الحكمة بين الطبيب والفقيه

 

كنا نسمع إلى وقت قريب إطلاق صفة (الحكيم) على (الطبيب)، وذلك أن الطبيب يتعامل مع الإنسان نفسه، جسمه وروحه. وإذا كانت الحكمة تعني وضع الأمور مواضعها الصحيحة فهو يتضح بشكل أقوى في وصف الدواء المناسب للمرض الطارئ على جسم الإنسان. ومن هنا أخذ الأطباء منذ القديم لقب الحكماء. ويحكى في بعض الكتب أن لقمان عليه السلام كان طبيباً، ويطلق عليه في الثقافة الشعبية التركية اسم "لقمان الحكيم". بالمعنى الطبي. 

ومرة أغرتني نفسي او غرّتني فأردت أن أصحح هذه الفكرة، وقلت أمام جمع من الأحباب في مسجد بأحد الأحياء الشعبية: إن القرآن الكريم ذكر لقمان عليه السلام وحكمته في الإرشاد والإصلاح والدعوة إلى الله، وتلوت عليهم الآيات الخاصة بذلك من سورة لقمان: (ولقد آتينا لقمان الحكمة..) إلى آخر الآيات. وأنه استحق لقب الحكيم بهذا الذي وصفه القرآن الكريم، ولا يمنع ذلك أنه يعرف كان الطب أيضاً، ولكني وجدت أذنا صاغية وآذانا غير صاغية، حتى استنكر أحدهم علي ما قلته، مع أني قلت أمرًا معروفًا في القرآن الكريم لا يحتمل الجدل! 

 ويبقى الطبيب مستحقاً لقب (الحكيم) لأهمية عمله المرتبط بصحة الأبدان، ولا يفوقه إلا الفقيه الذي يعنى بصحة الدين وهو متعلق بالبدن والروح كليهما، فزائر الطبيب يسأل عما يصلح بدنه، وزائر الفقيه يسأل عما يصلح دينه، وبهما يكتمل صلاح الانسان، وكمال صحته الجسمية والروحية. 

وإذا كان الطبيب محتاجاً إلى الحكمة في وصف الدواء للداء، فإن الفقيه أشد احتياجاً إلى الحكمة في وصف الحل للمشكلة، وما نقرؤه ونسمعه من تضارب الفتاوى والدخول فيها ممن ليس أهلا لها لا يقل عن الأخطاء الطبية، والشهادات المزورة التي تكتشف بين آونة وأخرى.

وينبغي الانتباه أنه ليس كل اختلاف في الفتاوى تضاربا وتناقضا، فهي في كثير من الأحيان كالوصفات الطبية التي تختلف بين الأطباء، وكاختلافهم عند تشكيل لجان طبية في بحث وضع حرج لمريض، فتختلف آراؤهم  بدرجات متفاوتة قد تصل إلى التناقض، وليس ذلك إلا لاختلاف المعطيات التي تستند إليها الأفهام المختلفة للأطباء.

وقد قيل: أنصاف الأطباء يذهبون بالأبدان، وأنصاف الفقهاء يذهبون بالأديان! ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه. أو كما يقال: عرف حدّه فوقف عنده! ولعله لهذا الأمر الجلل كان السلف رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى.

ولهذا أيضا نحتاج في اعداد الفقيه جهداً أكبر من إعداد الطبيب، وينبغي أن يكون شروط قبول طالب الفقه في الجامعة لا تقل عن شروط قبول طالب الطب، وتدريبه لممارسة عمله ووظيفته في الحياة لا يقل قوة عن تدريب طالب الطب.

وأكثر الفقهاء ليسوا أطباء، كما أن أكثر الأطباء ليسوا فقهاء، وفي الحياة من جمع بين الطرفين  كابن النفيس الدمشقي، وابن رشد الفيد الأندلسي، من القدماء. وفي المعاصرين كثر، أعرف منهم الدكتور محمود ناظم نسيمي رحمه الله، والدكتور محمود أبو الهدى الحسيني حفظه الله، وكلاهما من حلب.

والله الموفق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين