شهادة الكافر في الفقه الاسلامي

التعريف بالبحث:

 

الفقهاء يضربون الذكر صفحا عن قبول شهادة الكافر سواء أكانت على كافر من ملته، أو من غير ملته، ومن باب أولى: رد شهادته على المسلم، والأحكام التي ذكرها الفقهاء سابقا كانت مبنية على أوضاع متمايزة، فقد كانت دار الإسلام تتميز عن دار حرب، فلمسلمون أكثرية في بلادهم، ودارهم دار إسلام، وغيرها دار حرب يندر فيها المسلم.

 

وقد تعمَّق الباحث ما استطاع في بطون الفقه الإسلامي، وفتح عينيه على الواقع الميداني عالمياً، ذلك لأن المجتمعات الإسلامية اختلطت بغيرها، ولم تبق دولة يسكنها المسلمون صرفاً، بل تجد في رعايا الدولة المسلم والذمي والمجوسي والمستأمن، وقد يكون المسلمون في الدولة أغلبية، أو أقلية، والمعاملات بين الناس جارية على قدم وساق، ويحتاج الناس في معاملاتهم إلى الإشهاد على بيوعهم ومعاملاتهم، ويحتاج المسلم والكافر إلى الشهود، لإثبات الحقوق، وإثبات تجاوزات غيره عليه أو العكس، وقد لا يتيسر المسلم العدل المرضي الشهادة، وقد لا يوجد في المكان مسلم يشهد، فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق كثير من المسلمين.

 

إلى غير ذلك من المبررات التي ساقها في تمهيد بحثه المحكّم، الذي نشرته مجلة "العدل" أخيراً.

 

وقد بيَّن الباحث في بادئ الأمر حكم إشهاد الكافر في القضايا العامة.

 

وبيان إشهاد الكافر لمثله، وشهادته عليه.

 

وبيان شهادة الكافر للمسلم وعليه.

 

وناقش عبر هذه المحاور، تساؤلات: "أن تكون شهادة الكافر مردودة في كل الأحوال. أن تكون مقبولة في كل الأحوال. أن تقبل في بعض الحالات من دون بعض".

 

وأثناء الخوض في مناقشة أدلة المؤيدين من الفقهاء للتساؤلات التي طرح، والرافضين لها، رجّح هو في نهاية كل محور ما يعتبره الصواب، حتى وإن كان المؤيدون له أقلية. ثم أطلق رأياً جريئاً عاماً، بصحة شهاد الكافر على المسلم عند الحاجة إلى ذلك، في كل موضع فُقد فيه المسلم، حضراً، أو سفراً. وذكر سبع حجج وبراهين شرعية، وعقلية ومنطقية، دافع بها عن قوله.

 

وقد اعتذر الباحث في خاتمة بحثه بالقول" أعلم أن هذا البحث شائك، وقد يرميني بعض الناس بالخروج على اتفاق الفقهاء في رد شهادة الكافر، لكني لست بدعاً في ذلك، فقد سبقني على القول بهذا أئمة كبار، راعوا مقتضيات عصرهم مما لم يعايشه أو يحتاج إليه بعض الفقهاء السابقين، ولا يليق بالفقهاء اللاحقين تجاهل الواقع، فقد انتشر الكفار بين المسلمين، واستوطن المسلمون بلاد الكفر على نحو يصعب تميز المسلم من غيره، وهذا مما يستدعي الاجتهاد بما يرفع الحرج.

 

ومن الأهمية بمكان ذكر أن الكاتب - حتى وهو يرجح قبول شهادة غير المسلم عند الحاجة - يرجح على النقيض تماماً أن الكافر لا يعتبر عدلاً في شريعتنا، وبحسب شروط المسلمين في العدالة. إلا أن التناقض مدفوع بأن نفي العدل عن غير المسلم في نظر القائلين بجواز شهادته، لا يعني رد شهادته في نظر هذه الشريحة من الفقهاء، وذلك أن لكل قوم ميزانهم في قبول قول الشخص أو رده، المهم أن يكون صادقاً في قوله مجتنباً للكذب!

 

شهادات لغير المسلمين ملحّة الآن:

 

أما أهم محور في البحث، فكان الجانب التطبيقي، الذي أبرز فيه الكاتب، الشهادات التي يحتاج إليها المسلمون من غيرهم، ولا يزالون يتلقونها. ربما من دون التفكر في السؤال الفقهي الذي طرح أصلاً. وقال:" يمكن إجمال الكلام في شهادات الكفار التي يحتاج إليها، في المسائل التالية":

 

أولاً: الشهادات الطبية:

 

إذا كان فقهاؤنا قد أجازوا شهادة الطبيب الكافر في المرض المبيح للفطر أو الصلاة قاعداً، فإنه يقال: تقبل شهادة الطبيب الكافر عند فقد الطبيب المسلم أو عند عجز الطبيب المسلم عن فهم السبب، لقصور في علمه أو أجهزته أو إمكاناته، وإذا جازت شهادة الطبيب الكافر الواحد فمن باب أولى جواز شهادة الفريق الطبي بشيء ولو كانوا كفرة، لأن شهادة الفريق أكثر واقعية وبعداً عن الخطأ والتهمة من شهادة الواحد، والأغلب في شهادتهم الصدق والحياد والموضوعية، يظهر ذلك في تقاريرهم وشهاداتهم عن أضرار الخمر والمخدرات والدخان، مع أنهم استحلوها وأُشربوا حبها، وما يذيعه فرق من الأطباء عن سبب مرض معين، وعلاج ذلك المرض لا يمكننا تكذيبه، لأنه ليس عندنا دليل ينقض ما صرّحوا به، وهذه المسائل أصبحت كمسائل الجمع والطرح في الرياضيات، حلها واحد، وخطؤها جلي يظهر لكل من يفهم هذا الأمر بلا مكابرة، فمن علم حجة على من لم يعلم، ولا حرج في قبول هذه الشهادات والأخبار، لأن القرائن تؤكد صحتها.

 

المسألة الثانية: الشهادة بالمؤهلات العلمية:

 

هذه الشهادات مبنية على دراسات واختبارات وقياسات معينة، وهي ليست شهادة فرد كافر، بل شهادة مؤسسة، كمدرسة أو جامعة أو شركة، وأكثر هذه المؤسسات عريقة في قدمها وإمكاناتها، وشهد لها القاصي والداني، وتعطي شهاداتها بناء على معطيات معينة، وهي تحافظ على سمعتها وصدقيتها، من أجل الاستمرار، أو حباً في مبدأ الصدق والأمانة، لما يجلبه لهم من استقرار واستمرار الربح، فهذه الشهادة مقبولة عقلاً وواقعاً وعرفاً عند المسلمين وعند غيرهم، والشرع لا يمنع من اعتبارها، سواء كانت صادرة عن مسلم أو كافر، ولم يثبت خلل فيها أو في مضمونها على العموم.

 

الثالثة: شهادة المواصفات:

 

وهي بيان تصدره الشركة المصنعة بمواصفات الشيء، ومكوناته، سواء كان دواء أو طعاماً أو بضاعة، فهذه الشهادة مقبولة وإن صدرت من دول كافرة أو أشخاص كفرة، وقد اعتاد الناس المسلمون وغيرهم العمل على أساسها بلا نكير؛ لأن الغالب فيها الصحة، والقرائن التي تحف بها تمنع الكذب فيها؛ لأن هذه المواصفات قابلة لإعادة التجربة والاختبار والتحقيق، ونقص الشهادة المصاحبة مما يضر بسمعة الشركة، ويؤدي إلى كساد بضاعتها. فهذه الشهادة مقبولة أياً كان مصدرها.

 

الرابعة: شهادة المنشأ:

 

وهي شهادة يثبت فيها المنتج اسم البضاعة ومكوناتها ومكان صناعتها ومصدرها، فهذه الشهادة معتبرة، ويعمل بها ما لم يثبت العكس، لأن الشركات والدول تتحرج من الكذب في ذلك، خشية أن تشوه سمعتها وتكسد بضاعتها، بل إن بعض الدول شكلت هيئات خاصة لمراقبة الصنف المنتج، وتضع ختماً خاصاً من هيئة المواصفات والمقاييس يشهد بجودة هذه البضاعة، وبمطابقة هذه البضاعة للمواصفات السليمة أو المقاييس العالمية، فالعرف العالمي والمحلي قاض بقبولها والعمل بها، والشرع لا يمنع ذلك.

 

الخامسة: شهادة الذبح:

 

يعتبر الذبح من الأشياء التي لا يمكن تجربتها مرة أخرى، ولا يمكن إعادة التحقق من صحة ذبح الحيوان، ويقع كثير من الناس في الحرج، هل يجوز أكل الحيوانات المذبوحة في بلاد الكفرة باعتبار أننا لا ندري هل ذبحت وفق الشريعة الإسلامية أولا؟ وهل الشهادة المصاحبة لهذه الذبائح أو المطبوعة عليها كافية في اعتبار هذه الذبائح حلالاً؟

 

للجواب على ذلك نقول: الأصل: قبول هذه الشهادات ما لم يوجد ما ينقضها، وقد ذكرنا ان للقرائن أثرها في رد الشهادة، سواء أكانت من مسلم أم من كافر، ثم إن ما نقل عن طريقة ذبح الحيوانات في الدول الكافرة ممن شاهدوه يدل على أنهم لا يستعملون الطرق الشرعية في الذبح! بل صممت معاملهم وأجهزتهم على ألا يذبح الحيوان بسكين، بل يصعق بالكهرباء صعقة عالية تفقده وعيه أو تقضي عليه، فإذا بطل حراكه نقل آلياً لتقطيعه وتعليبه..

 

وقد نقل ذلك أكثر من شخص مسلم شاهد ذلك، حتى إن بعض المسلمين الذين يريدون أن يضحوا في البلدان الكافرة أيام عيد الأضحى يمنعون من الذبح في الشوارع، لكن يسمح لهم بعد صعق الدابة في المسالخ أن يبادروا إلى ذبحها بأيديهم تحليلاً لها، وهذا يعني إن كانت فيها روح مستقرة فهي أضحية وذبح حلال، وأما إن كانت منفودة المقاتل - أي لم يبق فيها حياة مستقرة عند ذبحها - فلا تحل؛ لأن الفقهاء اتفقوا على أن الزكاة لا تعمل إلا فيما كان فيه دليل على الحياة.

 

 

 

رد شهادة غير المسلم هروب من الواقع:

 

انتهى الباحث في نتائج بحثه إلى أن الشهادة المعتبرة لها حالان: حال الاختيار، وحال الاضطرار، أما حال الاختيار فيختار لها العدل المسلم المرضي، وأما حال الاضطرار، فيقبل فيها العدل وغير العدل، والمسلم وغير المسلم، الأمثل فالأمثل.

 

ثم ساق بعد ذلك بقية النتائج، وبينها:

 

- أن البينات غير محصورة بشهادة العدول المرضيين.

 

- أن القضاء عند الضرورة بشهادة غير المسلم خير من ترك الناس فوضى.

 

- أن في رد شهادة الكفار عند الحاجة لها هروباً من واقع المسلمين المنتشرين في الأرض، وإحراجاً لهم، وتضييعاً لحقوقهم.

 

- أن كل ما ساعد على إقامة العدل ورد الحقوق إلى أصحابها جائز الأخذ به، ما لم يكن محرماً.

 

- أن كفر الشخص لا يستلزم كذبه في الشهادة، وقد أثبت القرآن الكريم صدق قسم منهم وقيامه بالحق والعدل، قال الله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} سورة الأعراف: 159.

 

- أن رد شهادة الكافر عند قضاتنا من دون مبرر يستلزم رد قضاتهم لشهادة المسلمين معاملة بالمثل، وفي ذلك شر كبير من مساعدة على الظلم، وهدر لحقوق المسلم، وتجريده من أهم أهلياته، أهلية الشهادة على الناس!.

تحميل الملف