إخراج القيمة في صدقة الفطر

قالوا: ما حكم صدقة الفطر؟

قلت: ذهب عامة الفقهاء إلى فرضيتها، قال البخاري في صحيحه: ورأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: وقال جمهور من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم: هي فرض واجب على حسب ما فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينسخها شيء، وممن قال بهذا : مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، قال إسحاق: هو الإجماع.

قلت: ذهب أبو حنيفة إلى وجوبها بناء على مذهبه في الفرق بين الفرض والواجب في العبادات.

قلت: وقد شذ بعض الناس إذ قالوا بسنيتها أو استحبابها.

قالوا: ما أصح حديث ورد في صدقة الفطر؟

قلت: هو ما أخرجه الشيخان عن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وما أخرجه الشيخان أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب.

قالوا: ما معنى الطعام في الحديث؟

قلت: هو القمح أو البر.

قالوا: فمن أين قال أبو حنيفة بنصف الصاع في البر، وبالصاع في غيره؟

قلت: هو للحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة فتكلم فكان فيما كلم به الناس إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر، قال: فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون من كل شيء صاعا وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: من كل شيء صاع إلا من البر فإنه يجزئ نصف صاع، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة يرون نصف صاع من بر.

قالوا: وهل يجب على المتصدق أن يخرج نوعا من هذه الأنواع المطعومة؟ أم يسعه أن يخرج قيمتها؟

قلت: اختلف الفقهاء في ذلك، فاختار مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أن يخرج نوعا من الأنواع المذكورة في الحديث، ولا يعدل عنها، وخيَّر الحنفية بينها وبين قيمتها، وهو قول عمر بن عبدالعزيز، والحسن البصريّ، وسفيان الثوريّ، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وهو وجه عند الشافعية، ورواية في مذهب أحمد، وهناك رواية ثالثة في مذهبه وهي أنه يجوز إخراجها بالقيمة إذا اقتضت ذلك حاجة أو مصلحة، وهذه الرواية هي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.، رحمهم الله تعالى

قالوا: ما رأيك في المسألة؟

قلت: ما أنا إلا من أتباع الأئمة الفقهاء، قالوا: قد اختلفوا، فمن ترى قوله أوفق بالصواب.

قلت: من وسع على الناس، فخير بين الأطعمة وبين قيمتها حسب أحوال الناس وظروفهم.

قالوا: أو لا ترى هذا القول مخالفا للحديث الصحيح؟

قلت: لا، فقيد الطعام في الحديث قيد عادي، لا قيد احترازي، وهو واضح من سياقه، ومن إدخال بعض الصحابة غيره فيه، ومن يستريب أن الأوفق لمراعاة مصلحة الفقراء وكذلك مصلحة الأغنياء في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو إخراج تلك الأنواع؟ ولو أن الأغنياء أخرجوا من الدراهم والدنانير لاحتاج الفقراء أن يبتاعوا بها الطعام لحاجتهم إليه في ذلك اليوم. والأوفق لمراعاة مصلحة الفقراء ومصلحة الأغنياء في غالب المجتمعات البشرية في عهدنا هو إخراج النقود، وقد يحتاج الغني إلى إرسال صدقة الفطر إلى بلد أفقر من بلده، ويتعسر جدا حينئذ إلزامه بإرسال نوع من أنواع الطعام أو إلزام غيره باشتراء الطعام نيابة عنه. وروى البخاري في صحيحه تعليقاً أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: "ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم.

قالوا: ما تقول فيمن يلزم إخرج الطعام ملحا على ذلك ومشددا تشديدا؟

قلت: ما أبعدهم عن فهم هذا الدين وتفقه أقوال الأئمة، فإنهم يجلبون بذلك مشقة على الغني والفقير، فيضطرون الغني أن يشتري الطعام بماله ويتصدق بالطعام، ثم يضطرون الفقير أن يبيع ذلك الطعام ويحصل على مال نقدي، فانظروا كيف جلبوا المشقة والتعسير على الخلق، ولو تفقهوا هذه الشريعة لعلموا أن روحها جلب المصلحة للناس والتيسير لهم.

قالوا: إنهم يقيسون صدقة الفطر بالأضحية، ولم يبح أحد من الفقهاء دفع قيمة الأضحية إلى الفقراء بدل التضحية بالأنعام.

قلت: بئس القياس هو، ولم أسمع في قياس القائسين بقول أفسد من هذا. قالوا: اشرح لنا فساد هذا القياس، قلت: فساده من وجوه:

الأول: أن الغرض من الأضحية هو إهراق الدم نيابة عن سنة الخليل إبراهيم عليه السلام، إذ امتثل أمر ربه في ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فلما أسلما وتله للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وأمره أن يذبح بنعجة مكان ولده، فأبقى الله هذه السنة تذكيرا بذلك الإسلام وبذلك الذبح العظيم. أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين، فانظروا كيف حث على الذبح، وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما عمل آدمي من عمل يوم النّحر أحبُّ إلى الله من إهراق الدّم، إنّها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا، وأخرج ابن ماجه وأحمد عن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: بكل شعرة حسنة، قالوا: فالصّوف يا رسول الله؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة.

وليست صدقة الفطر إلا طهرة للصائمين وطعمة للمساكين، أخرج أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، والطهرة والطعمة تتحققان بما ورد في الحديث وبغيره مما في معناه.

والثاني: أن الأضحية ليست صدقة، فتراعى فيها مصالح الفقراء، بل هي عبادة مستقلة، ومن ثم يأكل منها المضحي بنفسه، ويطعم منها الأغنياء والفقراء، ولو اقتصر بها على أهله أو على الأغنياء لجاز.

ولا يجوز للرجل أن يتصدق بزكاة الفطر على نفسه أو أهله الأقربين أو الأغنياء، بل لا بد أن يخرجه للفقراء.

والثالث: لم ينص القرآن والسنة في الأضحية إلا على الأضحية، ولم يرد فيها تنويع، وذلك أمر اجتمعت عليه الأمة في كافة الأمصار والأعصار، وأقْبِح بالإنسان أن يجعل الأمر المختلف فيه كالأمر المجمع عليه.

وصدقة الفطر فيها تنويع، إذ قال: صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب، والتويع يقتضي التخيير بين ما ذكر وبين ما كان في معناه، لأن الإنسان البليغ لا يحصر كل الأنواع، وإنما يأتي ببعضها مثالا، وهذه الأنواع لها قيمة شرعا، فيشمل التنويع القيمة.

والرابع: وهو أمر مهم للغاية، وهو أن القياس الصحيح، مهما كان قياس علة أو قياس شبه، أن تجمعوا بين المتماثلين، وتفرقوا بين المتخالفين، وهو أمر دقيق جدا يتبين منه فقه الفقيه، فإذا أردتم القياس فيما نحن فيه، فهو أن تقيسوا الأضحية بالحج والعمرة، وأن تقيسوا صدقة الفطر بالزكاة وعامة الصدقات والكفارات، فمثلا: خير الفقهاء بين أن إخراج زكاة الذهب والفضة ذهبا وفضة وإخراج قيمتها، وصدقة الفطر تماثلها أبلغ مماثلة، فإياكم إياكم أن تفرقوا بين المتماثلين، وأن تجمعوا بين المتخالفين، فتكونوا من أبعد الناس عن الفقه والفهم.

قالوا: فما توصينا؟ 

قلت: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن لا تغلوا في دين الله، وأن تيسروا على المسلمين دينهم غير معسرين، ورضي الله عن الأئمة الفقهاء أبي حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والبخاري، ومن بعدهم ممن اتبعهم أو اختلف عنهم ورضي عنا معهم أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين