الإسلام والسلام

 

قالوا: قد كثر الحديث هذه الأيام عن ضرورة السلام في المجتمعات المسلمة. 

قلت: إن دراسة سبل تحقيق السلام والأمن وتوطيد دعائمه في المجتمعات المسلمة بل وفي المجتمعات البشرية بأسرها لموضوع هام، فلا سبيل لممارسة طبيعية للعبادة والدعوة إليها أو أي تطور اجتماعي وثقافي أو عمل إنتاجي إلا إذا أرسيت أسس الأمن والسلام.

قالوا: ما للناس موجهين حديثهم عن السلام نحو المسلمين مقصرين عليهم تقصيرا؟

قلت: كأنهم يرون الأمة المسلمة هي المسؤولة عن اندلاع الحروب والفتن وضروب الإرهاب في العالم، والواقع أن المسلمين أكثر تعرضًا للإبادة الجماعية والقتل والتشريد والتهجير والتعذيب والإرهاب من غيرهم وأشد ابتلاء وامتحانا، وما نشاهده في فلسطين، وسوريا، والعراق، وبورما، وما دونها من البلدان يفجع النفوس، ويفطر القلوب، ويغم العقول، ويبكي العيون دماءًا ودموعًا.

قالوا: أو ليس المسلمون مسؤولين عن بعض ما يحدث من الهرج والمرج؟

قلت: بلى، فقد سرت إليهم أدواء الأمم السابقة الكافرة بنعم ربها، فهبطوا، ومن سوء الحظ، إلى أن يقتل بعضهم بعضًا ويجرون الويلات لإخوانهم في عامة بلدان العالم نابذين وراء ظهورهم أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ قال في حجة الوداع: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأصبح قتل النفس البشري أرخص شيء لديهم وكأنهم لم يقرأوا قول ربهم تبارك وتعالى: "من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا".

قالوا: أي فئة من الناس أكثر تضررا بتدهور وضع السلام والأمن على وجه المعمورة؟ 

قلت: المسلمون وهم أمة دعوة ورسالة، فالسلام كالنور إن حققناه أضاء لنا ما حولنا وبان لنا الخير من الشر والحق من الباطل، وإن أضعناه حجبنا الحق والخير عنا حجبا، وإن الظروف الراهنة التي يعيشها المسلمون في العالم عائق كبير في سبيل القيام بواجبهم كدعاة إلى الخير، وشهداء على الناس، ومنقذي البشرية من نقمة الدنيا وعذاب الآخرة، ولقد تشوهت سمعة المسلمين في كل مكان لغاية أنهم يسمون إرهابيين أو متطرفين همجيين، وضاقت عليهم الأرض على سعتها، ووجد الشقاء والبؤس إليهم سبيلا.

قالوا: هل لهذه المشكلة من دواء؟

قلت: قد بالغ الناس في الحديث عنها، يعاد كل يوم عبر وسائل الإعلام، وكتابات العلماء والمفكرين المسلمين وغير المسلمين، واستعصى عليهم الحل والعلاج، وكأننا إزاء الفتن التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تدع الحليم حيرانا، ولا أراهم إلا وقد حرموا الاهتداء إلى الحل والعلاج.

قالوا: ما الذي تختلف فيه عن عامة الساعين للسلام؟

قلت: يجب أن لا ننسى أن السلام في المجتمعات ليس غاية في نفسه، وإن كان هنالك شعوب وأفراد تنظر إليه كغاية وهدف، بل إن السلام من الوسائل والأسباب، وهذا أمر يتفق عليه عامة العقلاء والحكماء الراشدين الواعين، والسؤال هنا: السلام وسيلة إلى ماذا؟ والجواب الذي يمليه المتهورون والسفهاء أنه وسيلة للعيش بسعادة في الدنيا. فهل هذا ما يراه ديننا الحنيف الذي ندين به أم أن رؤية ديننا مختلفة؟

قالوا: ما رؤية ديننا الحنيف؟

قلت: قد جعل ربنا عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، فالغاية هي الجنة، والسلام في الأرض من لوازم الاستعداد للآخرة، فمن أراد السلام في الدنيا ليتمتع بالعيش فيها فقد ضل وغوى، وجعل العاجلة خيرا من العقبى، وهيهات للمؤمنين أن يستغلوا السلام لإيثار الدنيا على الآخرة، بل إنما همهم الوحيد أن يسخروا الوسائل والأسباب قاطبة لعبادة ربهم وإطاعته وابتغاء رضوانه.

قالوا: ما سبيل توطيد السلام في الأرض؟ 

قلت: توطيد السلام ضرورة حضارية، وقال الله تعالى مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، والسبيل إليه أمران لا ثالث لهما. قالوا: ما هما؟ قلت:

الأول تحقيق العدل بين الناس أفرادا وشعوبا، ففيه ضمان للأمن والسلام، وقد عني الإسلام بتحقيق العدل في مشارق الأرض ومغاربها، وإقامة القسط بين الخلق أجمعين، مما يحقق السلام والأمن في المجتمع، فمَن بغى وظلم، وابتعد عن تحقيق القسط والعدل، فقد خالف كلمة الله وملأ الأرض شرا وفسادا.

والثاني الحوار والصلح والتنازل، فإذا رأى المسلمين الظلم فاشيا والجور طاغيا، تنازعهم الشعوب والأمم، وعجزوا عن توطيد دعائم العدل، وجب عليهم أن يصطلحوا مع خصومهم وأعدائهم متخلين عن بعض حقوقهم ومضربين عنها إضرابا يضمن شيئا من الأمن والسلام والتسامح والوئام.

قالوا: أو ليس الصلح قبولا للضيم والعدوان، وخضوعا للتعسف والإجحاف؟ 

قلت: لا، بل هو سبيل إلى السلام، فالأرض مملوءة فتنا واضطرابات وحروبا، فلماذا لا نسعى إلى رفعها إن لم يمكن أن نرفع الظلم والاضطهاد؟ ولماذا لا نصبر عن حقوقنا إذا لم ننجح في تعليم الناس المحبة والاحترام؟ ولماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟

قلت: والصلح منطلق أساسي لعملنا كأمة دعوة ورسالة حتى نحتك مع غيرنا وندعوهم إلى عبادة ربهم وإلى الخير ونخرجهم من الظلمات إلى النور، ومرحلة لازمة للتقدم نحو التمكن في الأرض واعتلاء عرش الصدارة والقيادة، وبالتالي للتأهل لرعاية العدل ونشر السلام وتوفير السكينة والطمأنينة في العالم.

قالوا: أو ليس غيرنا مسؤولين عن السلام؟ 

قلت: بلى، ولكن ما لنا نتحدث عما ليس بأيدينا؟ لماذا لا نقدم ما في مستطاعنا؟ لماذا نطلب من غيرنا ما نحن أحوج إليه منهم؟ وما دام السلام قريبا منا فلماذا نبعده عنا؟ ولماذا نمشي إليه من غير طريقه؟ ونلجه من غير بابه؟ فنزيد الأرض شرا وفسادا، ونملأها نقصا وخللا، ونفتر عن أداء دورنا كأمة دعوة ورسالة ونتخاذل عنه تخاذلا، ونستوجب السخط من ربنا وانتقاما. اللهم احفظنا وفقهنا في دينك واجعلنا لك مسلمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين