إلى الدعاة أقول

 

وماذا بعد اللقاءات مع الدعاة – أئمة وقيادات –؟ 

سؤالٌ سأظلُّ أُردِّده بل ماذا بعد كل حديث ألقيت به إليكم؟ موقف سيبقى في ذاكرتي لا يتركني ولا أتركه.

ثم أعود إلى نفسي لأقول: إنَّها أمانة وبلاغ... ولكن كيف؟ ولماذا؟.

أما إنها أمانة فتلك هي التي حملتها وإياكم؛ أمانة الدعوة إلى الله تعالى وهي ساحة ندخلها مدخل الصادقين، ونبلغها بلاغ المؤمنين، ونخلص فيها ولها إخلاص الصابرين والمرابطين.

لقد قلت لكم – أبنائي الدعاة – خذوا مهمتكم بنية، وتناولوها بحسبة، فإنَّ الله تعالى لا يقبل إلا ما أُريد به وجهه، واعلموا أنَّ روح الدعوة إلى الله تعالى هي في أن نولِّي وجوهنا وقلوبنا شطره.

إنكم تعلِّمون الناس الخير، وتقودونهم إلى الرحمة، وتدفعون بهم إلى السلام والاطمئنان، وتأخذون بيدهم إلى طريق يلتقون فيه مع القول الطيب، والعمل الطيب، فاحرصوا على مهمتكم، واستمسكوا برسالتكم، فإنَّ الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً.

إنكم تحملون في قلوبكم القرآن، وتضمُّون صدروكم على آياته، وأي عطاء أوسع نماء، وأرحب ثراء من عطاء القرآن؟ أسمعتم قول رسولنا صلوات الله عليه وآله (من قرأ القرآن ثم رأى أنَّ أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظّمه الله تعالى) قال العراقي: رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بسند ضعيف اهـ..

وإذن فليكن لكم من القرآن الكريم ثروتكم تواجهون بها الحياة، بلا خوف يُبدِّد اطمئنانكم، ويزلزل قناعتكم، ويهز يقينكم، فإنَّ بينكم وبين الله صلة موصولة، صَوَّرها رسولكم في قوله: (أهل القرآن أهل الله وخاصته)، واسمعوا النداء المطمئن في قول ربكم: [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:96}.

أبنائي الدعاة:

إنَّ عالم اليوم له حضارته التي ملأت حياتنا، وزُيِّنت بها دنيانا، وأحاطت بنا من كل جانب، فهي في بيتنا، وعملنا وطريقنا، بل هي في ليلنا ونهارنا، ولقد شَكَّلت تلك الحضارة أنماطاً للحياة والمجتمع لم تكن من قبل، وفرضت علينا نظماً وتقاليد لم يسبقْ لنا بها عهد، ولقد انعكس كل ذلك على واقعنا الحاضر فواجهنا مشاكل التأخُّر الاقتصادي، وتغير البنية الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وهذا هو واقع بيئتكم وعالمكم، وعليكم أنتم كقادة فكر ودعاة حق وخير، أن تواجهوا تلك المعطيات بفهم مُستنير، ووعي مدرك، وبحكمة مؤمنة، أنَّ في قرآننا، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم ومأثورات سلفنا، والصحيح من تراثنا، ما يُعيننا على كل ذلك، وإذن فليكن فهمنا عميقاً لقوله تعالى: [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}. إنَّ الآية تدعو إلى رفض للشلل الفكري، والقيد العقلي، حتى تثري حياتنا العلمية بالتحليل والبحث والنظرة الثاقبة: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا] {النمل:69}.

إننا لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن المجتمع، وإلا تجاوزتنا الحياة، كما أنه ليس بإمكاننا أن نوقف حركة المجتمع وإلا كان ذلك عداء للإنسانية، وما علينا إلا أن نعيش مع الحياة والأحياء، في غمارهم ووسط مشاكلهم، هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، وذلك بالكلمة الطيِّبة، والدعوة الحكيمة، بالعبارة النقيَّة، والأسوة الكريمة، بصفاء العابدين، ونقاء المحسنين الورعين، ذلك منهجنا الذي ينطق بالحق: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125}. وتلك هي طريقتنا مع الناس، وبالناس ذلك لأننا حملة أمانة، أورثنا الله إياها (فالعلماء ورثة الأنبياء). 

إنَّ سبيلنا هو الرفق والحلم (فإنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله) وحينما ذهب معاذ ابن جبل وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن، أوصاهما سيد الدعاة صلوات الله عليه وعلى آله: (بَشِّرا ولا تُنفِّرا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا...) قضية تزدهر بها آمال الإنسان، وتنفتح بها آفاق الرجاء، إنَّه توجيه يقول به رسولكم للحياة. 

إنَّ إسلامنا يرفض اليأس فاملأوا صدوركم بالبشرى، إنَّ عقيدتنا ساحة لا مكان فيها للمُثبِّطين، انتظروا الفجرَ فإنه لن يدوم الظلام، وليكن شعاركم الذي تواجهون به صعاب الحياة: [إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا] {الشرح:6}.

أبنائي الدعاة:

تلك هي دعوتنا للناس، صياغة الله وصنعته، ومنهج رسمت إطاره يد الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] {يوسف:108}، ومن داخل ذلك الإطار عاش دعاتكم الأوائل كراماً بعقيدتهم، وأباة بقرآنهم، فأعزُّوا أنفسهم، واعتزَّت بهم مجتمعاتهم، وخلَّد اللهُ على الأيام ذكرهم. 

ويرحم الله الفضيل بن عياض حين يقول: (حامل القرآن حامل راية الإسلام، فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من سهو ولا يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن).

أبنائي الدعاة:

إنَّ مجتمعكم يَنتظر عطاءكم، وهو لن يُسْلِمَ لكم قِيادَه، ويمنحكم حُبَّه وتقديره، إلا إذا أحسَّ جُهداً تبذلونه، وعرقاً تعطونه، وأياماً وليالي تَعيشون له ومن أجله. 

صنع ذلك من قبل رسولكم، وعاناه معه صحابة نبيكم، وكان هذا قدر الدعاة لله في كل عهد وزمان، وتلك هي سُنَّة الله في خلقه ولن تجدَ لسنَّة الله تبديلا، فأحسنوا قراءة تاريخكم، واستلهموا أحداثه، فالتاريخ معلم، والذكرى تنفع المؤمنين.

أبنائي الدعاة: 

إنَّ حياة الداعية رحلة دائبة ومُستمرة، لأنَّها سعيٌ دائم إلى ذكر الله تعالى، مع نفسه، ومع من حوله، فهل عرفتهم منهج المرحلة التي تنتظركم بعد حديثي هذا؟ هل عرفتم أسلوب ذلك المنهج ومضمونه؟.

إنَّه منهج كل رحلة، في كل يوم، وفي كل حالة، في كل بيئة وفي كل عصر، لأنَّه المنهج الذي صاغته يدُ الله تعالى فهو منهج ذو ميلاد مُتجدِّد، ثم أقول: يا دعاة الله، كونوا مع الله بالتقوى والإحسان: [إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] {النحل:128}.

الدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة التي سيظل صوتها عالياً ونداؤها مُتجدِّداً وشبابها دائماً، لأنها مع الإسلام، وإسلامنا مع الحياة في رفقة أبديَّة إلى أن يأذن الله تعالى.

الدعاة الصادقين مع ربهم ومع أنفسهم لا ينتظرون أجراً، ولا يمرون بأعينهم إلى دنيا، قانعين بشرف الاختيار الذي كرَّمهم الله تعالى به حين اصطفاهم لدعوته تقاةً أبراراً هداة أطهاراً قد اطمأنُّوا إلى أنَّ ما عندَ الله خير وأبقى.

أبنائي الدعاة:

إنَّ ربكم يقول: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:97}.

فهل لنا أن تملأنا الثقة في تكريم الله تعالى للصالحين، ووعده للعاملين؟ هؤلاء الذين آمنوا بيقين بقول ربهم: [وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:6}.

إنَّ عطايا الله لا تحصر، ومِنَّتَه لا تقصر، ولن تكون المادة إلا جانباً من عطاياه سبحانه، فليكن تأملنا عميقاً في رزقِ الله الواسع، علمٌ يُفيضه، أو خُلُق يَمنحه، أو اطمئنانٌ يَهبه، أو قناعة راضية، أو ذريَّة صالحة، أو عافية سابغة، وصدق الله العظيم: [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {النحل:18}.

أبنائي الدعاة:

تظلُّ (الكلمة) أبداً حبيسة حروفها إلى أن يَلدها فمٌ طَاهر، ولسانٌ صادق، وإنسان نبيل شريف، وحينئذٍ تَأخذ مَسْرَاها إلى قلوبِ الناس، ومجراها إلى عقولهم.

ومن هنا فإنَّ (مكانة وخطورة الكلمة) تأتي من انتسابها إلى صاحب لها، عُرِفَ له قدرُه، وعلم الناس من صدق دينه، فاتخذوه قدوةً، ورضوه أسوة، وبهذا كانت مسؤوليتكم كبيرة، ورسالتكم خطيرة جليلة، هي مسؤولية المصلح، الذي لا يغفل عن نفسه، ولا ينسى شأن مجتمعه، فيتداوى قبل أن يداوي، ويسعى لشفاء نفسه قبل علاج غيره، ذلك أنَّ المريض لا يداوي مريضاً.

انطلقوا إلى ساحات مجتمعكم، فأنتم دواء تلك الساحات، به تشفى، وعليه تصح، إنكم تحملون كلمة الله وهي خير الشفاء: [وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] {الإسراء:82}. وإذن فأنتم في كل مكان، وعلى كل درب، تنيرون الطريق، وتُمَهِّدون السبيل، وتنطقون الخير، وتنشرون الحبَّ والرحمة، وطوبى لصانعي الخير، وواهبي البرَّ لبني الإنسان.

تناولوا تراثكم بوعي التقيِّ، وحكمة الوَرِع الذكي، وتحضير المسلم المتفتح، إن النصوص التي بين أيديكم يمكن أن تفتح لكم أبواباً للفهم، وسبلاً للتطبيق، لو وكلتموها إلى عقل مُنصف، وإدراك شجاع، فلا تديروا ظهوركم إلى ما تَفرضه حياتكم المعاصرة، ولا تخشوا الجديد الذي يشكل جوانب من واقعنا، حسبنا أن نقرأ بتدبر وعمق قول الله تعالى: [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}، وآيات كتابنا وسعت رحمتها كل شيء، وحينئذ سيجد أبناء مجتمعكم من دعاة الإسلام الحل الذي يرقبونه، والنصيحة التي يتطلعون إليها، والهداية الجادَّة التي تعرف لذلك المجتمع حقَّه من الرعاية، وحقه من الصيانة، متبصراً بها حلال دينه من حرامه، على هدى وبصيرة.

أبنائي الدعاة:

أقرأتم قول ربكم: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النور:19}.

إنَّ أدب الإسلام يفرض على الداعية ما فرضه ربه على نبيه منذ بداية بعثته حين يقول له: [وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] {المدَّثر:5}، فلتعف ألسنتنا، ولتتطهر عباراتنا، ولا نأت منكراً من القول وزوراً، ولنتبيَّن، ولنتثبت، فجمهورنا في حاجة إلى إمام هادٍ أكثر منه إلى قائل صارخ، ورسولنا صلوات الله عليه وعلى آله يقول: (يا عائشة إن الله لا يحب الغليظ من القول).

أبنائي الدعاة:

لتكن عين لكم على أنفسكم، تربية وعلماً، حتى تكونوا القدوة الصالحة، ولتكن العين الأخرى على مجتمعكم رعاية وهدايةً، وبراً ورحمة، وصدقاً وعِفَّة، ذلك هو الذي يجعل منكم هُداة المجتمع وروَّاده، وأنتم بحمد الله تعالى مُهيَّأون لتلك المكانة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الأربعون، جمادى الآخرة 1402 - العدد 6 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين