وفاة الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر


 انتقل إلى رحمة الله تعالى صباح يوم الأربعاء16 شعبان 1431 الموافق 28 تموز2010 في مدينة الدوحة بقطر العالم الفاضل الداعية الدكتور الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر رئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة قطر سابقا، وصلي عليه العصر بعد صلاة العصر ودفن في مقبرة (أبو هامور ).
وحضر تشييعه عدد وفير من أهل العلم والفضل ، وكنت - بفضل الله - من جملة مشييعيه .
وتتقدم رابطة العلماء السوريين  بالعزاء لصديقه العلامة الجليل الشيخ يوسف القرضاوي ولأسرة الفقيد ولعلماء الأزهر بمصر ولعامة علماء العالم الإسلامي ونسأل الله أن يغفر للشيخ ويسكنه فسيح جناته ويجزيه خير الجزاء عما قدم لدينه ودعوته وأمته .
ونقدم للإخوة القراء كلمة في ترجمته كتبها تلميذه الأخ الشيخ محمد التميمي الباحث في لجنة إحياء التراث في وزارة الأوقاف بقطر كما سنورد ترجمته في قسم التراجم في هذا الموقع .
وكتبه : مجد مكي


كلمات في وداع الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر


ينتمي الشيخ إلى أسرة عربية تُعزى إلى النسب الشريف فرع السادة الحسنية، مهاجرة من الجزيرة العربية إلى صعيد مصر، ومن الصعيد إلى شبين القناطر، حيث ولد الشيخ رحمه الله تعالى في 16 أغسطس عام 1928 من الميلاد.
وقد أتم الشيخ حفظ القرآن في العاشرة من عمره في الكتَّاب على الطريقة المعهودة، وكان شيخه يأمره إذا انصرف عنه وعاد إلى منزله بمراجعة القرآن، وأن يبقى بجوار النافذة رافعًا صوته حتى إذا مرَّ شيخه بجوار بيته سمعه وهو يراجع، وذلك من شدة حرصه عليه، ولذلك ارتبط الشيخ بالقرآن قلبًا وقالبًا، وعاش معه حياته كلها.
تقدم الشيخ لاختبار الابتدائية الأزهرية وهو في الثانية عشرة من عمره واجتاز الاختبار بتفوق ملحوظ، حيث أمضى أربع سنوات في الابتدائية الأزهرية، وخمس سنوات في الثانوية الأزهرية، وتعرف على رموز الحركة الإسلامية في هذه السن المبكرة من عمره، فارتبط بها وانتمى إليها، وكان أحد شباب الجوالة الذي كان يشرف عليه الفقيد الراحل الدكتور عبد العزيز كامل صاحب الثقافة الواسعة الموسوعية، ومن هنا جاءت العلاقة بينهما وتأكدت المودة، ونشأ كنشأته بموسوعية عالية يطلب العلم مع الحرص عليه، والتواضع، وهضم النفس، وعدم الجرأة والتعظيم لنصوص الشريعة، وامتدت العلاقة بينهما واستمرت، وشاء الله عز وجل أن يجتمعا في محنة سنة 1954م في زنزانة واحدة.
دخل الشيخ كلية أصول الدين وتتلمذ على كبار علماء عصره، وتأثر جدًّا بالعلامة الموسوعي محمد عبد الله دراز الذي كان يدرسه التفسير وعلوم القرآن، وأُعجب بشخصيته، وصار من حواريه، فازداد تعلقه بكتاب الله تعالى بعد أن تلقى منهجية التعامل مع الكتاب من شيخه دراز، ومن رحمات الله تعالى به أنه حينما اعترض الإمام العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر على تغيير القوانين الشرعية في مصر، وإلغاء المحاكم الشرعية وقدم استقالته من المحاكم، اهتبل الأزهر الفرصة ففسح للشيخ المجال لتدريس مادة الحديث الشريف؛ فتتلمذ الشيخ حسن عليه، وكتب من فمه تعليقات نادرة غاية في التحقيق العلمي على نسخته من الباعث الحثيث التي كان يحتفظ بها، وربما يضمها إلى صدره في لحظات التذكر لشيخه حيث تأثر به في الاستقلالية العلمية والمنهجية الخالصة للكتاب والسنة.
عاش الشيخ المحنة ورافقه فيها خليلاه الشيخ محمد بن عبد الرحمن الراوي، والشيخ عبد التواب هيكل، وبعد خروجه ومنع الثلاثة من الخطابة؛ ذهب الشيخ أحمد حسن الباقوري إلى الرئيس عبد الناصر وتشفَّع لهم بإخراجهم من مصر في بعثات أزهرية فذهب الشيخ إلى نيجيريا، وفتح له الناس قلوبهم لما رأوا فيه من دماثة الخلق, وعظيم الأدب، وحسن التواضع للعلم وأهله؛ فظنت الفرقة القاديانية الضالة المضلة أنها تستطيع الوصول إليه؛ فأهدت إليه مجموعةً كبيرةً من كتبها ومصادرها؛ فوقف الشيخ داعيًا إلى الله تعالى مبينًا افتراءات هذه النحلة الباطلة، وكتب في ذلك كتابه القاديانية الذي حصل به على درجة الماجستير من الأزهر الشريف، ولم يتنازل عن مبادئه، فأثمرت دعوته خيرًا.
وتعرف الشيخ على أعلام الدعوة بإفريقيا فأثمر ذلك رسالته للدكتوراة عن دولة الفولاني التي أشرف عليها الأستاذ الدكتور عوض الله حجازي وناقشها الشيخان عبد العزيز عبيد، والشيخ محمد الغزالي.
عاش الشيخ في مصر مضيّقًا عليه من قبل أجهزة الدولة رغم توليه مناصب بها، ومنها العمل في الإشراف على قطاع من قطاعات الدعوة اكتشف خلاله الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله تعالى، ومكنه من الذهاب إلى القرى والنجوع والتواصل مع العامة والخاصة؛ فتعرف على الشيخ حافظ سلامة وتمكنت بينهما المودة وصفاء الصلة مما جعل الشيخ يصطفيه لنفسه، ويثق به؛ ليجعله من المقربين إليه، والمصاحبين له في جولاته الدعوية على خطوط المواجهة في قناة السويس بين وحدات الجيش المصري.
وفد الشيخ إلى قطر عام 1978م بناءً على رغبة صديقه الوفي الشيخ يوسف القرضاوي؛ فدرس في كلية الشريعة واحتضن أبناءه فيها؛ فعرفوا فيه الأبوة الحانية، ومارس الدعوة والخطابة في مجالات متعددة بداية من مسجد إسحاق ثم إلى مسجد الدفنة، وعرفه الإعلام فارسًا يقدِّر عظم الشريعة فكانت له الحلقات المرئية والمسموعة التي تُورث من تابعها السكينة.
اختص الشيخ بمحبة خاصة للسيرة النبوية حتى كاد أن يستظهرها وكان من آخر ما سجَّل في ذلك حلقات برنامجه: عام الوفود.
ومما يُذكر أن الشيخ ما كان ليتكلم في مسألة إلا بعد أن يُشبعها بحثًا ويحتفظ بأصول بحثه كمرجع لديه، ويُلخص ما توصل إليه في ورقات معدودة، ربما يصحبها معه، ولذلك نُشهد الله أننا رأينا أبحاثًا بخط يده مكتوبة في كراريسه يحتفظ بها كمرجعية له، وما من كتاب في مكتبته على ضخامتها ووفرة مراجعها إلا وللشيخ تعليقات على هوامشه تُثبت دقة ملاحظته، وكان يُوصي بذلك بعض خاصته من تلاميذه، ويُطلعهم على ما توصل إليه، ويحثهم على البحث والمثابرة والتعظيم لسياج الشريعة المباركة.
كان الشيخ ذا عبادة وحرص شديد على إقامة السنة وذكر الله تعالى في كل حال من أحواله؛ فتجده دائمًا مرددًا الأذكار النبوية، حريصًا عليها مع خشوع يُلاحظه من اقترب منه، بعيدًا عن طلب الظهور أو السمعة، متذكرًا دائمًا أنه ما خرج من بلده إلا مهاجرًا إلى ربه جل وعلا، وكان دائمًا إذا خلا مع بعض خاصته يُردد قول الله تعالى: ((ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة)) ثم ينظر إلى ما توفر لديه من النعمة، وتخنقه العبرة وهو يقول: أرجو أن تكون هذه عاجل بشرى المؤمن، وألا تكون قد عُجِّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا؛ ولذا كان حريصا جدًّا على طيب مطعمه بورعٍ يكاد لا يُلحق فيه، مستصغرًا للدنيا، مورِّثًا ذلك لمن اختص به، وذلك لشدة التصاقه بكتاب ربه حيث لا تكاد تراه إلا وهو مرددًا له، متأملاً فيه، مستخرجًا من كنوزه، دالاً على أحكامه وحِكمه؛ فيستخرج من الآية الواحدة وجوهًا كثيرة تدل على صحبة ليلية لكلمات الله تعالى، وهذا منهج خليله في ربه الشيخ الراوي الذي كان يردد على أسماع تلامذته قوله: القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن خلا به في ليله.
وقد أثمرت هذه الصحبة المباركة من بداية حياته إلى المشاركة في التفسير الوسيط حيث فسر سورة النور كاملة، والمشاركة مع ثلة من العلماء في التقديم لتفسير القرآن كله إذاعيًّا مما احتفظت به الإذاعة.
وكان يُوصي تلامذته بمتابعة تأملات العلامة الميداني في تفسيره مؤكدًا الحرص على مذاكرة كتابه: منهج التدبر الأمثل، مع الاستفادة من كتابات الشيخ دراز خاصة: النبأ العظيم، وكان سببًا في إعادة طبعه.
كان الشيخ يحمل القرآن معه دائمًا، وفي سيارته نسخ كثيرة منه؛ فإذا جاء لتسجيل حلقاته توقف عند البوابة وأخرجه هدايا، وأوصى به، وهكذا كانت عادته أن يُهدي كتاب الله تعالى، وأن يُوصي به، ولذا عرفته مكتبة الثقافة بين الحين والآخر محمَّلاً بهدايا من كتاب الله تعالى، بل كان يُفتش عن الكتب النادرة، ويُقدِّمها هدية لتلميذه الذي يكتب عنه لمعرفته بشدة حبه للكتاب وحرصه عليه، ويسأله دائمًا عن جديد ما أخرجته المطبعة، ويتابع بنفسه؛ فتكونت لديه مكتبة ضخمة إحداها بالقاهرة تشتمل على كنوز عظيمة من الطبعات الأولى لكتب التراث المحققة؛ فقلما تسأله عن كتاب إلا وذكره وتكلم عنه، وعن منهجه، ومنهج تأليفه، وأتاك ببعض ثماره كأنه بين يديه.
والذي طُبع من كتاباته وبحوثه هو قليل جدًّا في حق مثله، والأمل أن تتولى الجهات العلمية أو ورثته وتلاميذه جمع تراث هذا الإمام الفريد في أدبه وخلقه وورعه؛ لأنه من ميراث الأمة رحمه الله وغفر له.
تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنا على فراقك يا شيخنا من المحزونين.
أملاه : محمد التميمي غفر الله له