إنَّ قولَ الحقِّ لم يدع لي صديقاً

 

1 - تلك كلمةٌ حكيم من حُكماء العرب، كانوا يُحكِّمونه في مشاكلهم، ويَرجعون إليه في أمورهم، إذا التبستْ واحتاجت إلى قلب مُشرق بنور الحكمة، وعقل مدرك، وانتهت به تجارِبُه، وقد ذَرَّف على التسعين أو جاوزها، إلى تلك الكلمة.

 أفتسري في هذا الوجود، وتشق ظلماته على أنَّها حكمة بالغة سائغة صالحة للتطبيق، لا تختلف فيها الأزمنة، ولا تضطرب حولها الأفهام، ما بين مُصدِّق مُذعن لها، وما بين مُنكر لمغزاها، غير مصدق لمؤداها، أم هي خاصَّة بعصر الجاهلية وما شابهه من عصور، حيث تظلم النفوس، وينطفئ نور القلوب، وتربد بالمعاصي فلا تُضيء؟

لعلَّنا نظلم الجاهليين إذا قلنا: إنَّها لا تُصدَّق إلا في عُصورهم، بل لعلنا نظلمهم إذا قلنا: إنهم كانوا دائماً يَلبِسُون الحق بالباطل، وأنَّ النِّفاق كانت تَرُوجُ سُوقُه في دِيَارهم، وبين أخبيتهم، نعم إننا نظلمهم إن قلنا ذلك، فإنَّ جهلهم بالحقائق الدينيَّة، وضلالهم في فهمها، وبُعدَهم عن الرشاد فيها قبل أن يجيئهم المرشدُ الأمين صلى الله عليه وسلم لا يرديهم في الكذب والنفاق؛ فإنَّ النفاق لم يكن من أخلاقهم، والصدق كان من سجاياهم، حتى إنَّك لترى أبا سفيان، وهو قائد الشرك في القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله هرقلُ عنه، فيأبى إلا أن يقولَ صادقاً، لا تدفعه إِحَنُه إلى كذب، ولا مُقاتلتُه إلى افتِرَاء، ثم يقول: لولا أني أخشى أن تُحفظَ عني كذبة في العرب لكذبت، وما دخلَ النفاقُ في أوساط العرب إلا من اليهود، وما كانت الآياتُ القرآنية الكريمة التي نزلت في النفاق والمنافقين إلا في اليهود ومن عاشَرَهم، أما العربُ الذين خلصوا من اليهود ومن جوارهم، فما كان فيهم كذب ولا نفاق.

2 – ولكن مع هذا قيلت هذه الكلمة في وسط الصحراء العربيَّة الصافية في سمائها وفي أرضها، وقالها حكيمها، فما السرُّ في ذلك؟ 

السرُّ هو شُحُّ النفوس، فالنفوس إن نَازعت شَحَّت، وإن خالفت جَفت، وإن اصطدمت خنست، [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {التغابن:16}، وفي هذه الحال يثقل الحق، ويخفُّ الباطل، وإن كانت نتيجة الحق خيراً، ونتيجة الباطل شراً، كما قال علي بن أبي طالب كَرَّم الله وجهَه: (الحق ثقيل مَريء، والباطل خفيف وبيء) أي: أنَّ الحق وإن كان ثقيلاً، فإنَّ نتيجته تستمرئها النُّفوس الطيِّبة، والباطل وإن كان خفيفاً فنتيجته تتأثَّم منها النفوس وتفسد بها الجماعة.

فالناطق بالحق يَستثقل قولَه ذوو الأهواء، وتشحُّ النفوس فلا تقبله، وقد قال الله سبحانه وتعالى عمن كانوا يحتكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيشقُّ عليهم حكمه إن خالفَ هواهم، ويُذعنون له إن وافقه قال تعالى كلمته: [وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(51) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ(52)]. {النور}..

3 – وفي هذا النصِّ الكريم إشارةٌ إلى أنَّ الذين لا يَخضعون للحق، خصوصاً إذا كان من حكم الله ورسولِه، لا يخلون من ارتياب، وذلك لتغلُّب الهوى، وسيطرة الشهوات، وحبِّ الأَثَرة دون الإيثار، ومادامَ حبُّ النفس هو المُسيطر، والهوى هو المُتحكِّم، فإنَّ الحقَّ ثَقيلٌ على النَّفس، إن رضيت به فمن غير إذعان، وإن سكتت عند سماعه فمن غير اطمئنان، وما دام الظلم مُسيطراً فالحق دائماً بعيد القبول، وأوامره لا يَستسيغها الإحساسُ والشعور.

ولقد قال حكيم الشعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى: 

والظلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإن تجدْ = ذَا عِفَّةٍ فلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمِ

ولسنا نُعمِّم في القضيَّة كتعميم ذلك الشاعر الحكيم، ولا نَرُدُّها في جُملتها، فإنَّه ما دام للعقل حُكمٌ يُنصت للحق، وما دامَ للإحساس والشعور حُكم قد يُناقضه، فإنَّه لن يكون كلُّ الناس خاضعين خضوعاً مُطلقاً للحق الذي يَنطق به الناطقون، ويُريده المخلصون، ويَطلبه الذين خلُصت نفوسهم من المنازع الشخصية، والمآرب الفردية وقليل ما هم، وكلما اشتدَّت الأَثَرة، وأصبح كل امرئ يعيش في مُحيط نفسه، ولا يُوسِّع أفقَ حياته، فإنَّه يُكثر التململ من سماع الحق والتأذِّي من المُجَابهة به، وتكون القَطيعة بين أهل الحق، والكثير من الناس.

وإنَّ النطق بالحق أمامَ الذين بيدهم أمرٌ من الأمر، كان يَنبغي أن يتقبَّلوه بقَبولٍ حَسَنٍ؛ لأنَّه مُعاونة على ما حَمَلوا من أمانة في أيِّ جانب من جوانب الأمة، وهو إعطاء صورة صادقة يَبْنون عليها أفعالهم، ليستطيعوا أن يتجنَّبوا الخطأ، وخطؤهم لا تقع مَغِبَّتُه عليهم وحدَهم، بل مغبَّتُه تعودُ على جزء من الأمة، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». [أخرجه مسلم]. فمن لم يُعط النصيحة حقَّها، مُخلصاً في أدائها، مُتجنِّباً إشاعة السوء عند بيانها، فهو لم يعطِ الإيمانَ حقَّه، ولم يقمْ بواجبه كاملاً، بل إنَّه ينقص من إيمانه بمقدار تقصيره في أداء واجب الحق، والنطق بالحق هو لبُّ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما خاصَّة الأمَّة الإسلاميَّة، ورباط جماعتها، وبها تكون قوة وحدتها، وتكون عزَّتُها.

4 – والنطق بالحق يؤتي أُكُلَه إذا وجدَ له سميعاً، ويثمرُ ثمرتَه إذا رأى له مُجيباً، وبمقدار قوَّة الاستماع إليه تكون السلامة في الحكم، والاستقامة في الرأي، والنزاهة في الفعل، ولقد عَلَّمَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم كيف نستعين في دراسة الأمور من كل جوانبها بسماعِ كلمة الحق وطلبها بالمشاورة استجابة لأمر الله تعالى: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ] {آل عمران:159}، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُغيِّر اتجاهَه في شؤون الحربِ بكلمةٍ يقولها من دونه في المقام والمنزلة، وهو الذي كان يُوحى إليه.

ولقد يحفظ التاريخ كلمتين لحاكمين أحدهما إمام، والآخر ملك، وفرق ما بين الكلمتين هو فرق ما بين إمام عادل، وملك من ملوك الأرض.

يروي التاريخ أنَّ رجلاً قال لعُمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتق الله) فقال بعض الجالسين: أو تقولُ لأمير المؤمنين اتَّقِ الله، فغضب عمر وقال: (ألا فلتقولوها، لا خير فيكم إذا لم تَقولوها، ولا خيرَ فينا إذا لم نَسمعها) تلك كلمة الإمام الذي لم يرَ تاريخُ الإنسانية أعْدلَ منه بعد النبيين.

أما الكلمة الثانية، فهي لعبد الملك بن مروان، فقال: (من قال لي اتَّقِ الله قطعتُ عُنُقَه).

والفرقُ بين الكلمتين هو الفرقُ بين حكم العدالة في سُمُوِّها القُدْسي، وبين حكم الأَثَرة وحبِّ الذات في انهوائه الأرضي، ولذلك ثَبَّتَ هذا حكمه بأمثال الحجَّاج الثقفي، أما عُمر فكان حكمه ثابتاً بحكم القرآن والعَدْل الذي قال رضي الله عنه فيه أنَّه قديم. وقال فيه: (الرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطل)، وما كان الرجوع إلا إذا سمع كَلِمَتَه، وأدَّى واجب الاستماع من غير تململ، وأذعن لها من غير غضب، ولم ينفِ عن صاحبها جلال الدين وكمال الأدب، وحبَّ الخير، بل إنَّ كلمة الحق تُقبل مُطلقاً، ولو كان قائلها لا يريد وجه الله تعالى بقولها، ويجب أن نَنتفع من الحق في ذاته من غير نظر إلى قائله، وقد قال في ذلك ابن المُقَفَّع: (خذو الحكمة أنى وجدتموها، فإنَّ اللؤلؤة الفائقة لا تهون لهوان غائصها الذي استخرَجَها) فالحقُّ ثابتٌ واجب الاستماع إليه أيا كان غَرَضُ قائله.

5 – بيد أنَّه إذا كان الواجبُ الاستماع إليه، فالواجب على قائله تسهيل قوله، ووضعه في حُلَّة لا تُنفِّر، ولا تبعد فليس كل إنسان كعمر بن الخطاب، بل فيهم من هو كعبد الملك بن مروان، ويجب أن يُوجَّه النصح إليه، ولا يتخلى عن أدائه له، وإلقائه عليه، وفي هذه الحال يكون النطقُ بالحق مُستلزماً أمرين: التَّحرِّي في الصِّدق وتعرُّف الحقيقة، والأمر الثاني: الأداء الذي لا تنفر منه نفوس الحاكمين، وهنا تكون سياسة القول، وحسن التأتي للأمور، والتعرف لأقرب الطرق في الوصول إلى قلوب الحكام من غير نِفَاق ولا رياء، ولا مِرَاء، وأن يَجِيء إليه من ناحية ما يحب ويشتهي، فيقرب ما بين الحق وهواه، حتى يكون هَواه معه، ولقد قال علي بن أبي طالب كَرَّم اللهُ وجهه: (إنَّ للقلوب شهوات، وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهواتها، وإقبالها، فإنَّ القلب إذا أكره غشي). ومن الناس من يَنْصَح فَيُغضِب، ومن الناس من يَنْصح فيُقَرِّب.

وإنَّ كلمة الحق المخلصة الخالصة لوجه الله تعالى إذا سَلك بها قَائلها طريق الحكمة والموعظة تكون دعوةً إلى سبيل الله كما قال تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {النحل:125}. وإنَّها حينئذ تكون الكلمة الطيبة التي قال الله تعالى فيها: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] {إبراهيم:24-25}.

6 – ومهما تكن طريق الدعوة إلى الحق، ومهما تكن الأشكال التي تُصاغ فيها كلمة الحق، فإنَّه يجب على المتصدِّي لأمرٍ يتعلق بالكافَّة سواء أكان كبيراً أم صغيراً، أن يتقبَّل الحق، وأن يكون ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، ولقد سمعنا كبيراً من زعماء السياسة يقول: إنَّ قبول الحق والاستماع إليه يحتاج إلى شَجَاعة وقوَّة جَنَان إذا كان ذلك يُخالف المنهاج الذي رسمه لنفسه؛ لأنَّ المنهاج قد أخذ جُزءاً من مَشَاعره وإحساسه والاستيلاء على المشاعر والأحاسيس يحتاج إلى قوَّة عزيمة وإرادة حَازمة مُسيطرة على نفسه، والسيطرة على النَّفس تحتاجُ إلى قوة تفوقُ قوَّة ارتكاب المشاقِّ والأهوال، وليسَ القوي هو الذي يُصارع الأحداث ويستولي عليها فقط، بل الذي يُصارع الأهواء النفسيَّة معها، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عَقِبَ رُجوعه من غَزوة غزاها: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وهو جهادُ الأهواء والأنفس (1). 

7 – وإذا كانت كلمةُ الحق في ذاتها صعبة الاحتمال، تحتاج إلى قوة نفسيَّة إذا كانت مُخالفة وليست مُوافقة، وكانت في صيغة صادعة، ولم تكن في عبارة عاطفة، فإنَّ الصداقة قد تَزيدها صعوبة، فتشقُّ الإحساس شَقّاً، ويتألَّم الصديق من صديقه إذا جابهه بعيبٍ فيه، أو خطأٍ في قول أو فعل فإنَّه إذا لم يكن ذا وعي وقدرة إدراك، وكانت المحبةُ وثيقة، ولم يعلمْ أنَّ خير الأصدقاء من يُهدي إلى صديقه عيوبَ نفسه، ولم يدهن معه في قول ليخفي عنه عيوبه، فإنَّه في هذه الحال يظنُّ أن تنبيه الصديق جَرح وقَطْع للمودَّة، وأنَّه كان يجبُ عليه أن يُداري ويُواري، ولا يصارح أو يجابه، ويظنُّ أنَّ المصارحة تَهَجُّمٌ والمكاشفة تجهُّم.

وإذا كان الصديق من ذوي المناصب، وممن لهم في الأمور العامة ولاية ويتبرَّمون بالنقد ولو حقاً، فإنَّ الصديق يصعب عليه أن يؤدِّي واجبه في قول الحق، فإذا قال له ما يَنبغي سراً أهمله، وإن قال له علناً ظنَّ أنَّه انضمَّ إلى خُصومه، ونزع ولاية الصداقة، وولاء المحبَّة، واعتقدَ أنَّه خصمٌ له، وليس ولياً، وحينئذ تذهب الصداقةُ ضَياعاً، إذ يكونُ الصديقُ بين أمرين لا ثالث لهما. إما أن يُدْهِنَ له في القول كما يُدهنون، وبذلك يكون قد شارك في إثم بالنسبة للصديق، إذ تركه يعمه في غَيِّه من غير إرشاد، وإما أن يقول له ما يراه حقاً، وفيه السداد، والوصول إلى الغاية من أقرب طريق مُستقيم، فإن كان صديقاً يعرف معنى الصداقة، فإنَّه سيختار الثاني مع ما فيه من قَتَاد(2)، ويترك الأول مع ما فيه من عافية.

وإذا اختار الثاني، ولم يكن صاحبه من الذين يَستمعون إلى الحقِّ، وكثير ما هم، فإنَّ الصداقة ستضيع، ولكن ولاؤه للحق يَبقى. وقديماً قال بعض الفلاسفة وهو أرسطو عن أستاذه أفلاطون: إنَّ أفلاطون صديقي والحق صديقي، ولكن صداقتي للحق أعظم، ورجَّحَ مُخالفته في الحق على صَداقته.

8 – لقد اختبرنا اللهُ تعالى اختباراً شديداً في ناسٍ كانت لهم في نُفوسنا مَنزلة، ولنا بهم مَودَّة كانت موصولة، وكنا نحسب أنَّهم يَطلبون منا أن نُعاونهم بكلمة الحق فيما عُهِدَ إليهم من أمور الكافَّة في بعض الولاية، فأردنا أن نضعَ خبرةً لنا في بعض عملهم، وخشينا أن يَقَعوا في خطأ فيَسيروا في غيرِ الطريق السويِّ، فوضعنا تحت أيديهم كلاماً كتبناهُ لغيرهم، ولم نُرِدْ أن نجعلَ الخطاب مُوجَّهاً لهم حتى لا يحسبوا أنَّ في كلامنا إرشاداً يَسْتنكفون منه، ولكن بمجرَّد أن وصل إليهم ظنُّوا بنا الظنون، وتجهَّموا للقائنا بعد أن كانت وجوهُهم تنطلق لنا في كل لقاء، وإن خاطبناهم سمعنا قَولاً خشناً مع اللقاء المُتَجَهِّم، ووجدنا أنَّهم يَسيرون في نقيضِ ما نعتقد أنَّه الحق.

ولم يكن ذلك من واحد بعينه، بل كان من كثير، ومن الناس من كانوا يُصادقوننا حَاسبين أنَّ لنا عند وُلاة الأمر مَكاناً، فلما ظنُّوا الأمرَ غير ذلك بكلمة حق قُلناها، قَطعوا ما بيننا، ونابذونا على سواء، وحُقَّ لي من بعد هؤلاء وأولئك أن أُرَدِّد كلمةَ أكثم بن صيفي: (إنَّ قولَ الحقِّ لم يدعْ لي صديقاً). 

اللهم عَوِّضنا خيراً مما فقدنا، وثَبِّت قُلوبنا على قول الحق، فإنَّك قد قلت وقولُك هو الحق الذي لا ريب فيه: [يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، (العدد الأول من السنة العشرون)، رمضان 1385 ديسمبر 1965

 

(1) [رواه البيهقي بسند ضعيف، قاله الحافظ العراقي في شرح الإحياء، نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء. وقال الحافظ ابن حجر: هو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة، وليس بحديث. نقله أيضاً العجلوني عن الحافظ في الكشف].

(2) (أي: صعوبة ومشقة، وأصل القتاد هو شجر فيه شوك).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين