أبو المواهب محمد بن عبد الباقي الحنبلي البعلي

 

حدث في التاسع والعشرين من شوال

 

 في التاسع والعشرين من شوال من سنة 1126 توفي في دمشق، عن 82 عاماً،  أبو المواهب الحنبلي محمد بن عبد الباقي الحنبلي البعلي الدمشقي، مفتي الحنابلة بدمشق.

 

أصل أسرته من بعلبك، وكان أفرادها يعرفون بابن فقيه فِصة، نسبة لقرية قرب بعلبك كان أحد أجداده يخطب فيها، وهي أسرة كلها من الحنابلة، وولد هو بدمشق سنة 1044 وكان والده، المولود ببعلبك سنة 1005، من كبار علماء دمشق في القراءات والفقه والحديث والتفسير، فنشأ في كنف والده وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجوَّدَه بالقراءات العشر، وأخذه والده معه إلى الحج سنة 1055، وجمعه والده بعلماء مكة، وطلب له منهم الإجازة، ومنهم المحدث المفسر الفقيه محمد علان المكي الصديقي المولود سنة 996 والمتوفى سنة 1057، قال أبو المواهب:  حضرت درسه في التفسير عند الكعبة تجاه الحِجر، ودخلت حجرته وأجازني إجازة خاصة بعد أن أجازني عامة بسائر مروياته ليلة دخولنا إلى مكة، وأنا داخل أنا ووالدي من باب السلام، فوجدناه في طريق مدخلنا، بالتماس والدي لي منه ذلك، وأنا ابن إحدى عشرة سنة.

 

وقال أبو المواهب عن والده رحمهما الله تعالى: وعلى كل حال فقد رباني حق التربية، وأدبني حق التأديب، وخرَّجني أحسن التخريج، وأحسن إليَّ غاية الإحسان، لم يُبْقِ شيئا من أنواع الإكرام إلا وقام به حق القيام. فجزاه الله تعالى ووالدتي خير ما جازى أبوين عن ولدهما. وأجزل الله له ولها الثواب. وكان والده قد تصدر للإقراء في الجامع الأموي قرابة 30 سنة من سنة 1041 إلى وفاته سنة 1071، ودرس فيه الحديث والتفسير والسيرة والوعظ والرقائق، وبدأ درسه في محراب الحنابلة أولاً، ثم بمحراب الشافعية، ولم ينقطع عن ذلك شتاء ولا صيفاً ولا ليلة عيد، حتى ليلة وفاة زوجته أبقاها ميتة في الدار ليدفنها في غد ذلك اليوم، وحتى ليلة عرس ابنه أبي المواهب وأخيه.

 

ودرس أبو المواهب على كبار علماء دمشق، فدرس صحيح البخاري على نجم الدين محمد بن محمد الغزي، وقرأ عليه ألفية مصطلح الحديث، ودرس على الشيخ محمد بن أحمد الأسطواني الحنفي الفقيه، ووصفه بأنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، ناسكا عابدا، ودرس العربية والحديث على الشيخ محمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الحنفي الخطيب بجامع دمشق، ووصفه بأنه كان فاضلا عالما ورعا زاهدا متقنا متضلعا، فيه لين وتواضع وحلاوة منطق، مع الملاطفة للطلبة والإحسان إليهم، وأخذه خواطرهم ومعاملتهم بالمجابرة.

 

وجرياً على عادة المحدثين والعلماء كتب أبو المواهب في سنة 1094 ثَبْتاً في أسماء مشايخه وتراجمهم، سماه فيض الودود، عـدَّد فيه شيوخه وذكر تراجمهم ومشايخهم وما درسه على ىد كل منهم، وما تحلى به كل شيخ من محاسن الأخلاق وكريم الصفات، وهو ثبت لطيف جميل بما يذكره أبو المواهب من جوانب من حياة الشيخ ثم يعقب بما استفاده هو من الشيخ من أدب وتوجيه إضافة إلى هذا العلم أو ذاك، فهو عندما يذكر شيخه محمد بن بركات بن مفرج الشهير بالكوافي الحمصي الدمشقي الشافعي، المولود بحمص سنة 1005 والمتوفى بدمشق سنة 1077، يقول عنه: كان من العلماء الصلحاء ... لا يخرج إلا لصلاة الجمعة، ويؤذن للصلوات الخمس في مدرسته ويصلي بمن حضر من جماعات المسلمين، ملازما للقرآن ليلا ونهارا، مداوما على الصيام والذكر والأوراد والتسبيح والصمت، يقرئ في الأصول والنحو، ولم يكن أحد أمهر منه في تعليم البُلداء مثلي... هذا وقد قرأت عليه غالب المختصرات وكُتُب العربية، وحصل لي عليه غاية الرياضة في العربية والتجويد، وأدبني آدابا كثيرة، ونصحني ونفعني ووعظني مواعظ كثيرة، ونصحني نصائح عظيمة. وأجازني بسائر مروياته، فجزاه الله عني خيرا.

 

ورحل أبو المواهب في طلب العلم إلى مصر سنة 1071 وأخذ فيها القراءات والفقه والحديث عن جماعة من كبار علمائها، وتوفي والده وهو غائب بمصر، ثم عاد إلى دمشق وجلس للتدريس مكان والده في الجامع الأموي في محراب الشافعية بين العشائين وبكرة النهار، فقرأ بين العشائين صحيح البخاري وصحيح مسلم، والجامعين الكبير والصغير للسيوطي، والشفا للقاضي عياض، ورياض الصالحين للنووي، وتهذيب الأخلاق لابن مسكويه، واتحاف البررة بمناقب العشرة للمحب الطبري، وغيرهما من كتب الحديث والوعظ، وكان جميع علماء دمشق يحضرون درسه لا يكاد يتخلف واحد منهم، واتبع سنة والده في المواظبة على الدرس لا يتركه صيفاً ولا شتاءً، وإلى جانب هذا الدرس كان له درس آخر بالمدرسة السياغوشية، كما كان يخطب الجمعة في جامع الشامية.

 

وأخذ عنه الحديث والقراءات والفرائض والفقه ومصطلح الحديث والنحو والمعاني والبيان كثير من طلبة العلم، وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة، وممن درس عليه الشيخ إسماعيل العجلوني صاحب كشف الخفا ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس، وحامد بن علي العمادي مفتي الحنفية بدمشق، وعبد الكريم بن أحمد بن علوان المعروف بالشراباتي الشافعي الحلبي.

 

كان أبو المواهب قليل التآليف، له كتاب اسمه الكواكب الزاهرة في آثار الآخرة، ورسائل في تفسير بعض الآيات وتعليقات على صحيح البخاري.

 

حج أبو المواهب في سنة 1079 والتقى في الحرمين بكثير من علمائها ومن أتوها من الأقطار وأخذ عنهم وأخذوا عنه رحم الله الجميع.

 

كان أبو المواهب ثرياً ذا ثروة باذخة، وكسْبُه من الحلال الصرف من تجارته وتربية المواشي، وكانت له كرامات كثيرة وصدقات سرية على طلبة العلم والصالحين، وكان رحمه الله جَلِداً على الطاعة مثابراً عليها

 

وكان يستسقى به الغيث، قحط الناس من المطر في سنة 1108، فصاموا ثلاثة أيام وخرجوا في اليوم الرابع إلى المصلى صياما فتقدم أبو المواهب وصلى بالناس إماماً بعد طلوع الشمس ثم نُصِبَ له كرسيٌ في وسط المصلى فرقى عليه وخطب خطبة الاستسقاء، وشرع في الدعاء وارتفع الضجيج والابتهال إلى الله تعالى وكثر بكاء الخلق، وكان الفلاحون قد أحضروا جانباً كثيراً من البقر والمعز والغنم، وأمسك رحمه الله بلحيته وبكى وقال: إلهي، لا تفضح هذه الشيبة بين عبادك. فخرج في الحال من جهة الغرب سحاب أسود بعد أن كانت الشمس نقية من أول الشتاء، لم ير في السماء غيم، ولم ينزل إلى الأرض قطرة ماء، ثم تفرق الناس ورجعوا، فلما أذن المغرب تلك الليلة انفتحت أبواب السماء بماء منهمر، ودام المطر ثلاثة أيام بلياليها غزيراً كثيراً، وفرج الله الكربة بفضله عن عباده.

 

وكان رحمه الله تعالى لا يخاف في الله لومة لائم ولا يهاب الوزراء ولا غيرهم، وكان والي دمشق في سنة 1115 محمد باشا ابن كرد بيرم، قد فرض على تجار دمشق أن يشتروا بسعر باهظ حريراً محتكراً من منتجات بعلبك، فلجأ التجار إلى أبي المواهب ورجوا وساطته في رفع هذه المظلمة عنهم، فأرسل ورقة مع خادمه إلى الباشا، فلما وصل إليه هدده فهرب من وجهه، فلما ذهب كان حاضراً في مجلس الباشا أحد أعيان جند دمشق وهو محمد آغا الترجمان وباش جاويش وغيرهما، فأخبروه بمقام الشيخ، وعرفوه بحاله من النسك والعلم والعبادة والولاية، وكان مراد الباشا أن يأخذ من الشيخ مالاً على رفع ذلك الأمر.

 

ثم عاد الشيخ فأرسل ورقة أخرى إليه قال له فيها: إن الرعية لا تحتمل الظلم، إما أن ترفع هذه المظلمة وإما نهاجر من هذه البلدة، والجمعة لا تنعقد عندكم! والحرير للسلطان فبعه بثمنه على حساب السلطان. فلما وصلت إليه الورقة خشي من عاقبة الأمور وأن يصل الخبر إلى السلطان فترك ذلك.

 

وأصيب أبو المواهب قبل وفاته بسبع سنوات بوفاة ولده الشيخ عبد الجليل وهو في الأربعين من عمره، وقد أصبح عالماً يشار إليه بالبنان وشاعراً يأتي بسحر البيان، فصبر واحتسب، ثم أصيب بولده الشيخ مصطفى وكان شاباً فصبر واحتسب، ولم يزل على حالته الحسنة وطريقته المثلى إلى أن اختار الله له الدار الباقية، ودفن في مقبرة الدحداح رحمه الله تعالى.