استقلال القضاء وسيادته: ضرورة ثورية وفريضة شرعية -1-

 

-1-

 

لم تسعَ الثورة السورية إلى إسقاط النظام فحسب، بل إنها أبدعت أيضاً في صناعة البدائل واستطاعت أن تبني هيكلاً أوّلياً لدولة الحرية المنشودة، وهو هيكل ضعيف ولكنه شبه متكامل ويمكن تطويره بسهولة -عندما تتوفر المواردُ المالية والبشرية- إلى أجهزة احترافية للدولة السورية المستقلة. ويدخل في إنجازات الثورة الإبداعية تأسيسُ الإدارات المحلية للمناطق المحررة وبناءُ الأجهزة الخدمية التي تغطي الحاجات الأساسية للناس، كإدارة المخابز وتنظيف المدن، وهي توفر خدمات الإسعاف والإطفاء والدفاع المدني التي صارت في كثير من المناطق المحررة فَيصلاً بين الموت والحياة، ويعمل فيها الآلافُ من الجنود المجهولين الذين لم توفِّهم الثورةُ حتى اليوم حقَّهم من الشكر والعرفان.

 

ومن الإنجازات الكبيرة للثورة أيضاً إنشاء أجهزة فاعلة للتعليم والصحة والمواصلات والاتصالات والطاقة وإدارة المعابر الحدودية... وعلى رأس تلك الإنجازات وقبلَها كلها -من حيث الأهمية- الجهازُ القضائي الذي قطعت الثورةُ شوطاً بعيداً في بنائه حتى وصل إلى درجة ناضجة مشرّفة، رغم أنه ما يزال يعاني من ضعف ومشكلات تعوق عملَه في كثير من المناطق المحررة، منها مشكلات يتعين على الجهاز نفسه حلُّها، كنقص الكوادر القضائية المؤهلة، ومنها مشكلات يتعين على الفصائل المقاتلة حلها، وهي التي تهمنا في هذه المقالة والتي بعدها.

 

-2-

 

إن للفصائل المقاتلة فضلاً على الثورة لا يمكن إنكاره، ولا بد أن لها كثيراً من الأخطاء أيضاً، فكل ابن آدم خَطّاء، وكلما كثر العمل زادت مظنّة الخطأ، لا سيما في أوقات الكوارث والحروب والأزمات التي تفتقر إلى الاستقرار وتضغط على أصحاب القرار. من تلك الأخطاء ما يؤثر في الثورة تأثيراً هيّناً فيمكن (وقد يَحسُن) السكوت عنه، ومنها الخطأ الكبير الخطير الذي يضرّ الثورة ويضر الناس ضرراً شديداً، فلا يمكن السكوت عنه ولا يجوز.

 

إن أكبر خطأ ترتكبه الفصائل هو التدخل في الحكم والتسلط على الناس والسيطرة على القضاء، ومن بين هذه الأخطاء نجد أن الاعتداء على استقلال القضاء هو الخطأ الأكبر، وهو أقرب إلى أن يصنَّف جريمةً في حق الثورة والأمة والدين، لأن استقلال القضاء وهيمنتَه على السلطة التنفيذية أصلٌ في الإسلام، وهو ميزانٌ لحرية الأمم وعلامةٌ على رقيّ الشعوب، وما انتُقِص من استقلال القضاء في أمة ونُزعت هيبتُه واعتُدي على سلطانه إلا ذلّت وهانت وضاعت حقوقُ ضعفائها وانتشر فيها الظلم والفساد والاستبداد.

 

-3-

 

لماذا قامت الثورة في سوريا؟ إنما قامت لإنهاء الاستبداد وردّ الحقوق إلى أصحاب الحقوق ورفع الظلم عن المظلومين، فما الجهةُ التي يُنتظَر منها أن تقوم بذلك كله؟ الفصائل المقاتلة؟ إن مهمتها هي تحرير الأرض وحماية الناس وحراسة مؤسسات الثورة ومنجزاتها، وليس عليها إنشاء تلك المؤسسات وإدارتها أو التحكم فيها إذا ما أنشأها أهلُ الاختصاص.

 

إن الثورة مشروع هائل يحمله الملايين، وكل واحد منهم مطالَب بأن يقوم بعمله بإخلاص وإتقان، فلا يقصّر في واجبه ولا يعتدي على اختصاص غيره؛ المقاتل مهمته أن يقاتل وليس أن يعالج المصابين، هذه مهمة الطبيب. والطبيب يعالج ولا يُفتي، الفتوى للعلماء. والعالم يفتي ولا يقود المعارك، فللمعارك أهلها من القادة والمقاتلين. وليس أحدٌ من كل مَن ذكرت آنفاً مهمّته أن يقضي بين الناس، إنما يتولى القضاءَ القضاةُ المؤهلون.

 

فالقاعدة الأولى -إذن- هي أن هذا العمل لا يقوم إلا على المحترفين المختصين من أهله. القاعدة الثانية هي أن لا تتعدد دورُ القضاء، فإذا تعددت وتباينت أحكامُها ضاعت الحقوق بسبب تنازع الاختصاص، لأن كل خصم سيذهب بالقضية إلى المحكمة التي توافق هواه، فيكون تعدد الجهات القضائية سبباً في زيادة الخصومات بدلاً من أن يكون سبباً في حل المشكلات.

 

-4-

 

القاعدة الثالثة هي أمّ القواعد وأهمها على الإطلاق، وهي استقلال القضاء وقوّته، فلا يكون القضاءُ قضاءً حقاً إلا إذا استقل عن الكيانات العسكرية والسياسية والمالية فلم يخضع لأي منها، وامتلك قوة تنفيذية قادرة على تطبيق الأحكام حتى على الأقوياء من أصحاب السلاح والجاه والمال، فلا يطبَّق القانونُ على الضعفاء وينجو منه الأقوياء، وهي حالة متحققة في كثير من المناطق المحررة للأسف الشديد، وهي من أسباب ضياع الحقوق وغضب الله وتأخير الانتصار.

 

لقد ثار السوريون على نظام ظالم غاشم كان يمتلك بضعة عشر جهازاً أمنياً لكل منها سجونه وزبانيته الذين يملكون الحق المطلق في الاعتقال والتحقيق والتعذيب وإصدار وتنفيذ الأحكام، فهل يُعقَل أن يخرج السوريون -بعد كل ما قدّموه من تضحيات جِسام- من تحت الدَّلْف إلى تحت المِزراب؟ هل يجوز أن يستبدلوا ببضعة عشر جهازاً أمنياً مئاتٍ من الأجهزة الأمنية التي تملكها مئاتُ الفصائل والكتائب، ولكل منها سجنُه وسجّانوه الذين يعتقلون ويعذبون الناس -باسم الثورة- ليقرروا بعد ذلك إن كانوا مذنبين أو كانوا أبرياء؟

 

هَزُلت ثورةٌ أخرجت الناسَ من ظلم إلى ظلم ومن استبداد إلى استبداد! حتى لو كان المعتقَلون مذنبين فإن الإجراء متلبّسٌ بالخطأ والظلم والاستبداد، لأن السلطة التنفيذية لا يحق لها أن تتحكم في السلطة القضائية ولا أن تعلوَ عليها، إنما هي خاضعة وخادمة لها إذا كان النظام نظام عدل وقسط، وهي مسيطرة وسائدة عليها إذا كان نظامَ قهر واستبداد.

 

(وللحديث بقية)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين