التصوير الفني في القرآن الكريم

«التصوير الفني في القرآن» كتاب جليل كان ينبغي أن أقول فيه شيئًا من زمان طويل، ولكني بعد أن قرأته وهو من إمتاعه يُقرَأ في جلسة واحدة وإن كان دقيقًا — تركته على المكتب وفي مرجوِّي أن يوفقني الله ويهديني فأنصفه وأنصف صاحبه، فتراكمت عليه الكتب والأوراق والمجلات والصحف والظروف والبرقيات وزجاجات الحبر، ولولا الحياء وأن يظن القارئ بعقلي وبأهلي الظنون، لقلت والمناديل، فإني أجلس إلى المكتب وأحتاج إلى المنديل أمسح به العرق أو أطرد الذباب عوضًا عن المنشة، فأنسى الجرس وأنسى أن المناديل في «حاضر! حاضر!» لتسكتني، فإني لا أكف عن الصياح حتى أُجاب، وتجيئني بالمنديل فأفعل به ما أنا فاعل ثم أدعه، فيغيب بين الأوراق أو تحت الكتب، فأروح أبحث عنه بعد ذلك في كل مكان آخر على غير جدوى كما لا أحتاج أن أقول، ولما كنت أرفض أن أدع أحدًا يمس أوراقي وكتبي ولو لينفض التراب عنها، ولما كانت أكداسها قد صارت تلالًا، فلا سبيل إلى الجلوس إلى هذا المكتب، فإني أهرب إلى غرفة أخرى كلما أردت أن أكتب أو أقرأ، وقد صنعت بهذه الغرفة مثل ما صنعت بأختها فازداد البيت ضيقًا على من فيه، فشكواهم لا تنقطع وأمرهم وأمري إلى الله، وهكذا غاب كتاب القطب وخفي عني كل هذا الزمن المديد، فقصَّرت برغمي في أداء حقه، فإذا كان يعذر فله الشكر، وإلا فإني مقر باستحقاق العتب.

 

والكتاب جديد في بابه بلا مراء، لا يشبهه كتاب قديم أو حديث، وصاحبه قد حفظ القرآن وقرأ التفاسير واطَّلع على ما كتب الأوَّلون من مثل «دلائل الإعجاز» للجرجاني، و«إعجاز القرآن» للباقلَّاني وغيرهما، ولكنه لا يقلد أحدًا، وإنما ينحو منحًى جديدًا يذهب فيه — كما قال — إلى (أن الصور في القرآن ليست جزءًا منه تختلف عن سائره، إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، القاعدة الأساسية المُتَّبعة في جميع الأغراض — فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال — فليس البحث إذن عن صور تجمع وترتب، ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز).

 

ويبدأ الكتاب بالكلام على (سحر القرآن) وكيف أنه كان العامل الحاسم، أو أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا في أول أيام الدعوة، ويروي قصة إيمان عمر أو قصصه، وقصة تولي الوليد بن المغيرة وكيف تلتقي قصة الكفر بقصة الإيمان في الإقرار بسحر القرآن، ثم يورد ما حكاه القرآن عن قول بعض الكفار وتأثيره في نفوس بعض الذين أوتوا العلم من قبله.

 

ثم ينتقل إلى (منبع السحر في القرآن) وهو فصل آخر، ولا يرى أن يتعلق بالمزية الثانية للقرآن بعد أن صار كاملًا بمبانيه ومعانيه وموضوعاته، ويرى أن السحر كامن في صميم النسق القرآني ذاته، وذلك من غير إغفال لقيمة الموضوعات على اختلافها، ولما في العقيدة الإسلامية من روحانية وما في بساطتها من جاذبية، ولهذا يتناول السور القصار القلائل التي لا تشريع فيها ولا غيب ولا علم، والتي لا تجمع بطبيعة الحال كل المزايا المتفرقة في القرآن.

 

وهنا نستأذن في مخالفته فيما استخلصه من «عبقريات» الأستاذ العقاد، وذلك حين يعرض للبواعث على إسلام ابن العاص وخالد وأبي سفيان، فإنه يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ العقاد، ولكن هذا موضوع آخر.

 

ثم يعقد فصلًا على القرآن كيف فهم؟ فينصف الزمخشري والجرجاني ويسوق مثلًا من توفيقات الجرجاني يعقِّب عليه ويبين أن الجمال في قوله (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إنما هو في هذه الحركة التخييلية السريعة التي يصورها التعبير — حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة.

 

ثم ينتقل إلى سلسلة في فصول مطولة عن التصوير الفني والتناسق فيه، والقصة في القرآن وأغراضها وآثار خضوعها للغرض الديني، والدين والفن في القصة، والخصائص الفنية للقصة، والتصوير فيها، ورسم الشخصيات، ثم يورد طائفة من النماذج الإنسانية في القرآن، ثم يتكلم على طريقة القرآن، ويعود إلى إنصاف الجرجاني.

 

وليس من السهل أن نعرض على القارئ نماذج من أسلوب المؤلف في البحث، فإن تقصِّيه شديد واجتهاده في الإحاطة بالجوانب المختلفة عظيم، والتوفيق فيما حاول كثير ولا ريب، ولهذا قلنا إن الكتاب جليل، وسيجد الذين يقرأونه أن المباحث القرآنية قد زادت به شيئًا له قيمة.

 

وليت الأستاذ القطب يتخلى لمثل هذه المباحث، فإن له لَقُدرةً عليها وتهيُّؤًا لها، وإن فيه إلى جانب القدرة لصبرًا يُحسَد عليه. (عبد القادر المازني)

 

للاطلاع على الكتاب هنا