الفقه السياسي والوعي بتاريخيته

الفقه السياسي والوعي بتاريخيته

د. بشرى الشقوري

إذا اعتبرنا الفقه بمثابة حكم الواقعة/النازلة تبعا لتبدلات وملابسات الموضوع وتنوعه، فإن فقهنا السياسي هو أحوج ما يكون لنوع متميز من البلورة والصياغة؛ نظرا لجملة من التحولات الكبيرة التي طرأت على طائفة من المفاهيم المتعلقة بهذا الفقه.
وتزداد الحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تجديد هذا الفقه وعصرنته نتيجة لحجم التحديات والابتلاءات التي يواجهها الفكر الإسلامي في بعده السياسي، كما في شقه المتعلق بالممارسة السياسية؛ مما يستدعي أولوية وضرورة إيجاد فكر ممنهج قادر على مساعدة هذه الممارسة كي تختار الخطوات والمواقف/الأحكام التي تحتاجها، الأمر الذي سيخرجها من دوامة الرهق الفكري والتشتت المرجعي الذي هو نتيجة منطقية لمجموعة من التناقضات والتضاربات التي تتسم بها الفتاوى والآراء الفقهية عندما تتفاعل مع مستجدات العصر ومفرداته الجديدة.
وبرجوعنا إلى ما أثر عن السلف في هذا الصدد، وفي مقدمتهم الماوردي، فإن جل ما كتب في هذا الإطار مقيد بزمن اجتهادي معين في مرحلة تاريخية معينة بحيث نستطيع أن نحكم على هذه الإنتاجات/الأحكام بأنها ظرفية وآنية.
ومن هنا كان استحضار البعد التاريخي في تأويل الخطاب الفقهي السياسي في غاية الأهمية؛ إذ المقاربة التاريخية للفقه السياسي يمكن حصرها في مسلكين اثنين يكمل أحدهما الآخر ، وهما:
المسلك الأول: إبراز تاريخية الفقه السياسي، أي إبراز المشكلات والقضايا التي تعبر عن الاستجابات الفقهية المتكررة للمتغيرات التاريخية الظرفية.
المسلك الثاني: التأويل التاريخي للفقه السياسي، أي التعرف على الاعتبارات الآنية والضغوط الراهنة التي كان يلحظها التنظير الفقهي والتي ساهمت في تشكل مختلف الرؤى الفقهية.
ومن هنا يمكن لنا أن نقرر بأن المعالجة الفقهية للمسألة السياسية كانت تتخذ بعدين اثنين ، وهما:
البعد الأول: التنظير المبدئي للممارسة السياسية المعتبرة شرعية؛ أي تقرير ما يجب أن تكون عليه من الوجهة الشرعية.
البعد الثاني: التنظير لواقع الممارسة السياسية القائمة تاريخيا؛ على هذا المستوى كان العمل الفقهي يتجه أساسا إلى التنظير لواقع سياسي يشذ عن كل المعايير الفقهية المحددة للممارسة السياسية المعتبرة شرعية. فكان من الطبيعي أن يتجه التنظير الفقهي إلى العمل التكييفي الذي استهدف تطويق الأزمة، والحد من سلبيات الوضع القائم بمنحه إطارا قانونيا استثنائيا.
غير أن عدم توفر مادة فقهية حديثة ومعاصرة تعنى بهذه المسائل لا يعني خلو الفكر السياسي المتداول من إسهامات واجتهادات يعتد بها؛ بل على العكس من ذلك تماما، هناك نتاجات كثيرة، تتميز بالتنوع، في هذا الحقل.. لكنها في تأثيراتها على واقع الناس ظلت محدودة، ولم تستطع تبديل الصورة النمطية التي رسم معالمها الفقه المتوارث أو الموروث.
وأبرز الإشكالات المطروحة في هذا الصدد، تكمن في مدى قدرة الفقه السياسي على تقديم تصورات واضحة وجاهزة لمختلف القضايا المستجدة في الأمة، وفي مختلف أشكال الممارسة رغم وجود هذه الفجوة الواسعة في الاستنباط تاريخيا؟! أي عدم وجود مراكمة مستمرة ودائمة لفعل الاجتهاد على هذا المستوى..
وهنالك إشكالية أخرى تكمن في طبيعة المنهج الذي ينبغي توظيفه، مادامت أشكال الممارسة السابقة غير صالحة للتطبيق في زمننا.
* الأصول المؤسسة للفقه السياسي الإسلامي :
كانت الدولة الإسلامية في كل مرحلة من مراحل تطورها تنتج فقهها الذي يعبر عن مرونة ذاتية في التعاطي مع دلالات النص القرآني والسنة النبوية.. إضافة إلى قدرة ملحوظة للفقيه في عملية ملاحقة المستجدات والوقائع.
فالتصور الذي تشكل عند الفقهاء حول الممارسة السياسية/النموذج والمثال كان استثمارا مباشرا للنص- النصوص القرآنية والنصوص النبوية- هذه النصوص جسدت تاريخيا وواقعيا مجموع القيم/المبادئ التي كانت قد بشرت بها في مجال الممارسة السياسية.
ثم إن مراجعة المادة الفقهية تشير إلى تبلور إجماعات متكررة في التاريخ الإسلامي حول قضايا ومبادئ توحد حولها الموقف الفقهي، مما شكل نقطة قوة في التنظيم الفقهي؛ إذ يقوم دليلا على وجود مبادئ سياسية ثابتة شكلت تصور الفقهاء في صياغة رؤيتهم الفقهية حول طبيعة الممارسة السياسية المعتبرة شرعية، كما يبقى اختلافهم في تقويم الوقائع السياسية التاريخية نتيجة لاختلاف تقديراتهم للظرفية الراهنة.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن الرصيد السياسي لتجربة الخلافة- في مجال تداول السلطة- شكل سلطة مرجعية حكمت العقل الفقهي اللاحق، وحددت سقف تنظيره في حدود ما تمخضت عنه أشكال التداول وما أفرزته من قواعد منظمة.
وإذا كان حظ القياس في الاستدلال الفقهي السياسي يأخذ مرتبة ثانوية لندرة الممارسة السياسية المنصوص عليها، والتي تسمح بإعمال أصل القياس، فإن العمل بأصل المصلحة سيحتل مساحة أوسع في التنظير الفقهي.. وتكون الحاجة إلى إعمال الأصل المصلحي أيضا لمواجهة الحالات الطارئة التي تحالف الوضع الأصلي.

وفي مجال الأحكام الاضطرارية (مستند الضرورة) اعتمد الفقهاء على القواعد الفقهية المنظمة لحالات الضرورة، وهي القواعد أكثر اعتمادا وترددا في مسالك التعليل الفقهي لحالات الضرورة والاستثناء.
والفكرة التي رمنا الوصول إليها في هذه الفقرة، هي أن أحكام الفقه السياسي كانت تخضع لنظام استدلالي مطرد، وهذا ما يفسر التقاء وجهات نظر فقهية متباعدة من حيث انتماؤها المذهبي العقدي، كما من حيث الزمان والمكان، حول مواقف سياسية محددة.
واكتفى المتأخرون باستعادة المنتج وشرحه مع غلبة واضحة لروح التأييد والموافقة والتبني، وأحيانا التمسك بالاجتهادات الغابرة، ومحاولة تبنيها في مناخات مختلفة سياسيا وعلميا واقتصاديا...
ولا ينبغي إغفال فقه التحريم الذي ظهر كشذرات، هنا وهناك، في الحقبة الاستعمارية، لكنه بقي مجرد مبادئ ومواقف يواكب حالتي الجهاد والنضال ضد المستعمر الأجنبي.
وصفوة القول: إن انشغال الفقهاء المعاصرين واستغراقهم في "الفقه الفردي".. وعدم صلاحية هذا الفقه لسحبه على آفاق المصالح الكبرى للدولة والمجتمع( للظروف التي ذكرناها آنفا).. أضف إلى ذلك مجموعة من المسائل الحيوية التي لم يتطرق إليها الفقه لا من قريب ولا من بعيد.. هذه المعطيات إلى جانب معطيات أخرى، تظهر في صورة تحديات، على الفقه التقليدي غير المتمرس على معالجتها، أن يجد لها حلولا.
ولعل أزمة العراق( الخليج الثالثة) وما أفرزته من إشكاليات وضغوطات شكلت أبرز التحديات التي واجهت فقهنا السياسي في وقتنا الراهن، مما استدعى صياغة حكم شرعي لها.
فكان لزاما التزام "الموضوعية" والتجرد والمنهجية في تحديد حكم الشرع إزاء مختلف الظواهر التي أفرزتها هذه الأزمة، والاستعانة بالمناهج العلمية الموروثة التي تحتم على المرء ضرورة استفراغ طاقته الذهنية والحسية.. القائمة على الإحاطة بجميع جوانب المسألة المجتهد فيها وأسباب نشوئها وظهورها، بغية الوصول إلى حكم الشرع فيها بصورة علمية متزنة.
فضلا عن ذلك: ضرورة التفريق بين ثبوت الحكم الشرعي بدليله الشرعي.. وبين تنزيل وتطبيق ذلك الحكم على حادثة من الحوادث، وهو الذي سماه الأصوليون- ذات يوم- بتحقيق المناط .

------------

هوامش

1- مثلا: إن الزمن الاجتهادي فيما يخص الدولة، عند مفهوم الدولة/الأمة، تلك الرؤية التي تقسم العالم إلى دارين فقط: دار الإيمان ودار الكفر/
دار الإسلام ودار الحرب، قد توقفت، وهو ما يعني أن الأحكام المستنبطة في خصوص هذه الدولة-التاريخية هي مجرد أحكام جامدة بعيدة كل البعد عن الواقع. وللمزيد من التفصيل أنظر: فقه الدولة في الاجتهاد المعاصر، حسن جابر، مجلة المنطلق الجديد، العدد الثاني، ربيع 2001،
الصفحة:7
2 - محمد محمد أمزيان، في الفقه السياسي- مقاربة تاريخية، ص:12 وما بعدها بتصرف، الطبعة الأولى: 1421/2001 ، مطبعة الجديدة،المغرب.
3 - المرجع نفسه، ص:13 وما بعدها.
4 - المرجع السابق، ص: 7 وما بعدها بتصرف، وانظر أيضا: دراسة: فقه الدولة أزمة في التطبيق أم في الرؤية، د.حسن جابر، ص: 12 وما بعدها بتصرف، المنطلق الجديد(مرجع سابق).

5 - من هنا نجد أن الفقه السائد اليوم، السياسي منه خاصة، فقه استثنائي، أو هو فقه الضرورة أو فقه التحريم، إذا أباح احتج بتحقيق الضرورة وتوفر شروط الحاجة، وإذا امتنع احتج بما يحمل المنتوج أو النازلة من عناصر التحريم.
6 - أنظر كتاب "الموافقات" للشاطبي، 4/64 إلى 68، و 112 إلى 117، و 119 إلى 120، طبعة دار الكتب العلمية، بتعليق عبد الله دراز. وانظر أيضا: الإحكام في أصول الأحكام، 3/264، لأبي الحسن علي الآمدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى: 1985، وانظر البحر المحيط لبدر الدين الزركشي، 7/324، دار الكتبي، مصر، الطبعة الأولى: 1994.

فتاوى الأمة وفتاوى الأفراد

ثم وضح الدكتور سيف في ندوته أن هناك فروقًا جوهرية بين فتاوى الأمة وفتاوى الأعيان والأفراد.

حيث إن فتاوى الأفراد والأعيان تمتلئ بها كتب الفقه ولها علماؤها الثقات، أما فتاوى الأمة فالأمر فيها مختلف تمامًا حيث تعتبر فتاوى الأمة:

- فتاوى مزمنة تتعلق بقضايا المسلمين، وهي القضايا التي تتعلق بالتحديات الحضارية والإستراتيجية الممتدة للأمة، ويجب على المفتي أن يتصدى لها دون استفتاء.

- فتاوى مزمنة تتعلق بالدراسات المستقبلية في مجال الفتوى وفتوى المآل والفتاوى الوقائية.

- فتاوى الوقائع وبناء المواقف التي يجب على المفتي فيها أن ينظر إلى الفتوى في إطارها العام فيربطها بتلك الفتاوى الإستراتيجية. أما الفتاوى الحادثة فيجب على المفتي أن يجعلها فرصة لبناء المواقف الممتدة والحركة الإستراتيجية، لكن في كل الأحوال فإن ذلك أنتج حالة من فتاوى الحيرة أو حيرة الفتوى.

وقد عرض الدكتور سيف بعض الحقائق المهمة حول فتاوى الأمة في الآتي:

1- فتاوى الأمة لا تنتظر المستفتي والاستفتاء، كما أنها تستدعي فقهاء وعلماء الأمة.

2- فتاوى الأمة ليست مصلحة فرد أو فئة أو حاكم معين لكنها مصلحة الأمة.

3- حصانة فتاوى الأمة مرتبطة بمصالح الأمة، وقضاياها مجتمعة بما فيها القضايا الواقعة والمتوقعة والآلية والممتدة.

4- فتاوى الأمة هي التي تجمع الأمة ولا تفرقها.

5- ضرورة ألا تتحول فتاوى الأمة إلى أمة فتوى.

خصائص فتاوى الأمة وكيف تتكون؟؟

يرى الدكتور سيف أن الحالة الإفتائية في فتاوى الأمة تتميز عن غيرها من الفتاوى بالذيوع والانتشار والتراكم والجدل على المستوى الشعبي والرسمي، كما أنها تتكون من حدث يحدث نوعًا من تعدد الآراء وتتداعي القضايا وحالة من فتنة، وتتحول الفتوى لحالة رأي عام.

الحالة الإفتائية بعد 11 سبتمبر

أما عن الحالة الإفتائية بعد 11 سبتمبر فاستطرد الدكتور سيف قائلا: حينما ضرب أمن أمريكا في الصميم نشأت وتجمعت جملة من الفتاوى برؤية معينة وضاغطة على الأمة وعلى المفتي تمحورت حول قضايا تُعنى بالحدث، مثل: فتاوى التفجير، وفتاوى الحرب على أفغانستان والعمليات الاستشهادية، وفتاوى الأقليات والمظاهرات، وفتاوى خاصة بالشيشان وأسامة بن لادن، وفتاوى قتل الأجانب في بلاد العرب والمسلمين، إضافة لفتاوى الحرب على العراق.

دراسة الحالة الإفتائية

شدد الدكتور سيف في كلمته على أن فتاوى الأمة لا بد أن تكون صادرة من هيئات جماعية مهما كانت درجة المفتي ومقامه، ولا بد من مراعاة الصياغات والأدلة ومآل الفتوى عند الإفتاء.

ولا بد للمفتي أن يستشعر كل قضايا الأمة ومصلحتها قبل وأثناء الفتوى، ويرى الدكتور سيف أنه لا مانع أن يقوم المفتي بتعديل السؤال إن لزم الأمر حتى يعلم المفتي المستفتي كيف يسأل وما يفترض أن يسأل فيه في نفس الموضوع الذي سأل عنه وعليه، ولا بد للمفتي من مراعاة ما يلي في فتوى الأمة:

تحديد المصالح – أطراف الفتوى – تنزيه الفتوى – المقاصد والوسائل – الأضرار والأخطار – مآلات الفتوى، على أن يراعى في بنية الفتوى (تشريح الفتوى – ترشيح الفتوى).

موازين القسط لفتاوى الأمة

يرى الدكتور سيف أنه لا بد أن تتوافر في فتاوى الأمة الموازين القسط الواجبة فيها، وقد حدد من خلال كلمته الموازين التالية:

1- ميزان المقاصد

2- ميزان الوسائل

3- ميزان مصالح الأمة

4- ميزان الأدلة

5- ميزان الواقع

6- ميزان المآلات

على أن تتكامل الموازين ضمن منظومة الشريعة الكلية وبما يحقق المصلحة والرحمة والعدل.

مبادئ مهمة حول فتاوى الأمة

يرى الدكتور سيف ضرورة أن تتميز فتاوى الأمة بالصدق في المحتوى والعدل في الآن (التوقيت)، كما يجب الحرص على عدم تحويل القضايا الجوهرية إلى إفتاءات من أقصر طريق، مع ضرورة أن تأخذ الفتاوى وقتها في البحث حتى لو كان موضوعها صغيرًا؛ لأنها مهمًا كانت فإن لها حيثياتها مهمة.

كما شدد الدكتور سيف على ضرورة أن يستعين المفتي قبل إصدار الفتوى بمتخصصين في مختلف التخصصات، وفي ضوء ذلك يستطيع أن نصدر الفتوى المناسبة والحقيقية المعبرة عن الواقع؛ لأنه لا معنى من أن يقوم المفتي بإصدار فتوى عن واقع ليس له دراية به، على أن تضطلع المجامع الفقهية من بلاد المسلمين بإصدار الفتاوى السياسية في شكل جماعي. مع ضرورة تخلص الفتوى من تبعية أي مؤسسة رسمية.

كلمة ختامية

أخيرًا أكد الدكتور سيف في كلمته الختامية على:

1- أن مقام الفتوى يعتبر غاية في الخطورة والمسئولية، خاصة أن المفتي يقوم بدور الموقع عن الله سبحانه وتعالى في شرعه وأحكامه.

2- أن فتاوى الأمة فتاوى ناقدة ومقومة لكثير من أحوال العالم الإسلامي وقضاياه وتحدياته، ولا بد لها من ذلك النقد والتقويم لكل المقصرين والمخذلين والرسميين، وكل الأمراض المزمنة التي لم تعد تتحمل النفاق حول قضايانا وتحدياتنا.

3- أن فتاوى الأمة يجب أن تكون رافعة حضارية ووظيفة كفاحية وقيادة رأي وعملية بحثية واستثمار؛ لأنها صارت ضمن الفاعلين الدوليين.

4- أن فتاوى الأمة ميزت وفرقت بين فتاوى التأصيل وفتاوى التخديل التي يصدرها هؤلاء الذين أطلقوا فتاوى ضمن مناخ ثقافي مصطنع لا أساس له حتى أصبحوا ينخرون في قوى الأمة ويمنعونها من العمل.

5- أن فتاوى الأمة وحدها هي القادرة على الخروج من حالة التفاتي المصنوع والمصطنع.

وأخيراً أوصى الدكتور سيف بضرورة ألا ندع لحصن الفتوى أن يسقط أبدًا، وأن حصانة الفتوى تنبع من فاعليتها في كيان الأمة.

تعقيبات المشاركين في الندوة

الدكتور محمد كمال إمام

1. تعقيب الدكتور محمد كمال إمام:

بعدما أنهى الدكتور سيف عبد الفتاح حديثه أعطيت الكلمة للدكتور محمد كمال إمام أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية الذي رأى في بداية حديثه أن كل ما عرضه الدكتور سيف عبد الفتاح في ورقته يتعلق بأمرين: فتاوى الأمة – أزمة فتوى.

وحدد الدكتور محمد كمال أن أزمة الفتوى تنطلق من المجموعات الثلاث التالية:

1- الدولة بكل سلطاتها

2- الصفوة بكل دوائرها

3- المجتمع الذي ترهلت قواه إلى حد مذهل

ثم عقَّب الدكتور محمد كمال على ما أشار إليه طرح الدكتور سيف بقوله:

إن مشكلة الطرح الذي طرحه الدكتور سيف أنه حمّل المفتي كل مسئوليات علماء الأمة ودوائرها، ولو ألزمنا المفتي أن يلم بكل هذه الدوائر فلن نجد مفتيا.

ثم حدد دكتور محمد كمال أن المفتي لا بد أن تتوافر فيه شروط أربعة وليس ثلاثة كما يظن البعض، وهى (الإسلام – الاجتهاد – العدالة – الاستشارة)، وبالتالي فلا بد للمفتي أن يستشير أهل الخبرة في كل ما يتعلق بفتواه في أي واقعة تهم الأمة، سواء كانت هذه الواقعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علاقات دولية.

وانتقد الدكتور محمد بشدة تهميش دوائر الاستشارة في مجتمعاتنا، وأنها لا تعدو أن تكون مجرد استشارة شكلية يراد بها أشياء أخرى دون النظر لإلزامها وأهميتها في عملية صناعة القرار، حتى أضحت دوائر الاستشارة عندنا إما مغيبة وإما مروضة وإما عميلة!!

لذا أكد الدكتور محمد كمال على ضرورة أن تشارك دوائر الاستشارة في صنع وتوصيف أي واقعة يراد إنزال الحكم عليها.

الشيخ سمير مطر

2. تعقيب الشيخ سمير مطر:

بعدما أنهى الدكتور محمد كمال حديثه علق الشيخ سمير مطر -أحد علماء الأزهر الشريف- على عرض الدكتور سيف بقوله: لقد شرح الدكتور سيف بالتفصيل كل ما يخص الفتوى، لكنه لم يولِ اهتماما بالمفتي الذي هو جزء في غاية الأهمية من تكوين الفتوى التي تتكون من: (المستفتي – الفتوى – المفتي)؛ الأمر الذي يترتب عليه معرفة درجات المفتي ومراحله وكيفية صناعته التي تعتبر من الأمور الخطيرة التي تحتاج إلى اهتمام.

واختلف الشيخ سمير مع الدكتور محمد كمال على أن الفتوى مسيسة، وأرجع الشيخ سمير أن هذا يرجع فقط لطبيعة العلاقة بين ما يريده الناس وما يريده الله تعالى في الأصل.

3. تعقيب الشيخ جمال قطب:

في نهاية الجلسة تحدث فضيلة الشيخ جمال قطب -مدير الإعلام بالأزهر- عن الفتوى باعتبارها فرعًا من فروع الخطاب الديني، ثم وضح فضيلته التأثير السلبي لامتلاء الساحة في عصرنا وفي كل عصر بمن يزاحم الناس برأيه، وأن طبع الفتاوى في عصرنا أوقع الضرر بالفقه الإسلامي؛ لأن الفتاوى المطبوعة ما كانت إلا عبارة عن أزمات خاصة يحاول الناس الاقتداء بها في عصرنا وينزلون أنفسهم مكانهم، ثم سرد فضيلة سردًا تاريخيًا طريقة الفتوى في الأزهر كمؤسسة للفتوى منذ بدايتها

شروط الاجتهاد في العصر الحديث

الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي

أحب أن أذكر هنا: أن الشروط التي اشترطها الأصوليون للمجتهد في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية ـ ليس تحصيلها متعذرًا ولا متعسرًا، كما يوهم بعض الناس، الذين يريدون أن يضيقوا ما وسع الله، ويغلقوا بابًا فتحه رحمة بعباده، وهو الاجتهاد.

وهذا ما نبه عليه المحققون من علماء العصر.

يقول العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار بعد نقله بعض كلام الأصوليين عن شروط الاجتهاد:

"ليس تحصيل هذا الاجتهاد الذي ذكروه بالأمر العسير، ولا بالذي يحتاج فيه إلى اشتغال أشق من اشتغال الذين يحصلون درجات العلوم العالية عند علماء هذا العصر في الأمم الحية، كالحقوق والطب والفلسفة، ومع ذلك نرى جماهير علماء التقليد منعوه، فلا تتوجه نفوس الطلاب إلى تحصيله".

وقال العلامة الحجوي الفاسي في كتابه "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" ـ بعد أن نقل عن ابن عبد السلام قوله: ومواد الاجتهاد في زماننا أيسر منه في زمن المتقدمين لو أراد الله الهداية. ومثله عن ابن عرفة، كما نقله الأبي في شرح مسلم ـ قال: واعلم أن الاجتهاد اليوم في القرن الرابع عشر أيسر مما كان في زمن الأبي وابن عرفة ومن قبلهما، بسبب أهل الفضل الذين اعتنوا بالمطابع، وطبعوا الكتب المعينة على الاجتهاد. وأن ظهور الطباعة نقل العلم من طور إلى طور. وقد كان المتقدمون يعانون مشاق عظيمة في كتب الكتب، ويحتاجون لمادة مالية وزمن طويل. أما بعد ظهور الطباعة عندنا في أواسط القرن الماضي (الثالث عشر الهجري) فقد تيسر ما كان عسيرا.. إلا أنها وجدت الأمة في التأخر، والفقه في الاضمحلال، والهمم في جمود، فكأننا لم نستفد منها شيئا! فإذا قسنا ما استنفدناه منها، ودرجة الرقي التي حصلت لفقهائنا، بالنسبة لما حصل في زمن المأمون العباسي من النشاط العلمي بسبب ظهور الكاغد (الورق) حكمنا بأننا لم نتقدم خطوة تعتبر، وتناسب ما تقدمه غيرنا من الأمم. ورغما عن ذلك فقد وجدت كتب كانت أعز من بعض الأنوق، وانتشرت ولاسيما كتب الحديث.

وقال العلامة الأستاذ أحمد إبراهيم بك أستاذ الشريعة في كلية الحقوق في كتابه في "علم أصول الفقه":

"وليعلم أن بين أيدينا الآن كنوزا ثمينة من المصنفات القيمة في التفسير وموسوعات السنة وشروح الحديث مما لم يكن ميسورا وجوده كله مجموعا عند سلفنا الصالح الذين كان يرحل أحدهم إلى البلاد النائية لطلب الحديث الواحد أو الحديثين، كذلك وضعت معاجم قيمة لغريب الكتاب ولغريب السنة، وكتب جمعت آيات الأحكام، وأخرى لأحاديث الأحكام مع تفسير وشرح بالاختصار تارة وبالتطويل أخرى، حتى إنه ليستطيع أن يجلس أحدنا الآن على مكتبه وأمامه من كل ما أسلفنا نسخ متعددة من كل نوع منها. وبالجملة فالاجتهاد ميسور الآن لتكامل عدته تكاملا أكثر مما كان عليه الحال من قبل لمن شمله الله تعالى بهدايته وتوفيقه فجعل عمله خالصا لله ومحضه للنفع العام".

وقال الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق في كتابه "بحوث في التشريع الإسلامي" الذي كتبه ردا على المضيقين والمتشددين من علماء الأزهر، الذين رفضوا أي اجتهاد في قوانين الأحوال الشخصية:

"وليس مما يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر أن يقال عنها أن ما يدرس فيها من علوم اللغة والمنطق والكلام والأصول لا يكفي لفهم خطاب العرب ولا لمعرفة الأدلة وشروطها. وإذا صح هذا فيالضيعة الأعمار والأموال التي تنفق في سبيلها!".

ليس الاجتهاد ممكنا عقلا فقط، بل هو ممكن عادة. وطرقه أيسر مما كانت في الأزمنة الماضية أيام كان يرحل المحدث إلى قطر آخر لرواية حديث، وأيام كان يرحل الرواة لرواية بيت من الشعر، أو كلمة من كلم اللغة، وقد توافرت مواد البحث في كل فرع من فروع العلوم: في التفسير والحديث والفقه، واللغة والنحو، والمنطق، وجمع الحديث كله، وميز صحيحه من فاسده، وفرغ الناس من تدوين سير الرواة، وأصبحت كتب هذه الفنون تضعها مكاتب الأفراد والحكومات في كل قطر من الأقطار الإسلامية، وهذا لم يكن ميسورا لأحد في العصور الأولى، ومذاهب الفقهاء جميعهم مدونة، وأدلتها معروفة.

والواقع أنه في أكثر المسائل التي عرضت للبحث، وأفتى الفقهاء فيها، لم يبق للمجتهد إلا اختيار رأي من آرائهم فيها، أما الحوادث التي تجد فيها التي تحتاج إلى آراء محدثة، وأن حفظ آيات الأحكام جميعها وأحاديث الأحكام جميعها وفهمها فهما صحيحا، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وحفظ مواقع الإجماع، لا يحتاج إلى المجهود الذي يبذل لفهم مرامي كتاب من كتب الأزهر المعقدة.

إن الزمن لم يغير خلقة الإنسان، والعقول لم تضمر، والطبيعة باقية في الإنسان كما كانت في العصور الماضية، وهاهم علماء الأمم يحدوهم الأمل إلى بلوغ أقصى ما يتصوره العقل البشري ويصلون إليه بجدهم واجتهادهم، وقد كان أسلافهم في عماية وجهل، وكان أسلافنا في نور ال