أنا كافر؟!

 

أعوذ بالله أن أعود إلى الكفر بعد أن نجّاني الله منه؛ إنما أنقل -بصيغة المتسائل المدهوش- التهمةَ التي رُميتُ بها عشرات المرات، آخرها في رسالة غاضبة وصلتني أمس من فتى جاهل، تدل كتابته على سنّه وعقله، يطالبني بالعودة إلى الإسلام وتجديد الإيمان لأنني كفرت بقبولي بالديمقراطية ودعوتي إليها.

إنّ من سمات الجهّال أنهم يأخذون أنصافَ الكلام وأرباعَه وأعشارَه ويَبْنون عليه الأحكام التي يتنزّه عن إطلاقها كبارُ العلماء. ومتى قبلت أنا بالديمقراطية بكل مكوناتها دون تفريق بين فلسفتها وأدواتها؟ هل يوجد شيء من هذا في منشوراتي الظاهرة، أم أن عندي منشورات علنية وأخرى سرية لا يطّلع عليها إلا الأصفياء والأولياء؟

نعم، لقد دعوت إلى استثمار "أدوات الديمقراطية" في الحكم الإسلامي الرشيد، دعوت إلى الانتخابات العامة والاستفتاءات وتداول السلطة وفصل السلطات والرقابة على الحكام والحرية السياسية وضبط المال العام، ولكني لم أدعُ يوماً إلى تبنّي الأساس الفكري والفلسفي والاعتقادي (الأيديولوجي) للديمقراطية.

وكيف أفعل وأنا مسلم ملتزم أعتزّ بإسلامي وأرفض ما يخالفه؟ ولماذا أفعل وأنا أعلم أن لدينا في ديننا الذي تدين به أغلبيةُ سكان بلادنا الساحقةُ أساساً نظرياً وفلسفياً وأيديولوجياً متكاملاً لنظام سياسي عادل ومجتمع حرّ كريم؟

* * *

أنا لا أخجل من الجهر بما أعتقده حقاً، بل أرى أن عدم الجهر به تقصيرٌ أستحقّ اللومَ عليه، وها أنا ذا أكرر بوضوح وجلاء وفي ثلاث نقاط موجزة ما كتبته متفرقاً مرات كثيرة، على أن أعود إلى هذا الموضوع المهم في يوم آتٍ فأفصّل فيه القولَ إن شاء الله.

1- الديمقراطية لا يُحكَم عليها كمنظومة جامدة، لا رفضاً ولا قبولاً، بل يجب تفكيكها إلى مكوناتها الأوّلية والحكم على كل منها مستقلاً عن البقية، فما وافق الشرعَ وحقق المصلحة أخذناه وما خالفهما رددناه. إذا صنعنا ذلك وفصَلْنا أدوات الديمقراطية عن قاعدتها الفكرية ومنظومتها الفلسفية والأيديولوجية فسوف ننتهي إلى نبذ الجزء الأكبر من أفكارها وفلسفتها التي تتعارض مع الإسلام، ولكننا سنجد أن أدواتها من أنفع ما طوّره البشر من آليات للحكم وحل مشكلة التنازع على السلطة.

2- أنا لا أشك أبداً في أن نظام الانتخابات العامة هو أفضل طريقة في زماننا الحاضر لاختيار أهل الشورى أو أهل الحل والعقد (أو مجلس الأمة أو مجلس الشعب أو البرلمان، المهم المسميات وليس الأسماء)، أما الحاكم فإما أن يختاره البرلمان أو ينتخبه الشعب بانتخاب حرّ مباشر، والطريقة الأولى -في نظري- أفضل بكثير. ولا حجّةَ لمن يقول إن في نظامنا الإسلامي بديلاً عن الانتخابات، لأن الأمة لم تطوّر مثل هذا النظام قط، لم تطوره لأنها لم تحتَجْ إليه من سنة 41 هجرية إلى اليوم، بسبب استلاب حريتها ومصادرة قرارها وتحوُّل الحكم الراشدي الشوريّ إلى مُلك وراثي عضوض.

3- أنا معارض (وسأظل معارضاً إلى آخر يوم في حياتي) لأي طريقة في الحكم تتجاهل إرادة الأمة وتصادر حقها الطبيعي في الاختيار. وأنا معارض (وسأظل معارضاً إلى آخر يوم في حياتي) لأي حكم جَبْري يأتي بالتغلّب ولو كان حكماً إسلامياً، لأن التاريخ يقول إن الإسلام يذهب والحكم الجبري يبقى، ولأن الشرع والفطرة يقولان إن الإسلام والاستبداد نقيضان لا يجتمعان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين