التصور الإسلامي للإنسان أساس لفلسفة الإسلام التربوية -1- 

مقدمة:

من الحقائق التي عرفها وقال بها كثير من المفكرين المعاصرين: أن كل نظرية سياسية أو اقتصادية أو تربوية، بل كل رأي في تنظيم جانب من حياة الإنسان، يكمن وراءه تصور معين للإنسان قد يعيه صاحب الرأي أو النظرية فيقول به، وقد يفترضه ولا يشعر به.

ولذلك فإن النظر في الإنسان ومحاولة الوصول إلى تصور له يطابق حقيقته ينبغي –من الناحية المنطقية- أن يسبق كل محاولة للنظر في المبادئ الاقتصادية أو النظم السياسية أو المناهج التربوية. لأن معيار هذه المبادئ والنظم والمناهج هو مدى صلاحيتها للإنسان. ولا يمكن أن نعرف مدى صلاحيتها له إلا إذا عرفنا أولاً من هو؟.

إننا إذا لم نتبين هذا الأمر ونكون على وعي به فقد نضع مناهج تعليمية، ونعتمد طرقًا تربوية نحسبها إسلامية وما هي بإسلامية؛ لأن الإنسان الذي نفترضه ليس هو الإنسان الذي بين لنا خالقه حقيقته، وقد ننقل عن غيرنا مناهج وطرقًا لا نرى بأسًا في نقلها مع أن النظر إليها من خلال هذا التصور قد يكشف عن خللها وقصورها، ظانين أن كل ما قالوا به فهو غير صالح لنا مع أن وزنه بمعيار التصور الصحيح للإنسان قد يثبت صلاحيته.

هذه بالطبع ليست دعوة إلى إيقاف كل جهد لإصلاح التعليم وتقريبه من هدي الإسلام حتى يتم الاتفاق على هذا الأمر، ولكنها مجرد تذكير بأهمية الموضوع ودعوة للمهتمين بشئون التعليم على أن يولوه عنايتهم ويحاولوا اكتشاف الصلة بينه وبين فروع المسائل التي تشغل بالهم.

ثلاث نظريات في طبيعة الإنسان:

من هو الإنسان؟

أهنالك شيء اسمه الإنسان بهذا الإطلاق الذي لا يؤثر فيه أو يغيره زمان ولا مكان ولا جنس ولا لون ولا لغة ولا بيئة ولا ثقافة؟.

انقسم المجيبون على هذا السؤال إلى ثلاث فرق كبرى:

1- فمنهم من أثار وجود إنسان بهذا الإطلاق ورأى أن الإنسان حين يولد، يولد محايدًا كالصفحة البيضاء أو الطينة غير المشكلة، وأن البيئة هي التي تكتب عليه ما تريد وتشكله كيف تريد.

2- ومنهم من قال بلى إن للإنسان حقيقة، وحقيقته: أنه مخلوق شرير يولد الشر معه مفروضًا في طبعه، والبيئة هي التي تحاول أن تهذبه.

3- وفريق ثالث وافق الفريق الثاني على أن للإنسان حقيقة ثابتة، ولكنه قال: إن حقيقته أنه مخلوق خير يولد حين يولد على الخير، ثم قد يطرأ عليه التغيير بعد ذلك، وقد يستمر خيرًا وينمي الخير الكامن في نفسه.

وبكل نظرية من هذه النظريات قال مفكرون كبار وعلى كل منها قامت مذاهب حياة جذبت إليها عدداً هائلاً من البشر، وكان لكل منها آثاره البعيدة والخطيرة في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والفلسفات التربوية.

فأي نظرة منها هي النظرة الصائبة المطابقة لواقع الإنسان وكيف نعرف ذلك؟

هذا ما سنحاوله في الجزء الأول من هذا البحث، وفي الجزء الثاني منه نثبت أن النظرة التي قلنا إنها صائبة هي النظرة الإسلامية، وفي الجزء الثالث نحاول بيان شيء من آثار هذه النظرة على فلسفتنا التربوية.

مناقشة هذه النظريات:

يحسن قبل الدخول في مناقشة هذه الإجابات على سؤالنا أن نبين بشيء من التفصيل ما المقصود بالسؤال نفسه؟

من هو الإنسان؟

هذا سؤال عن طبيعة الإنسان عن الخصائص التي تشكل في مجموعها هذا الكائن المتميز الذي نسمِّيه الإنسان، والسؤال عن طبيعة الإنسان سؤال:

1- عن طبيعته الجسدية: ما هو التركيب الجسدي للإنسان؟ وما هي القوانين التي تحكم هذا التركيب؟ وما الذي يناسب هذا التركيب من أنواع المآكل والمشارب والبيئات والعلاقات؟

2- وعن طبيعته النفسية: ما هو التركيب النفسي للإنسان؟ وما الذي يناسب هذا التركيب من القيم والأفكار والأحوال؟

3- وعن الصلة بين الطبيعتين: والذي يهمنا بشكل أساسي في هذا البحث هو الطبيعة النفسية فهل للإنسان تركيب نفسي معين كما أن له تركيباً جسدياً معيناً، حيث إن أي خلل فيه يسبب له أمراضًا نفسية، كما أن الخلل في تركيبه الجسدي يؤدي إلى علل جسمانية؟

وإن كان له تركيب فما هو؟

نظرية الحياد:

فالنظرة الحيادية لا تنكر أن للإنسان تركيباً جسدياً معيناً، وإنما هي خاصة بتركيبه النفسي وهي إما أن تقول:

أولا: أن الإنسان لا تركيب نفسي له حين يولد، وإنما البيئة الثقافية والبيئة الحسية هي التي تضع نفسه وتبني من لا شيء شخصيته.

وإذا صحَّت هذه النظرة فإن مثل الإنسان يكون كمثل الطين الذي يضع منه الأطفال أشكالاً مختلفة من الناس والحيوانات والطيور والمنازل.

ولكن إذا لم يكن في طبيعة الطين ما يحدد نوع الأشكال التي تصنع منه كذلك ينبغي أن لا يكون في طبيعة الإنسان ما يحدد الصورة النفسية المناسبة له أي أن طبيعة الإنسان لا تصلح معياراً نقيس به صلاح البيئة أو فسادها وأن هذه البيئة بيئة المناهج التربوية والنظم السياسية والأوضاع الاقتصادية هي التي تضع هذه الطبيعة الإنسانية وتشكلها وهذا يعني أنه بمقياس الطبيعة الإنسانية فإن أي منهج وأي نظام وأي وضع هو مماثل لأي منهج أو نظام أو وضع آخر.

ولكن إذا لم تكن طبيعة الإنسان هي المعيار الذي نقيس به صلاح هذه النظم أو فسادها فبماذا نقيسها؟

لست أعرف أحداً من القائلين بفكرة الحياد هذه يقبل هذه النتيجة التي تستلزمها نظريته فإنك لا تكاد تجد واحداً منهم إلا وهو ينتقد بعض النظم الاقتصادية أو العلاقات الإنسانية أو النظم السياسية... إلخ. عن أساس أنها تمسخ الإنسان وتشوهه أو أنها لا تناسب طبيعته... إلخ.

فكارل ماركس مثلاً يقول في مكان: إنه ليس للإنسان طبيعة ثابتة وما الإنسان إلا مجموعة علاقاته الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية متغيرة، ولكنه في مكان آخر يتهم الرأسمالية بأنها شوهت حقيقة الإنسان وجعلته شبيها بالحيوان. ولعله لم يفطن إلى أن هذا القول الأخير يناقض الأول؛ لأن القول الأول ينكر أن تكون للإنسان طبيعة ثابتة، والقول الثاني يفترض وجود هذه الطبيعة ونعتبرها طبيعة خيرة.

وإما أن تقول:

ثانياً: أن للإنسان تركيباً نفسياً معيناً ولكنه تركيب محايد بالنسبة للخير والشر، وإنه يميل إلى هذا أو ذاك بعد أن يولد إما بإرادته الخاصة أو بسبب عوامل خارجية، ولكن هذا معناه أنه ليس في تركيبه النفسي ما يجعل الخير ملائماً له أو الشر مناقضاً له. وهذا معناه أن ما نسميه خيراً كالصدق والإخلاص والشكر وحب الحقيقة ليس خيراً بالنسبة لنفسه، وكذلك ما نسميه شراً ليس كذلك بالنسبة لها. فكيف إذن يقنع نفسه بأن ذاك خير ينبغي أن يفعل وهذا شر ينبغي أن يترك؟ ما هو المعيار؟

إنَّ الحياد بهذا المعنى يجعل النفس الإنسانية كالآلة فالسكين مثلاً لا يؤثر فيها فواكه قطعت بها أو أحشاء بريء مزقت بها. إنها مُعدَّة لأن تقطع فحسب. وكذلك النفس الإنسانية مُعدَّة لأن يفعل بها الخير أو يفعل بها الشر ولا تأثير لأحد الفعلين عليها هي. فهل هذا هو الواقع؟

كلا: فإن نفس الإنسان يشقيها ويعذبها الكذب والنفاق والاستكبار والبخل والهوان، ويسعدها الصدق والإخلاص والتواضع والجودة والعزة.

ثم لو كانت نفس الإنسان محايدة لم يكن هنالك معنى لعبارات الأمراض النفسية والصحة النفسية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين