في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل مجاهد شعبان رحمه الله

أُمسك القلم لأكتب عن الذكرى الثالثة والعشرين لوفاة الوالد رحمه الله، ونسميها ذكرى مع أنها حاضرة والشوق لمن فقدنا فيها قائم مستمر.

وعادة الذكريات أنها تغور في طيات النسيان إلا أن هذا اليوم تبقى ذكراه حازّة بالنفس، خصوصًا في زمان امتلأ بالأحداث والتقلبات التي يحتاج فيها الإنسان إلى مرشدٍ وأخٍ يعينه فيها على فتن الزمان.

فماذا أكتب عن والدي وفي كل يوم تتكشف لي قصص وحوادث معه لم أكن أعرفها أو أعلمها، فلا يمر وقت إلا وألتقي بشخص من معارف الوالد وأصدقائه له ذكرى وحادثة خاصة تربطه به، وكل واحد منهم يتحدث عنها وكأنه الأخ والحبيب القريب للوالد رحمه الله، وهذا يدل على سعة صدره وحسن علاقته مع شباب الأمة، وكذلك اتباعه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما وصف واصفوه أن كل صحابي كان يظن أنه الأقرب والأحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فأحدهم يذكر لي أن الوالد كان يعينه على شراء بيت عن طريق بعض أهل الخير من التجار، والآخر يذكر لي كيف أخرجه الوالد من طريق الشيوعية إلى طريق الهداية وكيف أقنعه بالعقل قبل النقل، وأقف هنا عند هذه النقطة لأذكر شيئًا آخر عن الوالد رحمه الله، أنه كان له اهتمام بالدلالات العقلية المنطقية وبعلوم العقل، مع اهتمامه وتفوقه في علوم النقل أيضًا، وبرأيي أنه تأثر بشيخه القريب والحبيب الشيخ العثماني عبد الرحمن زين العابدين رحمه الله، فقد قرأ معه علم المنطق والفلسفة على عادة المشايخ العثمانيين المهتمين بالمنطق والفلسفة، وأذكر أنه نقل عن شيخه عبد الرحمن أنه قال له عن كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي بعد قراءته معًا: لا يوجد أحد على الأرض الآن يستطيع أن يُقرِئ هذا الكتاب. ويقصد الشيخ قراءته على طريقة مشايخ الدولة العثمانية.

 

لذلك كان الوالد في محاوراته ونقاشاته يستخدم الأدلة العقلية المنطقية كثيرًا وخاصة مع من لا يفهم إلا بتلك اللغة من ضعيفي الإيمان أو قليلي الاطلاع على العلوم الشرعية، وهنا يعن في بالي حادثة تدل على ما ذكرته، فقد دعت مؤسسة تحديد النسل التابعة للأمم المتحدة المشايخ والخطباء في مدينة حلب لندوة علمية تُبين فيها أضرار زيادة النسل وتأثيره على البيئة والمجتمع، وذلك في عام 1994 أو 1995 لا أذكر متى بالضبط، وقد كنت وقتها طالبًا في الثانوية الشرعية في المرحلة الثانوية، وكان مكان الندوة مكتبة الثانوية الشرعية، ودُعي إليها عدد من العلماء والخطباء لمناقشة المسألة وتنبيه المجتمع عليها، وكان الوالد فيمن دعوا إليها.

 

فأذكر أن الوالد بدأ يجمع المقالات والأبحاث في المجلات العلمية المختلفة التي تتعلق بتحديد النسل والأمن الغذائي العالمي وتأثيره على عدد السكان، مع العلم أن ذلك الزمن لم يتوفر فيه انترنت ولا مواقع للبحث تختصر الوقت وتعين الباحث، فكان يبحث في المجلات ويسأل من حوله من الناس ليقرأ بقدر المستطاع عن الموضوع، طبعًا بالإضافة إلى قراءاته وتحضيراته من كتب التفسير والفقه وغيرها.

 

وفي يوم الندوة المذكورة حضر المشايخ والخطباء وأُلقيت المحاضرات عليهم، ولم نكن حاضرين الجلسة فقد كنا في دروسنا، فأذكر أن أحد الأساتذة خرج من الندوة ودخل صفنا فعندما رآني قال لي: والدك يا محمود أسكت الجميع. بمعنى أنه لم يترك لهم حجة. وبقيت هذه الجملة في بالي حتى المساء عندما عاد الوالد إلى البيت وجلسنا على سفرة الغداء بدأ يتحدث عن تلك الندوة، وكان من عادته رحمه الله أنه يحكي لنا ما مرّ به ذلك اليوم على الطعام، فقال أن مندوبو الأمم المتحدة حضروا وألقوا كلاماتهم عن زيادة النسل وتأثيره السلبي على الاستهلاك وتسببه في قلة الموارد الغذائية وغير ذلك من الكلام المادي المعروف، وطبعًا كانت نقاشات الحضور من المشايخ والخطباء كلها في سياق النقل وهذا ما لا يفهمه مندوبو الأمم المتحدة، فقام الوالد وبدأ يورد لهم الدراسات العلمية المنشورة في المجلات عن زيادة الإنتاج الزراعي والحيواني بسبب التطور في العلوم البشرية، وأن زيادة البشر قابله زيادة في الإنتاج وليس العكس، وأذكر مما قال: أن البقرة الهولندية الآن تأتي بمقدار من الحليب لم تكن تأتي به أي بقرة أخرى، وأن عدد البيض الذي ينتجه الدجاج في المداجن أضعاف البيض الذي تنتجه الدجاجة البلدية، وتحدث عن زيادة عدد السكان وزيادة اليد العاملة في الأراضي الزراعية، وتحدث عن إحصائيات عن الأراضي الزراعية غير المستثمرة بسبب قلة اليد العاملة، ثم انتقل بعد ذلك للناحية الشرعية ونقل النصوص التي تدل على أن الله تعالى يتولى أمر الرزق وأن على الإنسان السعي والعمل، وبحسب ما نُقل إلي فيما بعد أن القوم قد بُهتوا وحاروا جوابًا وانقلبت الورشة عليهم لا لهم، وأن المشايخ سعدوا بهذه النقول والأجوبة كثيرًا.

 

وكذلك أذكر أنني حضرت عدة مناقشات وحوارات بين الوالد وبعض طلبة العلم الذين يحملون بعض الأفكار المخالفة لإجماع العلماء، فكان الوالد يحاورهم بنفس أسلوبهم وطريقتهم المنطقية في الاستنتاج، ولكنهم إذا لمزوا بالعلماء السابقين فكان يحتدُّ ويعلو صوته وهو يأتي بالأدلة والأحداث التاريخية، وأذكر مرة أن أحد الناس لمز بالإمام أبي حنيفة وأنه كان يفتي بحسب الأحوال السياسية، فغضب الوالد وعلا صوته وهو يردّ هذه الفكرة، وأذكر مما قاله إن أبا حنيفة دخل مرة على الخليفة أظنه الرشيد ولم يجد مكانًا ليجلس فناداه الخليفة وقال: إذا لم تجد مكانًا فمكانك هنا عندي وضرب على فخذيه، وضرب الوالد على فخذيه بقوة أيضًا، وكان يدلل بذلك على مكانة العلماء عند الخلفاء وأولي الأمر.

 

وكان حاضر الجواب سريع البديهة، وهذا من سعة الاطلاع والقراءة، وملازمة الشيوخ، وقد نقل قصة مرة عن الشيخ عبد الفتاح رحمه الله أنه حاور شيوعيًا ينكر الخلق وينكر النقل والتواتر فقال له الشيخ في النهاية: أنت ابن مَن؟ فقال الشيوعي: ابن فلان. فرد الشيخ عبد الفتاح: لا أصدق ذلك فلا دليل عليه. وأنهى الجلسة.

 

وهذ قليل من كثير أذكره عن الوالد رحمه الله ورحم أساتذته وشيوخه وأخص منهم الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الإنطاكي التركي العثماني والشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحلبي الحنفي، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بهم في عليين.

وكتبه محمود نور الدين بن محمد مجاهد شعبان الشافعي الحلبي النُعيمي.

12 9- 2023

26 صفر 1445