استقلال القضاء وسيادته: ضرورة ثورية وفريضة شرعية -2-

 

 

-5-

أدرك الثوار منذ وقت طويل أهمية القضاء وضرورة تنظيمه في المناطق المحررة، لأن الناس لا يمكن أن يعيشوا بلا قضاء يحفظ الحقوق ويوثّق العقود ويفضّ الخلافات ويفصل في المنازعات، ولأن حاجة الناس إلى القضاء تكاد لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام والشراب والدواء والكساء. من أجل ذلك اجتهد الناشطون والثوار فأنشؤوا مؤسسات قضائية شكلت نواة لجهاز قضائي كبير يغطي المناطق المحررة كلها، وهو جهد هائل مشرّف يُحمَد للساعين فيه ويُشكَر القائمون عليه.

 

لكن هذا الجهاز القضائي الثوري العظيم ما يزال يعاني من التعثر والفوضى، إما بسبب ضعفه وعدم قدرته على إنفاذ الأحكام، أو بسبب عدم استقلاله الكامل وتدخل الفصائل في عمله، أو بسبب تعدد المرجعيات القضائية. وقد بُذِلت محاولاتٌ جادة خلال السنة الأخيرة لتوحيد تلك المرجعيات ومنحها القوةَ والاستقلال، فنجح بعضُ المحاولات نجاحاً كبيراً وصارت نموذجاً يستحق أن يُحاكَى في بقية المناطق، ونجح غيرُها نجاحاً جزئياً يشوبه بعض النقص الذي يحتاج إلى إصلاح.

 

من خلال متابعات مطوَّلة لهذا الموضوع الخطير أستطيع أن أقدم شهادة أُسأَل عنها أمام الله، وهي أن الفصائل كلها (فيما أعلم) أيّدت مشروع تحرير القضاء من الهيمنة العسكرية ودعمت توحيدَ المرجعيات القضائية ووافقت على اعتماد "القانون العربي الموحد"، ولم يشاغب أحدٌ على هذه الجهود المباركة إلا جبهة النصرة التي ما تزال تصرّ على الانفراد بمحاكمها الخاصة (دار القضاء) التي صارت مؤخراً "سلطة قضائية موازية" تتعارض أو تتناقض مع الجهاز القضائي الثوري، وترفض اعتماد "القانون العربي الموحد" وتنظر إليه بريبة وشكّ وتصفه بالقانون الوضعي، رغم أن كثيراً من قُضاتها لا يملكون الحد الأدنى من العلم الذي يُشترَط في القاضي، وما أكثرَ ما ارتكبوا من طوامّ وأخطاء حتى في الدماء!

 

مع العلم بأن "القانون العربي الموحد" ليس سوى تقنين (صياغة قانونية) للأحكام الشرعية، بحيث يساعد القضاةَ على استخراج الأحكام الصحيحة في القضايا المختلفة، وهو مستخلَصٌ من الشريعة الإسلامية بمذاهبها الفقهية الأربعة الكبرى. أرجو من المهتمّين مراجعة الدراسة المختصرة القيّمة التي أعدتها "هيئة الشام الإسلامية" لهذا القانون، وتجدونها في الإنترنت بعنوان "القانون العربي الموحد: دراسة وتقويم". وفي الخلاصة أوصت الهيئة باعتماده في المحاكم الشرعية في سوريا، مع استثناءات قليلة جداً كأحكام التأمين التجاري (قلت: وهي أصلاً مسألة خلافية، وإن كان الأحوط التحفّظ في الفتوى فيها، فلا نقول إن اجتهاد القانون الموحد فيها خطأ ولكنه مرجوح، والله أعلم).

 

-6-

 

من أعظم الأمثلة على التجارب الناجحة لتوحيد القضاء "دار العدل" (مجلس القضاء الموحد) في محافظة حوران، التي يقوم عليها عددٌ من أفاضل القضاة وتدعمها وتعترف بها وتخضع لها جميع الفصائل المقاتلة والهيئات المدنية والمجالس المحلية في المحافظة، وقد حلّت محل المحاكم المتفرقة التي كانت تتبع للفصائل المختلفة واستلمت جميع المعتقلين الذين كانوا في سجونها. وهي اليوم مرجعية قضائية معتبَرة وصمام أمان في حوران، وقد كان لها دور مشهود في حل كثير من الخلافات البينيّة بين الفصائل.

 

وفي حلب حققت المؤسسات القضائية قفزة نوعية عظيمة قبل عشرة أسابيع بتشكيل "المحكمة الشرعية بحلب وريفها" التي حلّت محل المحاكم والهيئات الشرعية التابعة للجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين، وتعهدت الأطراف المشاركة في المحكمة الجديدة باحترام استقلاليتها وبدعمها وحمايتها وإغلاق كل ما عداها من محاكم وهيئات شرعية ومكاتب قضائية، كما تعهدت بأن تسلّمها كل مَن لديها من الموقوفين وأن تمتنع عن توقيف المدنيين إلا بمذكرة قضائية نظامية صادرة عن المحكمة.

 

المنطقة الثالثة التي بدأت فيها تجرية قضائية واعدة كانت غوطة دمشق التي أنشئ فيها مجلس القضاء الموحد (المجلس القضائي للغوطة الشرقية) قبل سبعة أشهر وحظي منذ تأسيسه بدعم الفصائل الكبرى في الغوطة. وقد ظننت لبعض الوقت أنه سيكون أفضلَ جسم قضائي ثوري في سوريا كلها، لكنه لم يستطع أن يكون كذلك لأن جيش الإسلام (وهو أقوى قوة عسكرية في الغوطة وله دور كبير في حمايتها وحفظ أمنها) يتجاوزه بين وقت وآخر فيقوم باعتقالات وتحقيقات ومحاكمات خارج القضاء، وما زال له سجنه الخاص (سجن التوبة الشهير)، مما يشكل ضغطاً مستمراً على القضاء الحر المستقل في الغوطة. وقد أقدم الجيش مؤخراً على تجاوز خطير لا يمكن أن نقبله منه رغم محبّتنا له ودفاعنا عنه ورغم ما نرجوه منه من خير كبير، حين اعتقل أحد قضاة المجلس اعتقالاً تعسفياً لبعض الوقت، وهي سابقة مرعبة لا تهدد بعض القضاة أو الهيئات القانونية في سوريا فحسب، بل إنها لتشكل تهديداً لأصل كبير من الأصول التي قامت الثورة من أجلها، وهي تحقيق العدالة وإنشاء دولة القانون.

 

-7-

 

الخلاصة: ما هو المطلوب من الفصائل الثورية المجاهدة في المناطق المحررة؟ أول ما يُطلب منها هو أن ترعى المؤسسة القضائية الناشئة، وهي -كما أشرت آنفاً- مؤسسة مشرّفة يحق للثورة أن تفخر بها ويجب عليها وجوباً عينياً أن تدعمها وتحافظ عليها. على الفصائل كلها أن توفر لها الرعاية والحماية وأن تضمن استقلالها الحقيقي، فلا تتدخل في تعيين قُضاتها ولا تحاول عرقلة أحكامها، حتى لو صدرت الأحكام على القادة والأمراء. أليس هذا هو الإسلام الذي جلس فيه خليفةُ رسول الله بين يدي القاضي أمامَ خصم ضعيف من عامة الناس؟ ولا يكون الدعم الحقيقي إلا من خلال الخطوات التالية:

 

1- على الفصائل أن تتعاون معاً فتشكل لكل محكمة في كل مدينة محررة قوة عسكرية (ضابطة قضائية) يبلغ من حجمها وقوّتها أنّ أي فصيل لا يستطيع أن يعتدي على المحكمة وقُضاتها أو أن يعطل تنفيذ أحكامها.

 

 2- على الفصائل كلها، بلا استثناء، أن تُلغي محاكمها (إن كانت لها محاكم) وأن تغلق سجونها (إن كانت لها سجون)، فلا تبقى في كل مدينة محررة إلا محكمة واحدة ولا يبقى فيها إلا سجن واحد، تشرف عليه المحكمة وتحرسه الضابطة القضائية.

 

 3- على الفصائل كلها أن تتعهد بألاّ تعتدي على اختصاص المحاكم، فلا تعتقل أحداً أبداً، ولا تنشئ سجناً لا علنياً ولا سرياً، ولا تمارس التحقيق والتعذيب وانتزاع المعلومات من أحد ولا تصدر أحكاماً على أحد. وإذا كانت لأي فصيل من الفصائل مَظلمة أو شكوى على فصيل آخر أو على فرد أو جماعة من الناس فليس له طريق لحلها إلا القضاء، فليس لأقوى فصيل في سوريا من الحق أكثر ما لأضعف إنسان في سوريا منه، كلهم أمام القضاء سواء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين