أقسى العقوبات الإلهية 

روى الشيخان عَنْ أَبِى وَاقِدٍ اللَّيْثِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَهَبَ وَاحِدٌ ، قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا ، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ ، فَآوَاهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا ، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ »

أحبتي في الله : 

إن من أقسى العقوبات الإلهية التي تطال المرء في حياته إن عوقب إعراضَ الله تعالى عنه ... وإعراضُ الله تعالى ليس ظلماً وعدواناً تعالى الله عن الظلم علواً كبيراً ... ولكنه من جنس عمل الإنسان ... ( أعرض فأعرض الله عنه)

وإذا كان المحبون يتأذون من إعراض محبوبيهم عنهم، ويرونه جحيماً لا يطاق، وعذاباً مُرَّ المذاق ... كما يقول أحمد شوقي : 

خَدَعوها بِقَولِهِم حَسنـــــــاءُ=وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَنــــــــــــــــــاءُ

أَتُراها تَناسَت اِسمِيَ لَمـــــــــــّا=كَثُرَت في غَرامِها الأَسمــاءُ

إِن رَأَتني تَميلُ عَنّي كَأَن لَم=تَكُ بَيني وَبَينَها أَشيــــــــــــــــــــــاءُ

إذا كانوا كذلك فإن إعراض الله تعالى عن عبده- وله المثل الأعلى - أشد وقعاً على النفس، وأبلغ أثراً في الروح ... روحِ من يرى ذلك شيئاً كبيراً ... ونفسِ من يعظم عنده إعراض الله تعالى عنه .... أما الذي لا يرى ذلك شيئاً عظيماً فلا حديث لنا معه . 

وإعراض الله تعالى عن عبده له صور وحالات ، فهناك المقت ... ومن علامة المقت إضاعة العبد للوقت كما قال أحد السلف . 

وهناك البغض ... روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ "، وهناك سلب النعمة وتجريد الإنسان مما في يده من آلاء الله ... هذا إذا لم يشكر الله تعالى عليها ... إذا قصر في شكرها بعصيانه ربه ... 

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ 

وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ *** فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

إذا قصّر في شكرها بتعطيلها ...بتأخيرها عن الناس ... بمنع المنافع عنهم... روى الطبراني في الكبير والأوسط وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم ".

قد يقيمك الله تعالى في منصب ... وقد يمنحك جاهاً ... وقد يهبك مالاً ... وقد يوليك محبة بين الناس ومنزلة تجل وتحترم ... فاعمل على شكر الله بإقامتها في حاق موضعها . 

فإذا كنت في منصب فاحرص على ألا توصد أبوابك في وجه المستضعفين ... لا تدفع بحجابك إلى رد قصادك ... وافعل الخير تجز به ... وتذكر قول الشاعر : 

إن المناصب لا تدوم لواحد *** إن كنت تنكر ذا فأين الأول ؟

فاصنع من العمل الجميل صنائعاً *** فإذا عزلت فإنها لا تعزل 

إذا كنت ذا جاه ...فابذله في نفع الناس ... ولو كان وساطة ... ولو كان شفاعة ... ف مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا. الآية (85) من سورة النساء، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : جَاءَ سَائِلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ. رواه أحمد.

بشرط ألا تكون الشفاعة لإحقاق باطل أو إبطال حق أو تقديم من ليس أهلاً له أو تأخير من يستحق التقديم . 

إذا أعطاك الله مالاً ... فأنفق منه يمنة ويسرة ... ولا تخف الفقر والعوز والحاجة والقلة ... قال عَبْد اللهِ بن مسعود: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِلَالٍ، وَعِنْدَهُ صُبَرٌ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادَّخَرْتُهُ لَكَ وَلِضيَفانِكَ، قَالَ: «أَمَا تَخْشَى أَنْ تَكُونَ لَهُ بُخَارٌ فِي النَّارِ، أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا». رواه الطبراني والبيهقي. 

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ".

وقد لا تكون صاحب منصب ... ولا ذا جاه ... ولا ذا مال ... لكنك ذو محبة بين الناس ، ومنزلة عالية في نفوسهم ، وتلك نعمة بحد ذاتها ... 

وَجهٌ عليهِ مِنَ الحياءِ سَكينَةٌ=وَمَحَبَّةٌ تجري مَعَ الأنفاسِ

وإِذا أَحَبَّ اللَّهُ يوماً عَبـْدَهُ=أَلقَى عَليهِ مَحَبَّةً لِلنـــــــــَّاسِ

فإذا كنت ذا محبة بين الناس وقبول كبير لديهم فاطمح أن تساعدهم بقولك بكلامك الطيب ولفظك العذب حيث أعوزك أن تساعد بمالك ...

لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال 

لتدخل السرور على من حولك بقولك ... خفف عنهم ما يجدون بروعة كلامك ...

خفّف عن الناس ما يلقون من ألمِ *** فإن عجزتَ فأخرجْ طيّب الكلمِ

وانسُج من الفأل أثواباً لتفرحهم *** وكن كنورٍ لهم في أحلك الظُّلَمِ

لا يُسعدُ النّاسَ في قولٍ وفي عملٍ *** إلا امرؤٌ طيب الأخلاق والشّيمِ

فاحفظ نعم الله عليك في نفسك ، ولا تقصر في أداء شكرها حتى يقيمك ربك فيها أطول مدة ممكنة وإلا حولها عنك إلى غيرك ... وتذكر جيداً ودائماً قوله تعالى : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ محمد: ٣٨.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين