التصور الإسلامي للإنسان أساس لفلسفة الإسلام التربوية-3-

 

الفطرة في القرآن وفي السنة:

في القرآن الكريم وفي السنة النبوية نصوص تدل على هذا المعنى دلالة صريحة، وأخرى تدل عليه بطريق اللزوم وفيما يلي نذكر جانباً من النوعين مع تعليقات موجزة:

إنَّ الله سبحانه وتعالى إنَّما خلق الناس لعبادته، وأرسل لهم رسلاً منهم ليبينوا لهم الطريق المستقيم إلى هذه الغاية، ولكنَّ هذا الدين الذي جاء به الرسل من عند الله تعالى : ليس شيئاً غريباً، على الإنسان بل أن أصله مغروس في نفسه.

1-هذا الأصل هو المشار إليه بالفطرة في قوله تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30} 

فالإنسان حين يسدد وجهه للدين الذي شرعه الله تعالى ويستمر عليه كما يأمره ربه تعالى إنما يلزم فطرته السليمة التي فطر الله الخلق عليها فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه سبحانه لا اله غيره فالدين الإسلامي هو إذن الدين الطبيعي الذي لا يولد إنسان إلا به، ولذلك قال تعالى [لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] {الرُّوم:30} ومعناه: أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس وجماعة من السلف [لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] أي: لدين الله تعالى .

2-وهو المشار إليه بالنور في قوله تعالى:

[اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {النور:35 }.

قال ابن القيم :(قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم. وهذا هو النور الذي أودعه الله تعالى في قلب عبده من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به في الناس وأصله في قلوبهم) التفسير القيم ط بيروت ص 372.

وقال: (قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نوراً بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة: نور على نور، فيكاد ينطق بالحق، وإن لم يسمع فيه أثراً، ثم يسمع الأثر مطابقاً لما شهدت به فطرته فيكون نوراً على نور) التفسير القيم ط بيروت ص374.

3- وهو المشار إليه بالتسوية في قوله تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ]. {الشمس}..

قال ابن كثير في تفسيره : [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا] أي: خلقها سويَّة مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] {الرُّوم:30}.

4- ولعل هذا الأصل هو المصرَّح به في قوله تعالى:

[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) ]. {إبراهيم}..

فالكلمة الطيبة- كما جاء في تفسير السلف -هي كلمة التوحيد فهي كشجرة طيبة أصلها ثابت في قلب المؤمن، وأكلها هو الأعمال الصالحة الناتجة عنها الصاعدة على السماء المقبولة عند الله تعالى.

وأما الكلمة الخبيثة المضادة لكلمة التوحيد فلا أصل لها ولا قرار ولا ثمرة زاكية.

5- وهو المشار إليه بالإشهاد في قوله تعالى:

[وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ(173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174) ]. {الأعراف}..

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (ومن ثَمَّ قال قائلون من السلف والخلف إنَّ الرأي بهذا المراد قال: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ } ولم يقل من آدم { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره { ذُرِّيَّتَهُمْ } أي: جعل نسلهم جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن. ثم قال: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالاً وقالاً. فدل على أنه على الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال: { أَنْ يقُولُوا } أي: لئلا يقولوا يوم القيامة { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي: التوحيد{غَافِلِينَ }.

وفي السنة المطهرة عدة أحاديث فيها مزيد بيان لما قرره القرآن من فطر الإنسان على الخير.

6- ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(كل مولود يولد على الفطرة –وفي رواية على هذه الملة- فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها جدعاء

ففي هذا الحديث دلالة على أن الفطرة التي يولد عليها الإنسان هي السلامة من الشرور كما أن الحال التي تولد عليها البهيمة هي السلامة من العيوب الجسمانية من قطع أنف أو أذن أو شفة وغيرها فكذلك الحال التي يولد عليها الطفل هي السلامة من العيوب النفسية والاعتقادية من يهودية ونصرانية ومجوسية وكما أن تلك العيوب تطرأ على البهيمة بعد ميلادها فكذلك هذه العيوب تطرأ على الإنسان بعد ميلاده.

والدليل على أن الفطرة المقصودة في هذا الحديث ليست السلامة بمعنى الحياد، بل بمعنى وجود الخير في النفس أنه صلى الله عليه وسلم قال: فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه ولم يقل ويجعلانه مسلماً لأنَّ الإسلام هو الأمر الطبيعي وكل هذه العقائد انحرافات عنه وهذا المعنى جاء مصرحاً به في الرواية الأخرى للحديث (كل مولود يولد على هذه الملة).

7- ويزيد هذا المعنى تأييداً وقوة ما جاء في صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم).

8- وكذلك ما جاء في جزء من حديث رواه الإمام أحمد وأخرجه النسائي في سننه عن الأسود من سريع من بني سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا أنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها).

وأما الآيات والأحاديث التي تدل بطريق اللزوم على أن الإنسان مفطور على الخير فأكثر من أن تحصى في بحث كهذا.

إن الكلمات المعبر بها عن الشر تدل كلها تقريباً على أن الشر ليس شيئاً أصيلاً وإنما هو انحراف عن الخير وتبديل له مع أن الكلمات المعبَّر بها عن الخير ليس فيها ما يدل على أنه نقيض الشر وإنما في الكثير منها ما يدل على الزيادة والإنماء والمحافظة على خير أصيل.

من ذلك قوله تعالى في الآيات التي ذكرناها سابقا: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ]. {الشمس}..

فبالإضافة إلى كلمة (سواها) التي تدل دلالة صريحة على أصالة الخير في الإنسان فإن الكلمات (الفجور) و (التقوى) و (التزكية) و (الدس) أيضاً تستلزم هذه النتيجة.

فالفجور هو الإفساد والعدول والميل عن الأمر الطبيعي، والتقوى من الوقاية، والتزكية تعني النمو كما تعني التنظيف والتنقية، والدس يعني الإخفاء والدفن فالذي يفجر ويفسد، والذي يحمي ويحافظ عليه، والذي يزكو وينمو، والذي يدس فيمنع من النمو، إنما هو الشيء الصالح السوي المستقيم.[من مقال للكاتب بمجلة الغرباء (لندن)، العدد الثالث نوفمبر ديسمبر 1973]

وهذا هو الذي تستلزمه كلمات الفساد، والفسق، والكفر، والإلحاد، والزيغ والظلم والضلال وكثير من الكلمات الدالة على الشر. وكثير من كلمات الإيمان، والذكر والشكر واليقين، والطمأنينة والاستقامة، وكثير من الكلمات الدالة على الخير.

فالذي يفسد هو الأمر السليم، والفسق: خروج عن شيء سابق، والكفر : تغطية وإخفاء لشيء موجود، والإلحاد والزيغ :انحراف، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والضلال: عدم الاهتداء إلى الغاية المرجوة.

والإيمان: تصديق بحق يضفي على النفس أمناً، والذكر إنما يكون لأمر كان في الأصل معروفاً، والشكر اعتراف بفضل من أسدى.

إنَّ في الكلمات الدالة على الخير معاني الثبوت والاستقرار والأصالة والإيجابية.

وأما الكلمات الدالة على الشر ففيها معاني النفي، والتغيير، والسلبية وما ذلك إلا لأن الخير هو الأساس وأن الشر إنما هو نفي الخير.

هذا الذي يبدو لي على وجه العموم ولست أزعم أنني استقصيت كل الكلمات فوجدتها مندرجة تحت هذا القاعدة.

لقد وجدت في بعض الكلمات الدالة على الخير معنى السلبية ثم تأملتها فإذا هي لا تخرج على القاعدة، بل تؤكدها فالإصلاح إنما يكون للشيء الفاسد، والتوبة والأوبة رجوع عن شر، فهل يعني هذا أن الفساد والشر هما الأصل؟ كلا: فالإصلاح إزالة للفساد، وعود إلى الأمر الطبيعي والتوبة والأوبة رجوع من طريق الشر إلى الطريق الطبيعي.

إن في القرآن الكريم والسنة المطهرة –إلى جانب تلك الكلمات- ما يدل بطريق اللزوم على أن نفس الإنسان كجسمه حالها الطبيعية أن تكون سليمة معافاة، وأن يطرأ عليها مما ينافي تلك الفطرة الأولى هو الأمراض كالأمراض التي تصيب الأبدان. وكما أن الصحة البدنية تكون في المحافظة على الحال الطبيعي وفي وقايته من أسباب الأمراض، وفي معالجة البدن حين يصيبه المرض فكذلك صحة القلوب وسلامتها. ومهمة الدين هي المحافظة على هذه السلامة ووقايتها من الأمراض وعلاجها حين تمرض.

حين أراد منكرو الرسالة المحمدية أن يعتذروا عن إنكارهم بأن قلوبهم في أكنة وأنها مغلفة غلافاً فطرياً يحول دون نفاذ كلامه صلى الله عليه وسلم إليها رد عليهم القرآن: بأنَّ الغلاف ليس سبباً في الكفر وإنما هو نتيجة له [وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ] {البقرة:88}.

[وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ] {فصِّلت:5}.

[وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء:155}.

والقرآن الكريم يسمي الشر مرضاً يطرأ على القلوب.

[فَلَا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا] {الأحزاب:32}.

[لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] {الحج:53}.

وبعض هذا المرض مما يمكن علاجه، وأحسن علاج له آيات القرآن الكريم، وبعضه يستحكم بحيث يمنع وصول هذه الآيات إلى القلب فما يزيده العلاج إلا مرضاً.

[وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا] {الإسراء:82}.

[وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ] {التوبة:124-125}.

والنبي صلى الله عليه وسلم يُشبِّه ما يطرأ على القلوب مما ينافي فطرتها بالصدأ الذي يصيب الحديد، والدرن الذي يعلق بالأبدان، والدنس الذي يلصق ببيض الثياب. كما أنَّ القرآن يسمي الذنوب (رانا) يتراكم على القلوب فيحجبها عن رؤية الحقيقة.

انظر الحلقة الثانية هـــنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين