يا من جرائم بشعة ارتكبت باسمها ، وكم تاجَر بها المتاجرون ، وكم نصب ألدّ أعدائها أنفسهم متحدّثين باسمها وحماةً لحماها ، وكم انتظرت الشعوب العربية المطحونة بزوغ فجرها لتتخلّص من الدكتاتورية التي ترزح تحت نيرها منذ الاستقلال الصوري وتنعتق من حكم العجائز و الأنظمة الوراثية( الملكية والجمهورية) وتنعم بالحريات الفردية و العامة ، و تساهم في تسيير شؤون بلادها مساهمة فعلية لتحقيق التنمية والخروج من التخلّف الذي ارتكست فيه بسبب سياسات النخب العلمانية المستبدّة.
وكم تغطرس علينا الغرب بديمقراطيته وكال لنا أنواع التهم لأننا لم نعتمدها في حياتنا السياسية ، وقرّر في وقت من الأوقات ان يصدّرها لنا رغمًا عنّا وان يفرضها علينا قسرًا ...فلمّا قالت الأحداث كلمتها الحاسمة تنكّر لتعهّداته وللديمقراطية ذاتها وحفر قبرها في بلادنا وعاد إلى تأييد الدكتاتورية وتبييض وجوه الاستبداد والشمولية ، فكيف لا أكفر بهذه الديمقراطية ؟ لطالما آمنتُ – مثل كلّ العرب - بوعودها البرّاقة وعملت من أجل إقامة صرحها لتخليصنا من الاستعباد والتفاهة والتخلّف ، فإذا هي تغدر بنا كلّ مرّة وتخذلنا وتحوّل فرحتنا إلى مأتم ونحيب.
بدأ ذلك في الجزائر حين تجرّأ الرئيس الشادلي بن جديد رحمه الله فأقام أوّل تجربة ديمقراطية حقيقية ليست صورية ولا انتقائية ، وعشنا ثلاث سنوات رائعة احسسنا فيها لأوّل مرّة بإنسانيتنا ونعمنا حقّا بالاستقلال والحرية وأثبت الشعب انه كغيره من الشعوب قادر على تجسيدها وتعلّم آلياتها ، فقد كانت الأحزاب الكبرى – على سبيل المثال – تنظّم طيلة تلك الفترة مسيرات مليونية في العاصمة والمدن الكبرى ، لم يتخلّلها أي حادث إطلاقا ولا وقعت حتى رمية بحَجَر ، فقد كان التحضّر سيّد الموقف خلافا لادّعاءات النًّخَب المنقطعة عن الأمة ، ولمّا قالت صناديق الاقتراع الشفّافة كلمتها ثمّ كرّرتها باختيار التيار الإسلامي رأى العسكر كالعادة أن الشعب قاصر لا يحسن الاختيار وأن لا بدّ له من وصيّ عليه من الجنرالات وغلاة العلمانيّين ، وقاموا بانقلاب من أجل...حماية الديمقراطية ، ومن ذلك اليوم رجعت الجزائر إلى الديمقراطية الشكلية التي تحاول تغطية الوجه القبيح للممارسات الدكتاتورية ، وتبخّرت الأحلام وسالت الدماء انهارَا وبارك الغرب الانتكاسة لأنها أبعدت البعبع الإسلامي عن مناطق نفوذها ، فكيف لا أكفر بالديمقراطية؟
وزاد كفري بها بعد أن تآمر هذا الغرب ومعه النخب العلمانية العربية المتوحّشة على الثورات الشعبية التي أطاحت بالمستبدّين الواحد تلو الآخر في هبّة جماهيرية عفوية وصل بها ضغط الحكّام الظلَمة حدّ الانفجار ، وبانت أمارات الحرية والديمقراطية لكنّ هذه الديمقراطية " الغبية المتنطّعة " خذلت مرّة أخرى التغريبيّين الذين ألِفوا ممارستها في الصالونات المكيّفة والعواصم الغربية بعيدا عن الجماهير ومطالبها ، ونطقت الصناديق مرة أخرى بالخيار الشعبي المنحاز للأصالة والنفَس الجديد ، رافضا للمرّة الألف النخب التغريبية التي ترعرعت في ظلّ الأنظمة المستبدّة ونظّرت لها وصاحبتها طويلا في منهج إذلال الشعوب وقمعها ، فما كان من العسكر وغلاة العلمانيّين إلا إعلان إفلاس الديمقراطية والصندوق الشفاف والخيار الحرّ ، ولعنوا الثورة التي كان يزعمون - ما في مصر – أنهم رجالها و حماتها ، وحوّلوا ملامحها الجميلة إلى دماء أشلاء ودموع ودخان ، واتّهموا الملتزمين بأدواتها ونتائجها بالإرهاب ، ووأدوا أحلام الملايين وجعلوهم يلعنون الديمقراطية... فكيف لا أكرهها ؟
أجل ، أكره الديمقراطية التي يبشّر بها غلاة العلمانيّين العرب لأنهم شوّهوها وحرفوا ّمعانيها ، وأكرهها عندما يرفع الغرب شعارها ويدعونا إلى تبنّيها بينما يحرس الأنظمة الدكتاتورية في بلادنا ويرعاها ويحمي هؤلاء الملوك والأمراء والرؤساء والزعماء الذين نغّصوا على الأمة حياتها باستبدادهم وفسادهم ، وأكرهها عندما تلوكها أفواه الجنرالات الذين لم يخوضوا أيّ حرب إلاّ ضدّ شعوبهم ، ويُقسمون أنهم ما خرجوا من الثكنات إلا لحماية ... الديمقراطية ، ودليل صدقهم هذه المعتقلات المليئة بمن اختارهم الشعب لتمثيله وتسيير شؤونه وهذا المحاكمات الصورية الظالمة للشباب والفتيات المتمسّكين بالشرعية ، وهذه الدماء البريئة التي تسيل فداء لجمهورية الضبّاط الديمقراطية...فكيف لا أكفر بهذه الديمقراطية ؟
وأحوال تونس جعلت كرهي للديمقراطية يتضاعف ، فالمؤامرة عليها واضحة مكشوفة ، يحرّكها بكلّ تبجّح أدعياؤها الذين يزعمون أنها حكر عليهم ، واستطاعوا – من أجل إجهاضها – تجنيد أندادهم في التطرّف من المنتسبين إلى الإسلام بغير علم ولا وعي ، لخوفهم المَرَضي من صناديق الانتخاب ، ولولا تنازل حركة النهضة المتتالي عن حقوقها لحدثت الانتكاسة ولما صدر دستور ولا بقيت ثورة ، ولا ندري ماذا ينتظر تونس في المستقبل القريب ، فكيف لا أكره هذه الديمقراطية المتلوّنة الخدّاعة المتقلّبة المزاج ؟
الحُكّام العرب – وفي مقدمتهم الأُسَر الحاكمة في الخليج – يُبغضون الديمقراطية لأنها ستزيل عروشهم لصالح الشعوب ، والنًّخَب العلمانية المتطرّفة تًبغضها لأنها تكشف كلّ مرّة حجم التغريبيّين الحقيقي رغم ضجيجهم وتعرّي مزاعمهم وألاعيبهم أمام الرأي العام ، وأنا أيضا أكره هذه الديمقراطية التي ما زالت لم تًطح بهؤلاء وأولئك لنتنفّس في بلادنا هواء لم يلطّخوه بممارساتهم الإجرامية ... حينها فقط سأحبّ الديمقراطية .
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول