الدين ما شرعه الله تعالى

الدين الإطاعة، ودين الله إطاعة الله، وهو معنى الإسلام والعبادة، والإطاعة تقتضي الأمر والنهي، فإذا أتى العبد ما أرشده الله إليه أطاعه، والإطاعة في أصلها تعبد لله تعالى، وإن كانت فيها مصالح ومنافع أخرى ولكنها غير مقصودة أصالة، يقول الإمام الشاطبي: "كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول". (المقدمة السابعة من الموافقات).

وإن تطبيق أوامر الله تعالى، والانتهاء عما نهى عنه هو دين الله تعالى الذي شرع لعباده، قال تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصىٰ به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسىٰ وعيسىٰ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب". (سورة الشورى الآية 42)، ونهى عن التفرق في شرعه، والتفرق ينشأ من الإعراض عما أوحى الله إلى أنبيائه واتباع الأهواء، ومن ثم أمر عند التنازع في شيء برده إلى الله وإلى رسوله، قال: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ۚ ذٰلك خير وأحسن تأويلا" (سورة النساء الآية 59).

وإن أحكام الله تعالى تستجيب لها الفطر السليمة وتنسجم معها العقول الصحيحة، فكل حكم من أحكامه مصدره الوحي مؤيدا بالبراهين الفطرية والعقلية، ولكن الفِطَر قد تفسد وتختل، والعقول قد تتعطل وتمتزج بها الأهواء بل قد تغلبها، فيتحتم تقديم النصوص الثابتة عليها تقديما لا مناص منه، يقول الشاطبي: "إذا تعاضد العقل والنقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل" (المقدمة العاشرة من الموافقات).

ثم إن مقاصد الشارع كثيرا ما تخفى على العباد لمعنى الابتلاء، ولمعان أخرى، فلا يدركونها حق الإدراك، ولقد أخطأ من ظن أن الشرع تابع لعقولنا، يقول الإمام ولي الله الدهلوي استنكارا لهولاء الظانين: "وأنه ليس الأمر على ما ظُن من أن حسن الأعمال وقبحها بمعنى استحقاق العامل الثواب والعذاب عقليان من كل وجه، وأن الشارع وظيفته الإخبار عن خواص الأعمال على ما هي عليه دون إنشاء الإيجاب والتحريم بمنزلة طبيب يصف خواص الأدوية وأنواع المرض، فإنه ظن فاسد تمجه السنة بادي الرأي، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان: حتى خشيت أن يكتب عليكم...، وقال: إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته، إلى غير ذلك من الأحاديث، كيف ولو كان ذلك كذلك لجاز إفطار المقيم الذي يتعانى كتعاني المسافر لمكان الحرج المبني عليه الرخص، ولم يجز إفطار المسافر المترفه، وكذلك سائر الحدود التي حدها الشارع". (حجة الله البالغة 1/30)

ولا شك أن الله تعالى أمر أوامر لجلب المنافع، ونهى عن أشياء درءًا للمفاسد، وقد تهتدي العقول إلى إدراك تلك المصالح والمقاصد وقد لا تهتدي، ولكنها لن تضل في معرفة الأوامر والمناهي إذا اجتهدت لها مخلصة، فإذا جعل الشارع شيئا سببا إلى مسبب، وجب اختيار ذلك السبب، وكان اختياره مقصودا، لأنه هو الذي أوحى الله به إلى عباده، فمثلا إقامة الصلاة سبب للشكر والذكر، فإقامة الصلاة تكون واجبة، وكذلك قوله "للذكر مثل حظ الأنثيين" سبب إلى تحقيق العدل في المواريث في مسائل معينة، فيكون ذلك السبب مطلوبا لأنه هو المأمور به، يقول الشاطبي: "فكون المسبب مقصودا بشرع السبب فهو لا يعني جواز القصد إلى إيقاع المسبب بغير طريقه المشروع وهو السبب، إذ كما أن المسبب مقصود، فالمقصود الأول هو السبب، لأن الخطاب دل عليه، والتكليف وقع عليه، ولم يفهم المسبب إلا بواسطته" (الكتاب الثاني من الموافقات).

وإذا كان متماثلان يحققان المقصد نفسه، فرض على العباد إتيان الوجه الذي عيَّنه الشارع، فمثلا يتم الغرض من أكل الطعام وشرب الماء باليمين والشمال سواء، ولكن الشارع عيَّن اليمين، فالأكل والشرب باليمين عبادة، والأكل والشرب بالشمال عصيان، ومن قدَّم مصلحته على مصلحة الشارع من غير عذر فقد جعل الشرع مهملا، يقول الشاطبي: "فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي تحصل منه المصلحة، فأمر به أو أذن فيه، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة، فنهى عنه رحمة بالعباد، فإذا قصد المكلف عين ما قصد الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه، فهو جدير بأن تحصل له، وإن قصد غير ما قصده الشارع، وذلك يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد، لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة". (الكتاب الثاني من الموافقات).

لا ننكر أن العقول خلقها الله تعالى لتعيننا على مصالحها، وإنما ننكر أن تكون هي المتكفلة بإدراك المصالح كلها مستقلة به، فضعفها بيِّن وعجزها معلوم حتى في الأمور الدنيوية المحسوسة الظاهرة، فكيف بأحكام الله التي شرعها الحكيم الخبير علام الغيوب، يقول ولي الله الدهلوي: "وأوجبت (أي السنة) أيضا أنه لا يحل أن يتوقف في امتثال أحكام الشرع إذا صحت بها الرواية على معرفة تلك المصالح لعدم استقلال عقول كثير من الناس في معرفة كثير من المصالح، ولكون النبي صلى الله عليه وسلم أوثق عندنا من عقولنا" (حجة الله البالغة 1/30).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين