الجندر وتفخيخ المصطلحات

لقد خَلَق الله عز وجل هذا الكون على أساس من الثنائية أو الزوجية (.. وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .. الآية) سورة الذاريات 49 ، وهذه الزوجيةً ليست خاصَّة بالإنسان وحده كما يظن أكثر الناس؛ وإنما هي ثنائية تعمُّ سائر المخلوقاتِ، وهذه الحقيقة تعبر عن عظمة الخالِق سبحانه، وتنطوي على حكمة بالغة عبر عنها بـ "السكينة" التي تتولد من لقاء الطرفين كما بين سبحانه (وجعل منها زوجها ليسكن إليها .. الآية) سورة الأعراف 189 . وليست هذه السكينة خاصة بعالم البشر، بل نراها حتى في الجمادات؛ ففي "علم الذرة" مثلاً يتحدثون عن "الشاردة" وهي الذرة التي فقدت إلكترون أو اكتسبت إلكترون فتغيرت شحنتها الكهربائية فأصبحت شاردة هائمة على وجهها تبحث عن ذرة أخرى تعيد لها سكينتها بتصحيح شحنتها !

وهكذا نرى حتى الجمادات تواقة للقاء زوجها طلباً للسكينة، لكن مع وضوح ما في هذه الثنائية من حكمة إلهية بالغة، بدأنا في الآونة الأخيرة نسمع أصواتاً غريبة تشكك فيها وتعمل على تفخيخها بأهداف شريرة تحت مصطلح أطلقوا عليه اسم الجندر (Gender) وهو مصطلح يريدون به التشويش على حقيقة الثنائية التي أرادها الله عز وجل في مخلوقاته .

ومن المعلوم أن ثنائية الذكورة والأنوثة ظلت يعبر عنها عالمياً بالمصطلح الإنجليزي (sex) لوصفُ الصِّفات البيولوجية والفسيولوجية التي تميز عضوياً بين الذكر والأنثى، وهي كما يقول علماء الحياة صفات واضحة وثابتة ترافق المخلوق طوال حياته .

وقد شهد تاريخ الطب محاولات عابثة لتغيير هذا التكوين الإلهي في البشر، امتثالاً لهوى الشيطان إذ قال : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ .. الآية) سورة النساء 119 ، فكانت النتيجةُ ظهور مسوخ بشرية من المتحوِّلين جنسيًّا والمتحولات .

وأمام هذا العجز من التغيير عضوياً، وقف دعاة المساواة بين الجنسين يفكرون بوسيلة أخرى تحقق أمنية شيطانهم، فتفتقت عقولهم في ثمانينات القرن الماضي عن مصطلحُ ملتبس هو (الجندر) وهو مصطلح مشتق من اللاتينية، معناه اللغوي (Genus) أي: (الجنس من حيثُ الذكورة والأنوثة) لكن الباحثة <آن أوكلي> فرضت المصطلح على عِلم الاجتماع، في كتابها (الجنس والنوع والمجتمع، 1972م) الذي فرقت فيه بين مصطلح (Sex) أي : الجنس، الذي يميز عضوياً بين الذكر والأنثى، وبين مصطلح (Gender) الذي زعمت أنه يشير إلى الفروق الاجتماعية بين الذكر والأنثى (!؟) وهي محاولة للالتفاف حول مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، بتحويل النظر إلى هذه الثنائية من طبيعتها العضوية إلى الدور الاجتماعي لكل من الرجل والمرأة !

أصل المصطلح : 

من خلال تتبعنا لهذه المسألة وجدنا لها بداية عند الأديبة الفرنسية الوجودية سيمون ديبو فوار (1908 - 1986) التي ذكرت في كتابها "الجنس الآخر 1949" أن الإنسان "لا يولد امرأة، وإنما يُصبح كذلك" زاعمة أن الأنثى تصبح أنثى نتيجة عوامل اجتماعية هي التي تجعلها تحس أنها أنثى، وليس نتيجة تكوينها العضوي الذي يميزها عن الذكر .

الجندر والحركة النسوية :

لقد شكلت مقولة هذه الكاتبة الوجودية خلفية فلسفية لولادة مفهوم (الجندر) الذي رحبت به "الحركات النسوية" في العالم لما وجدت فيه من تحقيق حاسم للمساواة المطلقة بين الجنسين، لأنه يخلص مفهومي الذكورة والأنوثة من الأساس الديني الذي ظل عبر التاريخ يحول دون تحقيق هذه المساواة !

وهكذا ظهر بوضوح أن هدف الذين ابتدعوا هذا المفهوم هو التخلص من البعد الديني لمسألة المساواة بين الجنسين، والخلاص من التشريعات الدينية التي ظلت تقف حائلاً دون تحقيق أهدافهم التي سريعاً ما تكشفت عن رغبة جامحة لنشر الحرية الجنسية في العالم وفتح الباب واسعاً للممارسات الجنسية الشاذة وَما يندرجُ تحتها من قضايا المثليين وَالمخنثين وأشباههم !

وهكذا وجد دعاة "الحركة النسوية" ضالتهم في المصطلح، فانطلقوا في العالم يروجون لإزالةُ الفروق بين الجنسين مِن خلال البرامجَ التنموية، حرصاً من الحركات النسوية على إخفاء أهدافها البعيدة، والظهور بمظهر تحقيق العدالة للمرأة واسترداد حقوقها التي فقدتها عبر التاريخ !؟ لكن سرعان ما افتضحت الأهداف البعيدة من وراء المصطلح، وذلك من خلال سلسلة مؤتمرات عالمية عقدت من أجل فرض المصطلح وأهدافه على العالم

الجندر في المؤتمرات العالمية :

وقد كان للعالم العربي ذي الغالبية المسلمة نصيبه من هذه المؤتمرات فعقد "مؤتمر القاهرة للسكان 1994" الذي ذكر الجندر (51 مرة) في وثيقته، وتضمنت الفقرة (19) من المادة (4) دعوة إلى تحطيم كل الفوارق بين الجنسين؛ وقد وقعت الوفود العربية على الوثيقة، بكل هدوء، مع ما فيها من مفاهيم وفخاخ تخالف الدين والأخلاق والأعراف، وقد جرى التأكيد على هذه المفاهيم والفخاخ مرة أخرى بشكل أكثر صراحة في "مؤتمر بكين للسكان 1995" حيث تكرر مصطلح الجندر (233 مرة) !

تفخيخ المصطلح :

بالعودة إلى أصل مصطلح الجندر (Gender) نجد أنه من الناحية اللغوية لم يتوقف أصحابه عند تمييزه عن مصطلح الجنس (Sex) بل فرضوه على قواميس اللغة فصار المصطلح يستخدم لتصنيف الأسماء والضمائر والصفات ! 

وسرعان ما وصل هذا المعنى المفخخ إلى بعض أدعياء "التجديد والتنوير" العرب، منهم مثلاً السوري "محمد شحرور" الذي أشار في إحدى ندواته المتلفزة إلى الجندر بإعجاب شديد، ودعا إلى إعادة صياغة القرآن الكريم صياغة جندرية تواكب العصر، وتحرر الإسلام من "العصر الذكوري" فلم يعد هناك مبرر – في نظر شحرور – لوصف الذات الإلهية بالذكورة (؟!)

ويبدو أن هذه الدعوة (الشحرورية !؟) قد وجدت صدى عاجلاً من بعض الجندريات العرب، فوقفت واحدة منهن قبل أيام تؤم مجموعة من المسلمات في تراويح رمضان، فقرأت في سورة الإخلاص "قل هي الله أحد" بدلاً من "قل هو أحد" (تعالى الله عن هذا علواً كبيرا!!!) .

وهكذا .. بالرغم من الفخاخ الخبيثة التي ينطوي عليها المصطلح، نرى أدعياء "التجديد والتنوير" يهرولون وراء المصطلح، كما هو دأبهم مع كل بضاعة غربية تشاغب على الإسلام، غير عابئين بتحذير النبي من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه" متفق عليه .

الجندر تقنين عالمي للشذوذ :

بعد المؤتمرات العالمية التي روجت للجندر بدأ العمل رسمياً في المنظمات الدولية تمهيداً لفرضه على دساتير العالم، ففي وثائق "مؤتمر روما 1998" حول إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ظهر توجه عالمي لتجريم القوانين التي تعاقب على "الشذوذ الجنسي" معتبرة "أن كل تفرقة أو عقاب على أساس الجندر يعتبر جريمة ضد الإنسانية"ما يعني بكل وضوح تجريم الحدود التي شرعها الإسلام ضد الشذوذ الجنسي!

وفي النتيجة ..

بدأ الشاذون في العالم يطالبون بحقوقهم في حماية القوانين الدولية، وبدأت ظاهرة "زواج المثليين" تنتشر في العالم، وسرعان ما وصلت الظاهرة إلى بعض البلدان العربية مثل لبنان وغيره .. وبهذا ظهرت إلى العلن كل الفخاخ التي ألبست لباس الجندر !

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين