ابحث عن العطش

صاحبي منهوم بالسماعات على الشيوخ والقراءات عليهم، وله شهوة جامحة للاستجازات وأن يقيَّد اسمه في الاستدعاءات، قد سمع الأصول الستة والموطأ مرارا على المسندين، وأخذ المسلسل بالأولية عن خمسمائة شيخ أو أكثر، ويروي سواه من المسلسلات بشروطها عن مئات ممن هب ودب، وسمع الغيلانيات، وجزء ابن عرفة، وجزء الأنصاري، والأدب المفرد، والأربعين النووية، وسائر الأجزاء والأربعينات على المعروفين وغير المعروفين، وجمع من الإجازات عبر الهواتف والشبكات ما يغبطه عليه الغابطون، وهو يخفى عليه تلفيق الملفقين وتدليس المدلسين، فيروي عن مدَّعين عن معمرين بينهم مفازات تنقطع دونها أعناق المطي.

صرف نفسه عن العلوم والفنون مجانبا لها جافيا، لم يدرس النحو والصرف والبلاغة واللغة والأدب، ولم يأخذ الفقه وقواعده وأصوله، ولا التفسير وأصوله والدراسات القرآنية، ولا الحديث وأصوله وعلومه، يقرأ الحديث فيخطئ في تصريف الكلمات وإعرابها، يقف على رأس كلمة لا يصح الوقف عليها، ويصل بين كلمتين تتنافران تنافرا، ينكر المعروف من اللغة والأساليب، وتجري على لسانه الشواذ والمناكير كأنها أمثلة فصيحة تناقلتها العرب الأقحاح وأئمة المعاني والبيان.

وصاحبي أيضًا مغرم بجمع المطبوعات واقتناء المخطوطات، حريصًا على اشتراء أحدث الطبعات بتحقيق أعلام المحققين، فما من كتاب إلا ومنه عنده طبعات، وقد بلغ شرهه للمخطوطات العجب العجاب، جمع صور المخطوطات النفيسة اللغوية والأدبية والفقهية والحديثية، مميزا بين خطوط المزي والبرزالي وابن تيمية والذهبي والعراقي وابن حجر تمييزا دقيقا.

وهو عن مطالعة الكتب في إعراض وتنكب، ومحجم عنها إحجاما، يتقاعس عن ظواهرها ويتعامى عن أغوارها، نابيا عن الوقوف على معانيها ومضامينها، لديه خزانة الفقه وهو أبعد ما يكون عن الفقه، ولديه كنز الأصول، وعلم الأصول أثقل شيء على عقله، ومدخر لكتب الحديث والرجال، وهو عن محتواها نافر أشد النفور.

فقلت له: يا صاحبي! إنك متشبع بما لم تعط، ولابس ثوب زور، ومتعالم على إخوانك من دون علم، وشر الناس ذو الجهل المركب، دع جشعك للسماعات والإجازات، وجنونك بالمطبوعات والمخطوطات، ولذ بناصح ليس على مذهبك، لا يحيف ولا يميل، واعتمد على رأيه ومشورته.

أخي! ارغب في العلم، وابحث عن ظمأ له، فإذا قوي دافع منك للطلب هُديت إلى الشيوخ، وأُوقفت على مصادر العلم إيقافا، يا ليتك استكشفت مفتاح السماع والكتاب، وهو التعقل والتفقه، ولن يتأتى التعقل والتفقه إلا لمتلمس طمَّاع، لا ينثني عن همه مهما وضعت في سبيله العراقيل والعقبات، حتى يقول الناس: بك داء عياء أصابك، استعصى على الأطباء علاجه، ويقولوا: إنك لمسحور، إلا أن للسحر رقية، ولا يُلفِينَّ المشفقون عليك الدهرَ راقيا.

أخي! لا تبحث عن الماء، المطلق والمقيد، وأنواعه الطبيعية والفقهية، ولا تجمع ماء البئر، وماء النهر، وماء البحر، والماء العذب الفرات، والماء المالح الأجاج، فإن ذلك لن يغني عنك شيئا.

ولكن ابحث عن العطش، فإذا عطشت استدر لك العطش الماء من فوقك ومن تحتك، واستمطر السحاب، واستنبط الأحجار والصخور، إنك أحوج إلى الظمأ منك إلى الشراب، وإلى الجوع منك إلى الطعام، عاهِدْ منذ اليوم معاهدة بحث عن العطش أقوى من المواثيق والعقود، وأبرَّ من الأيمان والنذور، وأوف بمعاهدتك بأحسن ما يوفي العهودَ زعيمُها، وتيقن أن لا يكتب الملكان عليك إلا بحثا عن معنى كلمة، أو فهم آية، أو فقه حديث، أو نظرا في مسألة، فارَّا عن الأسانيد الكاذبة الملفقة، والإجازات الباطلة المدلسة فرارك من الجذام والكورونا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين