ذلك النور الذي شع في حوران، وتوهج في طيبة، وفاض في مصر ليسطع في السودان، حيث كان شيخنا يكمل رسالة الدكتوراه في جامعة أم درمان.

 

بين العلم والعمل:

بعد أن نال المرحوم شهادة الماجستير، عاد إلى سورية مدرساً ومربياً وخطيباً يأسر القلوب الكسيرة بحديثه، ثم ارتحل إلى الكويت وبقي هناك مدة خمسة عشر عاماً، فاختاره الله ليكون راعياً لشؤون أهله وأحبته هناك، فقام بها خير قيام ووطّد علاقته بعلماء وشرفاء الأمة في كل ركن من أركان المعمورة، حيث يذكر اسم الله وحده لا شريك له.

-بعد نيله لشهادة الدكتوراه غادر الكويت إلى المملكة العربية السعودية، فعمل مدرساً في جامعة الملك عبد العزيز، وألّف في الفقه والأصول والقضاء، وكان ضليعاً بنظام الاقتصاد في الإسلام، وشاعراً مطبوعاً، عيّن عالماً معتمداً في مجمع الفقه الإسلامي في جدة، وانتخب نائباً لرئيس رابطة علماء سورية.

 

الشيخ والوطن:

برغم القهر والإبعاد والحرمان من نسائم الوطن وترابه الشريف، بقي الشيخ عاملاً لدينه لا يقدم أرضاً على سماء، ولا يرضي مخلوقاً على حساب الخالق، ويقول في ذلك:

عقيدتي فوق شرفي لا أدنّسها   ..  مهما ادلهمتْ بي الأحداث والنذّرُ

لأجلها سوف أحيا العمْرَ محتسبا ..  ودونها ترخص الأوطان والعمُرُ

، وبدأت معانيه الحبيسة وتدفق حنينه لوطنه، وإلى بلدته شعراً

باكياً حيث يقول في قصيدة له:

يا بُسرُ مالك لا تبكين غربتنا        قد طال موعدنا يا بُسرُ ما الخبرُ؟

 

مرضه ورحيله:

أصيب الشيخ بمرض الموت في السنة الأخيرة في حياته، فكانت قواه تخور وأحاسيسه تثور، وكلما زاره زائر فاضت عليه عبرات الحنين والاشتياق إلى الشام وبسر وحوران التي أيقن أنه لن يراها في الدنيا , فقد طال الموعد واقترب الأجل، فأخذ ابنه الشاعر معتصم يرثيه قبل موته بقوله:

كأنّ بقـلـبه أوتــــار حــــزنٍ       يشــد حـبالـَها منه الوريدُ

وكأسٍ من دموع العين فاضت   ففاض الحب فيها والقصيدُ

أراد بها الحــياة فمات عشـــقاً   ليحــيا في مشـاعره الخلودُ

هنالك حيث لا عين الرزايا        تــراه ولا نضــــارته تبــيدُ

 

رحل الشيخ في الحادي عشر من أيلول (2013) م فإلى جنان الخلد يا شيخنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

 

رثاؤه:

-كان للشيخ مكانة طيبة عند كل من لقيهم  ومن عرفوه، لذلك فقد ترك رحيله أثراً كبيراً في نفوسهم، وقد رثا الفقيدَ كثيرٌ من إخوانه، منهم الدكتور محمد عادل شوك الذي يشير إلى رفعة خلق الشيخ فيقول: «الطريف في أمر لقائي الأول به، أنني كنتُ أسمع هذا الاسم يتردد في كثير من المجالس التي كنتُ أحضرها مع ثلَّة من الأحباب السوريين، ولا سيما الشيخ الوقور محمد شردوب، الذي كان أول من لقيني في حينها، وفتح لي قلبه قبل بيته، أقول : والطريف في أمر لقائي بالشيخ إبراهيم الحريري أنه بادرني بالسؤال عن ساعة قدومي إلى أبْها، ولمّا عرف أن الأمر كان منذ أشهر عدّة، اعتذرَ لي عن تأخره في لقائي، والتعرّف عليّ، علماً أنه لا سابق معرفة بذلك»!

 

 ويضيف الشيخ شوك «عرفتُ فيه الوسطية في التفكير والسلوك ؛ حيث كان يمقت التشدّد أيّاً كان مصدره وصاحبه، إنّه وسطي في رُآه السياسية، والتنظيمية والدينية والفكرية، بل المعاشية، لقد عرفتُ فيه مغالبة الصبر على الرزايا ؛ فلقد ابتُلي بالهجرة ؛ فصبر، وبالفاقة أحياناً فتجمّل، وبالنوازل تنزل بأمتنا، فكان ملجأ لإخوانه، وبفقد الأهل والأحباب، فاحتسب ذلك عند الله، وأخيراً بالمرض، فكان مثلاً في الرضا بقضاء الله وقدره، ممّا رأيت أقول : لقد أتعبت فرسَك يا أبا محمد، وآن لك أن تُخلِّي سبيلها، وحسبك أن ترقد الآن في جوار الله قرير العين هانيها».

 

ويقول عثمان شرف: «التقيت المرحوم برفقة الإعلامي عباس موسى، وقال لنا الدكتور إبراهيم رحمه الله أنه يتمنى الشهادة على ثرى بسر الحرير مسقط رأسه، كما يحب الاستشهاد، على ثرى سورية الحبيبة، فإن أدركته المنيّة خارج الوطن، حينها نظر إليّنا، وأشار إلى أهله الجالسين موصياً إياهم أن يدفنوه في أقرب نقطة من بُسر الحرير إن حالت الظروف دون دفنه فيها».

 

كما نعاه الشيخ محمد فاروق البطل، نائب الأمين العام لرابطة العلماء السوريين، فقال: «كان الأخ الشيخ الدكتور أبو محمد شاعرًاً مبدعًاً، وكان من ذريته شاعر شاب هو المعتصم إبراهيم الحريري، وكلاهما انتصر للإسلام .

 

نسـأل الله العلي القدير أن يرحم فقيدنا وأن يتقبله في الصالحين، ويسكنه فسيح جناته، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يرزقه شفاعة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

من كتاب: "أعلام حوران"، للأستاذ نبيل عز الدين زين العابدين.