استراحة فكرية على مائدة السحور

 

التفكير عملية ذهنية صعبة تلين مع المران، حتى تكون ممارسة طبيعية في الأمور التي تبدو عادية كما في الأمور التي تبدو صعبة، وهذه تعطي الإنسان متعة، وتكون لدى صاحبها منعة من الانقياد الأعمى وراء ما يرد إليه من أفكار. 

واللغة ممارسة حيوية للناس عامة، وممارسة حيوية هادفة للمتخصص يمكن أن ترافقه في عامة أحواله، وهذا ما يكون معي بعد صحبة طويلة مع اللغة العربية دراسة وتدريسا، وقراءة وكتابة، وإبداعا ونقدا.

في كتب النحو جملتان إعرابيتان ورد فيهما ذكر السمكة، ويقال: إن إحدى الجملتين ذات صلة بالطب.

أنا لست من آكلي السمك نظرا لبيئتي البعيدة عن الأنهار الكبيرة وعن البحر، وقد فوجئت من يومين أن رائحة قلي السمك تملأ البيت ومداخله ومخارجه، وربما تسربت إلى الجيران وأزعجتهم، ولو استشاروني لأشرت بتأجيل أكل السمك إلى ما بعد رمضان، ولكن الأمر تم، وسبق السيف العذل، كما يقال.

في السحور وضعت أطعمة خفيفة، ولاحظت أنه بقي جزء مهم من السمكة، بالتأكيد ليس الذيل، ولا الزعانف، وليس الحسك ولا الجلد.  

لقد بقي الرأس!! ومشكلتنا كما تعلمون في الرأس،   في الرأس أفرادا وجماعات..

نظرت إلى ابني الذي أحضر السمك، وقلت:

أبوك مدرس لغة عربية، ويقال: فرخ البط عوام    فلننظر هل ستعوم أم ستغرق!؟

1- في كتب النحو جملة تقول: (أكلتُ السمكةَ حتى رأسها)..

ما بعد حتى في هذه الجملة تقرأ على ثلاثة أوجه، ولكل وجه إعراب، يدل على معنى للجملة، فما هي!؟

نظر الفتى إلى رأس السمكة، وابتسم ابتسامة المندهش، وجالت نظراته بين رأسي ورأس السمكة، وعاد إلى رأسه يفتش فيه عن رأس السمكة، وإعرابه، بينما كانت يده  تتناول رأس السمكة على مائدة السحور وتجهز عليه!.

 وجد الفتى أن الذاكرة خالية من هذه المعلومة، والوضع لا يسمح له بالعوم،  فطلب المساعدة، فقلت:

 حتى رأسَها: بفتح السين، حتى حرف عطف، ورأس اسم معطوف على المفعول به (السمكة)،  والنتيجة أن السمكة كلها قد أكلت ولم يبق منها شيء.

 حتى رأسِها: بكسر السين، حتى حرف غاية وجر، ورأس: اسم مجرور، وهنا يتراوح المعنى بين كون الرأس مأكولا، أو غير مأكول، للخلاف في دخول الغاية في المُغيا، أو لا، أي أن ما بعد حتى يدخل في حكم ما قبلها أو لا يدخل.

 حتى رأسُها: بضم السين، حتى حرف ابتداء، أو استئناف. ورأسُ: مبتدأ مرفوع، وهنا يكون المعنى حسب تقدير الخبر المحذوف، ويتاح فيه عدة خيارات، أكلها، أو عدم أكلها، أو رميها للقطط التي تتلمظ وهي تنظر إليه، أو أكلها من قبل شخص آخر... وهكذا.

- هز الفتى رأسه وابتسم ابتسامة الرضا، بينما كان ينقي غضاريف رأس السمكة مما فيه من لحم قليل، غير تارك للقطط شيئا، وخاصة أنه دفع ثمنها من عرق جبينه.   

وتابعت الحديث قائلا: 

2- والجملة الثانية:(لا تأكل السمك وتشرب اللبن).

 وزعموا أن الجاحظ سخر من النحوي الذي أورد عليه هذه الجملة، فأكل السمك وشرب اللبن، فأصيب بالفالج (عافانا الله وإياكم)، وأنا إلى يومي هذا لا أعرف: هل المقصود باللبن هو ما نسميه الزبادي وما يخلط به الماء فيصير عيرانا وشنينة، أو أنه اللبن الحليب الذي هو أصل الإطلاق كما في الآية الكريمة: (...من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين).

وفكرة الجملة هنا في (وتشرب اللبن) التي تقرأ على ثلاثة أوجه، ويختلف المعنى حسب القراءة:

?- وتشربْ: بالسكون على الباء جزما، وتحرك بالكسر لالتقاء الساكنين.

وهنا الواو حرف عطف، وتشربْ فعل معطوف على الفعل (لا تأكلْ) المجزوم بلا الناهية. والمعنى هنا النهي عن أكل السمك وعن شرب اللبن كليهما. أي:  لا تأكل السمك، ولا تشرب اللبن.  

لماذا؟ لا أدري.. وأقرب تفسير هو البخل، لأن الحكاية متصلة بنوع ما إلى الجاحظ، وحكايات الجاحظ مع البخلاء معروفة، ولابد أن البخيل الذي نكبه الجاحظ بالسمك واللبن هو الذي أشاع خبر إصابته بالفالج انتقاما منه. 

?- وتشربَ: بالفتحة على الباء، وهنا الواو للمعية، والمعنى: لا تجمع بين أكل السمك وشرب اللبن، ويبدو أن بينهما عداوة، إذا اجتمعا تسببا في فتنة داخل الإنسان، وما أكثر الفتن والفتانين، أجارنا الله منها ومنهم  

ويعرب: تشرب: فعلا مضارعا منصوبا بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية،

?- وتشربُ: بالضمة على الباء، مرفوعا، ويكون الواو هنا ابتدائية أو استئنافية، وما بعده كلام جديد لا صلة له بما قبله، ويكون النهي عن أكل السمك فحسب، أما اللبن فلك حرية التصرف فيه شربا، وإهراقا، وبيعا، وإهداء.. حسب حاجتك.  

- ما رأيك يا فتى؟

كان الفتى قد أكل السمكة ورأسها، ومر على ما تشتهيه نفسه، وبدأ يتجشأ، بينما كنت مشغولا بالشرح والطرح، وتقليب وجهات النظر لأقول له:

من هذه الجملة البسيطة التي قد نظنها تسلية وعبثا؛.. من هنا يختلف المختلفون في دلالات الجمل ومعانيها إثباتا ونفيا، وفرضا ومندوبا، وتحريما وإباحة..

أترى يجوز لأحد أن يتكلم في معاني النصوص الشرعية، وأن يستخرج منها الأحكام وهو لا يكاد يقيم إعراب الكلمة حين يتكلم أو يقرأ، فينصب المرفوع، ويجر المنصوب، ويرفع المجرور، ولا يشعر بأثر ذلك في المعنى، ولا يدري من معاني الحروف هذه ودلالاتها في لغة العرب قليلا ولا كثيرا!؟

فالنصوص لغة، وغير المتخصص له منها ما يشتري بها ويبيع حاجاته، أما أن ينصب نفسه مفتيا في الحلال والحرام، وناقدا للأئمة الأعلام، فكالذي يدخل البحر من غير معرفة بالسباحة، ومن غير استعانة بأدوات العوم والنجاة، فإن غرق فلا يلومنّ إلا نفسه، والأخطر من ذلك أن يتسبب في غرق الآخرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين