التفكير فريضة إسلامية

 

يقول الله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ(194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ(195) ]. {آل عمران}..

روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي خالته قال، فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن مُعلَّقة فتوضأ فأحسن وضوءه ثم قام يصلي.

قال عبد الله بن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني ففتلها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح. ويقول الإمام الخازن بعد أن روى هذا الحديث: وفي رواية فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه). وفي رواية قال: بت في بيت خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {آل عمران:190}.

وما من شك في أنَّ في خلق السموات والأرض، وفي اختلاف الليل والنهار، مجال عظيم للفكر والتدبر، فإنَّ هذا الكون بما فيه من إتقان في الصنع، وإبداع في التكوين، ودقَّة في التركيب، يدل بداهة على الصانع، وأنه عالم.

وإمساك هذا العالم دليل على الحياة والإرادة؛ يقول الله تعالى: [إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا] {فاطر:41}، [فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] {الأنعام:96}.

ويقول سبحانه: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا] {يونس:67}.

وتأمل قوله تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(73)]. {القصص}..

والآيات التي توجه الإنسان إلى العظة والعبرة في الكون كثيرة مُستفيضة منها مثلاً: [أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ(6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ(9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ(10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ(11) ]. {ق}.

ويقول الكندي – فيلسوف العرب -:

(إنَّ في الظواهر والمظاهر التي تبدو للحواس، لأوضح الدلالة على تدبير مدبر أول: فإنَّ في نظم هذا العالم وترتبيه، وفعل بعضه في بعض، وانقياد بعضه لبعض، وتسخير بعضه لبعض، وإتقان هيئته على الوجه الأصلح في كون كل كائن، وفساد وثبات كل ثابت وزوال كل زائل: لأعظم دلالة على أتقن تدبير – ومع كل تدبير مدبر – وعلى أحكم حكمة، ومع كل – حكمة حكيم، وذلك أن اقتضاء التدبير للمدبر، والحكمة للحكيم أمر لا يختلف فيه اثنان).

وإذا كانت دلائل خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يدركها أولو العقول المتأملة فإنَّ أولي العقول هم هؤلاء الذين لا يَفْتُرون عن ذكر الله تعالى إنَّهم يَذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.

ويقول الله تعالى: [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ] {النساء:103}، ولقد وردت الأحاديث الكثيرة في الحثِّ على الذكر، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها، من أنها كانت تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يذكر الله على كل أحيانه.

وعن الذكر نروي ما يلي:

روى البيهقي في الشعب، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الله عزَّ وجل: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم بسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله عزَّ وجل إلا حفَّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذَكَرَهم الله تعالى فيمن عنده).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً، وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) رواه البخاري ومسلم.

وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله جلَّ ذكره: (لا يذكرني عبدٌ في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الملأ الأعلى) رواه الطبراني.

وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به قال:( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه الترمذي.

وعن مالك بن يُخَامر أنَّ معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: إنَّ آخر كلام فارقتُ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن قلت: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله) رواه الطبراني.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر (الله) ربه والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت) رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبل يقال له جمدان، فقال (سيروا، هذا جمدان سَبَقَ المفَرِّدون) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيراً) رواه مسلم والترمذي.

وعن أم أنس رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أوصني، قال: (اهجري المعاصي، فإنَّها أفضل الهجرة، وحافظي على الفرائض، فإنَّها أفضل الجهاد، وأكثري من ذكر الله، فإنك لا تأتين الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكره) رواه الطبراني.

إنَّ أولي الألباب يتفكرون في خلق السموات والأرض بعقولهم وبقلوبهم، ويجدون صدى ذلك على ألسنتهم قائلين: ربنا ما خلقت هذا الكون البديع باطلاً سبحانه عن الباطل، ويلجأون إليه تعالى في أن يجنبهم عذاب النار، فإنَّ من يدخل النار مخلداً فيها، فإنَّ الخزي يحيط به.

والخزي فيما يتعلَّق بدخول النار خاص – كما يقول أنس وسعيد بن المسيب، وغيرهما خاص بمن يخلد في النار، ولن يجد الظالمون الذين أشركوا بالله من نصير يجنبهم عذاب جهنم.

ويتابع أولو الألباب دعاءهم بهذه الكلمات الجميلة الواضحة الوضَّاءة: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}. الأبرار: أي في زمرتهم، والأبرار هم خيار الصالحين.

{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى? رُسُلِكَ} أي: الجنة والرضوان.

أما النتيجة فهي: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}. بعضكم من بعض: أي: في الطاعة والأخوة.

{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي، رمضان 1400 العدد 189).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين