مرجعيّة  القيم عند المسلم

منذ القرون الإسلاميّة الأولى بحث علماء العقيدة الإسلاميّة مرجعيّة المسلم في حكمه على الأمور من حيث حُسْنُها وقبحها ، وقد وصل جمهورهم إلى أنّ الحسَنَ ما حسَّنه الشرع ، والقبيح ما قبّحه الشرع . وبذلك كان الأمر فيصلاً : الشرع هو المرجع في ذلك كلّه .

بل إنّ المعتزلة الذين أعطَوا العقل دوراً في التحسين والتقبيح ، لم يَرَوْا أنّ من حقّ هذا العقل أن يُحسّن ما قبّحه الشرع ، أو يُقبّح ما حسّنه الشرع . كلّ ما في الأمر أنّهم قالوا : إنّ للعقل دوراً حين لا يكون هناك شرعٌ ، كالذي حصل في " الفترة " أي ما بعد رفع عيسى بن مريم u إلى حين بعثة رسولنا محمد r ، أو الذي يحصل مع من لم تبلغْه دعوة الإسلام .

فعلماء المسلمين إذاً ، على اختلاف مذاهبهم ، مجمعون على أنّ الإسلام ، بعقيدته وشريعته ، وحلاله وحرامه ، وتوجيهاته وآدابه … هو مرجع المسلم في وضع القيم مواضعها الصحيحة .

فحين يريد المسلم أن يحكُم على خُلُقٍ من الأخلاق ، أو توجّهٍ من التوجهات ، أو فكرة من
الأفكار : أهي من الخير أم من الشر ؟ فمرجعه في ذلك هو الإسلام . وحين يريد أن يُرجّح بين
قيمتين : أيّهما أعلى ، فيقدِّمها على غيرها إذا تعارضت معها … فمرجعه الإسلام كذلك .

ولكن حين يعاني المسلم من غبش الرؤية ، أو من هزيمة روحيّة ، وينبهر أمام حضاراتٍ زائفة تتزيَّن بزينة الحياة الدنيا … تنقلب الموازين في يديه ، فيجد نفسه خاضعاً لمواصفات أصحاب هذه
" الحضارات " . فإذا قال هؤلاء مثلاً : إنّ تعدد الزوجات ، والإكثار من النسل ، وقطع يد السارق … قيمٌ متخلّفة لا تليق بأبناء هذا العصر ، وإنّ الجهاد في سبيل الله إرهابٌ سياسيّ ، وإكراهٌ على الدخول في الإسلام ، وإنّ إيقاع عقوبة الردّة مُصادَرَةٌ لحريّة الاعتقاد ، وإنّ حصر العلاقات الجنسيّة ضمن نطاق الزواج المشروع ، هو نوعٌ من الكبت والانغلاق والتزمُّت …

إذا قال هؤلاء مثل هذه الأقوال انبرى المهزومون روحيّاً ليدفعوا ـ بزعمهم ـ هذه الاتهامات عن الإسلام ، ويُقدّموا الإسلام في ثوبٍ يرضي أذواق الأقوياء المهيمنين ويقولوا : إنّ الإسلام مطابقٌ تماماً لقيمكم وأفكاركم ، أو هو قريب منها قرباً كبيراً ، وإنّ ما ترونه من اختلافٍ إنّما هو من سوء الفهم للإسلام ، فهذه التشريعات التي تنقمونها عليه ما كانت إلا لمعالجة أمورٍ طارئة أو أحوال
شاذّة … ولم يبق لها أيّ داعٍ في عصور التطوّر التي نعيش !

ولم يعد غريباً أن نرى من المسلمين من ينادي بتحديد النسل ، وبإعطاء الحريّة التامّة للفتيان والفتيات ، ليشعروا بذواتهم ! وبترك التوجيه المباشر للطفل حتّى يختار طريقه بنفسه ، أو بإعطاء الأولويّة ـ في تربية الجيل الجديد ـ للإعداد المهني والعملي على التربية الإيمانيّة والأخلاقيّة ، أو بتقديم متطلبات الحياة العمليّة على الاهتمام ببرّ الوالدين وصلة الأرحام … لأنّها أكثر جدوى وأهميّة
ونفعاً ، وباستبعاد الحديث عن الجهاد في سبيل الله بعدما انتشرت الفضائيّات والانترنت … متأثّرين بالطروحات الغربيّة السائدة .

ووجدت مواقف جماعيّة تعبّر عن تيّارات واتجاهات إسلاميّة ، ثمّ تنطلق من رؤى المقاربة مع القيم الغربيّة في مواقف تتعلّق بحقوق الإنسان ، وتحرير المرأة ، والديمقراطيّة ، والتحالفات ، والمناهج التربويّة … وغيرها .

ولا بدّ أن نقرّر ابتداءً أنّ كثيراً من هذه المسائل اجتهاديّ يقبل الاختلاف ،
لا سيّما في تفصيلاته ، وليس لنا أن نفرض رأياً معيّناً فيه ، إنّما نُشير إلى مشكلة المرجعيّة : أهي الإسلام وقيمه الأصيلّة ، أم الغرب ومعاييره ؟!

إنّ قيم كلّ مجتمعٍ يجب أن ترتبط ، بل تنبثق ، من عقيدته وشريعته ، وكما قال الله I : } لكلٍّ جعلنا منكم شِرعة ومنهاجاً { .

لقد تحدّث سيّد قطب رحمه الله عن عاملين ، عَمِلا في الماضي على نُصرة الإسلام ، ورأى أنّهما سيعملان على نصرته في المستقبل ، إنّهما "رصيد الفطرة" و " رصيد التجربة " ، وأشار بذلك إلى ملاءمة الإسلام للنفس الإنسانيّة ، وإلى أنّ تجارب البشريّة تجعل الإسلام أكثر قبولاً جيلاً بعد جيل .

وإذا قرّرنا أنّ نظام القيم في الإسلام متوافق مع فطرة الإنسان ، فأين تكمن المشكلة عندما نعدّ كل ما يوافق فطرة الإنسان متوافقاً مع الإسلام ؟

المشكلة كما نراها تكمن في منهج الاستدلال ، وذلك حين نقرّر أنّ هذا الموقف أو ذاك متوافق مع الفطرة ، وهو إذاً متوافق مع الإسلام بالتأكيد ! ثمّ نقف عند ذلك . أي أنّ المشكلة تكمن في الخلط بين الفطرة والهوى .

إنّنا في ذلك قد نقع ضحية الهوى ! فليس كلّ ما تهوى الأنفس فطرة ! ولقد جاء التحذير من اتباع الهوى مكرّرا في القرآن الكريم مرّات عِِدَّة . من ذلك قول الله I : } يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله { سورة ص : 26 .

وقوله I : } ثمّ جعلناكَ على شَريعةٍ من الأمرِ فاتّبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون { الجاثية : 18 .

وقد يكون الفرق بين " الفطرة " و " الهوى " واضحاً من الناحية النظريّة ، ولكن في بعض المواقف التطبيقيّة يلتبس الأمر أحياناً فلا يُميّز الإنسان بين هواه ودواعي فطرته ، فإذا كان الإنسان يحرص على تحقيق العدل بفطرته ، فقد يقع في الظلم أو الطغيان ، بدافع هواه ، وهو ما حذّر منه كتاب الله تعالى : } ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى { المائدة : 8 .

وقد يحصل أن تُبنى ثقافةٌ للمجتمع ، وقيم للبشريّة ، على الأهواء . وعندها يجتمع الناس على مقياس خاطئ يقيسون به إنسانيّتهم ، ويُصنّفون المجتمعات الأخرى وفق هذا المقياس في السلّم الحضاريّ ! وليست هذه التجارب هي التي تقدّم مفتاح السعادة ، وإن استقرّ العمل بها ردحاً من الزمن ، وَكَثُر عشّاقها والمُعْجَبون بها } قل : لا يستوي الخبيثُ والطيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث { المائدة : 100 .

والحضارة الغربيّة مثال واضح على ذلك ، فهي ـ مع تفوقها وهيمنتها ـ ما زالت تفرز صيحات التحذير من آثارها المدمّرة على الإنسان ، وهذه الصيحات لم تؤدِّ إلى سقوط هذه الحضارة أو نزع صفتها الماديّة بعد ، إذ لا يمكننا الحكم على تجربتها حكماً نهائيّاً ، ما دامت أصوات التحذير منها تنبع من داخلها . وبناءً عليه ، ليس تقليد هذه الحضارة هو استفادتنا من " رصيد التجربة " الذي يمكن أن نؤيد به هذا الدين .

ومن المهمّ هنا الإشارة إلى مسألة نبّهت عليها أدبيات موضوع " القيم " في علميّ النفس
والاجتماع ، وهي أن الثقافات تتفق فيما بينها في القيم الكبرى التي تنادي بها ، لكنها تختلف في ترتيب وتنظيم هذه القيم ، فكلّ قيمة تتضمّن عنصراً " تفضيليّاً " ، وكلّ ثقافة تتضمن " نظاماً قِيميّاً " تأخذ كلّ قيمة موقفاً فيه ، وهذا النظام يتباين بين كلّ ثقافة وأخرى .

ومقتضى ذلك أنّه قد نجد قيماً متفقاً عليها بين ثقافتنا الإسلاميّة والثقافة الغربيّة ، لكن علينا قبل أن ننادي بهذه القيمة كما ينادي بها الغرب ، أن نعرف موقع القيمة في النظام القيمي الغربي وفاعليتها
فيه ، وما يتبع ذلك من معرفةٍ بالمحتوى الذي تعنيه عند الغرب ، ومقدار اتفاق ذلك مع إسلامنا وثقافتنا

وإذا كان الأمر كذلك ، فماذا نستفيد من قولنا : إنّ قيم الإسلام تناسب الإنسان ، وتلائم فطرته ، وتقدّم أساساً سليماً لتطوّره ؟ ألا يجوز أن ننطلق من هذه القاعدة لتصحيح فهمنا للإسلام ، ولتطوير الفقه الإسلاميّ ، وآليات التحاكم إلى الشريعة الإسلاميّة ، والتعامل مع النصوص القطعيّة ؟

إنّ كثيراً من الجهد الفكريّ الإسلاميّ الحاليّ قد قدّم معالجات لهذه التساؤلات وأمثالها ، وللتمثيل لا للحصر نذكر بعض الأسماء التي أسهمت في هذه الجهود : سيّد قطب ، أبو الأعلى المودودي ، أبو الحسن الندوي ، محمد قطب ، يوسف القرضاوي ، عماد الدين خليل ، منير شفيق ، عباسي مدني ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي . ومع ذلك فما زال الموضوع مفتوحاً ، وما زالت جوانبه التطبيقيّة بحاجة لمزيد من التخطيط والتنظيم والجهد .

وإذا كُنّا نفصل بين قدسية النص ونسبية صواب الاجتهاد ، فإنّ علينا أن نؤكد كذلك أن تفاوت ما تحققه الاجتهادات من صواب يقاس بمقدار توافقها مع الأصول والنصوص ، وليس كلّ اجتهاد مقبولاً ، إنّما يُقبل من الاجتهادات ما ينطلق من معرفةٍ وفهمٍِ عميقين للنصوص والمقاصد ، ويؤسس على جهد كافٍ من الدراسة والبحث والتأمّل . أمّا أن نأخذ بالنظرة المتعجّلة للأمور ، والتي يُصدرها أفراد غير مؤهلين للاجتهاد ، بل غير ملتزمين بالإسلام التزاماً عميقاً ، أو غير مؤمنين به إيماناً صحيحاً ، فليس هذا هو سبيل الفهم الصحيح للإسلام ، وليس هو سبيل التحضر والتطوّر الذي ننشده .

والله الهادي إلى سواء السبيل .