حكم الاستغفار لموتى الكفار والترحم عليهم

التعريف بالبحث

فقد أصبح العالم اليوم كـ(قرية واحدة) في سهولة التواصل بين سكانه» وكان لذلك – كما لكل أمر - إِيجابيّات وسلبيات؛ وللأسف فإن أُمّتنا الإسلامية تعيش فترة ضعف وتراجع فهي في موقع المغلوب لا الغالب، والمغلوب - في كثير من الأحيان- تكون هزيمته الأساسية هزيمةً فكرية نفسية سلوكية، وتنعكس هزيمته هذه في تنصّله من الأمور التي يظهر فيها تميُّزه عن غيره.

وقد نتج عن هذا الوضع السيء الذي تعيشه أمتنا الإسلامية، مع شيوع الجهل بالدين وأحكامه، وتراجع تأثير علماء الشريعة على الناس، وبروز الذين يُفتون الناس بغير علم، والذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن قيض العلم فقال: «إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا» متفق عليه.

نمَّ عن هذا أن التبست على كثير من أبناء هذه الأمة مفاهيم كان يفترض أن تكون من الأساسيّات لديهم حتى ماعت صورة الدين في نفوسهم، وفقد كثير منهم شعورهم بامتيازهم بالهدى الذي وفقهم الله تعالى إليه.

ومن الأمور التي التبست على كثير من عوام المسلمين في هذا العصر قضية الموقف من الآخر المخالف في الدين وهو ما يُسمّى في ديننا وعقيدتنا وشريعتنا بـ(الكافر) وقد ضاع كثيرون من أبناء الأمة بين طرفي الإفراط والتفريط في هذه المسائل؛ ففريق منهم تطرف حتى أراد أن يحمل سلاحه ضد كل مخالف في الدين ويستبيح دمه ناسيًا - أو متناسيًا - قول الله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} الممتحنة.

وفريق آخر تطرف وفرّط حتى صار يرفض وصف أصحاب الديانات الأخر بأنهم (كفار) ناسيًا - أو متناسيًا - الآيات القرآنية الكثيرة التي وصفتهم بالكفرة مثل قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، قوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}، وقد بيَّن الحق سبحانه أنَّ من كفر برسوله محمد صلى الله عليه وسلم كان من الكافرين واستحقَّ السعير يوم القيامة: { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) }

كما نصَّ على أنه لا يقبل من أي امرئ بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يدخل في الإسلام، فقال: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} آل عمران.

ومسألة كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى من المعلوم من الدين بالضرورة هذا وهُمْ أهل كتاب ولكنهم حرّفوه وكفروا بالإسلام ورسوله فما بالك بغيرهم من الملحدين وأهل الديانات الوثنية وعبدة البقر والأصنام!

وهنا لا بد من التذكير أن كل أصحاب الديانات يعتبرون مخالفيهم في الدين كفارا ومن أصول اعتقاداتهم أنه لا يدخل الجنة إلا من كان على دينهم: فالمسلمون بالنسبة للنصارى ولليهود كفار مصيرهم إلى الجحيم؛ والحكم على المخالف عقائديًا بالكفر ليس أمرًا مقتصرًا على المسلمين حتى (يخجل) المسلمون من إعلانه والتصريح به.

ومسألة حكمنا على فريق من الناس بالكفر لا يترتب عليها معاداتهم ومحاربتهم؛ إذ محاربة الكافر في شريعتنا مرتبطة بعدوانه على المسلمين وليس بمجرد كفره، ولذلك لم ينهنا الله تعالى عن برّهم والإقساط إليهم - كما أشرنا إليه فيما سبق - ولكن ذلك لا يعني أن تكون أحكام العلاقة معهم هي نفس أحكام العلاقة مع المسلمين، إذ يترتب على كونهم (كفارًا) أحكام شرعية عديدة تطلب في مظانها من كتب الفقه.

ومن الأمور التي التبست على كثير من عوام المسلمين هذه الأيام مسائل تتعلق بمن مات من الكفار وكيفية التعامل مع ذلك إذ يحدث أن يموت شخص وهو على غير ملّة الإسلام ويكون من غير المحاريين للمسلمين، بل وقد يكون من يقف معهم في قضاياهم السياسية، فيبادر عامّة الناس الذين فتحت لهم وسائل التواصل الاجتماعي - مثل فيسبوك وتويتر وغيرهما - المجال للإدلاء بآرائهم للتعاطف مع هذا الميت» ويقعون خلال ذلك في مخالفات شرعية خطيرة فتجد أحدهم يستغفر لمن مات على الكفر، مع أن الله - سبحانه - قد نهى عن ذلك، والأدهى من ذلك أنه إذا عاتبه أحدهم قال له: وما يدريك أنه لن يدخل الحنة!؟ بحيث صارت أمور عقائدية ثابتة لا يجوز مخالفتها محل نقاش عند عامّة المسلمين.

وهناك على الجانب الآخر فريق تطرف - كما سبق وذكرنا - فمنع أي علاقة إيجابية بين المسلم وغيره حتى صوّروا المسلم وكأنه لا يقبل التعايش مع الآخر المخالف عقائديًا غير المحارب واقعيًا.

وقد استلزم شيوع هذا الأمر - بسبب شيوع وسائل التواصل الاجتماعي - وكثرة الحديث فيه بغير علم ووقوع الكثيرين في مخالفة أحكام الشرع أن يتم التصدي لبيان حكم الشرع في هذه المسائل وقد وجدت أن كثيرًا من هذه القضايا لم تفرد بالبحث مع أن فقهاءنا الأجلاء تكلموا فيها وبحثوها في كتبهم، ولكن كلامهم فيها متناثر في ثنايا كتبهم، وجلُّ ما وجدته من كتابات المعاصرين هو تدوينات ومقالات لبيان هذه الأحكام قد لا تروي غليل من أراد تأسيس موقفه الفكري والاعتقادي على قاعدة صلبة.

ومن المعلوم أن قضايا العلاقة بين المسلم وغير المسلم عديدة» ولا يستطيع بحث واحد تغطيتها كلها فهي تشمل قضايا متشعبة منها العلاقات التجارية والعائلية والسياسية والاجتماعية معهم وخصوصًا أن منهم من عاش ويعيش في مجتمعاتنا الإسلامية، وهم مواطنونا وأهل ذمّتنا وعهدنا الذين أوصانا رسولنا بل بالإحسان إليهم ونهانا عن إيذائهم، وبما أن بحثاً واحدًا لن يغطي كل هذه القضايا فقد اخترت أن أكتب في بعض العناوين الساخنة التي تثور على وسائل التواصل بين الحين والآخر ويشمل ذلك ثلاث قضايا رئيسة متعلقة بموتى الكافرين وهي:

حكم الاستغفار لهم وحكم الترحم عليهم؛ وحكم التعزية بهم.

وقد اضطرني البحث لمناقشة قضيتين أخريين، وهما:

مناقشة إمكانية انتفاع الكافر يوم القيامة بما قام به من عمل صالح في الدنيا وهي مسألة مهمة لتأسيس البحث في قضيتي الاستغفار والترحم عليها.

أما القضية الثانية فهي ليست متعلقة بموتى الكافرين على وجه الخصوص بل إن تعلقها بموتى المسلمين من العصاة ألزم، وهي مسألة (حكم ذكر مساوئ الميت)، إذ شاع بين الناس أنه لا يجوز ذكر الميت إلا بمحاسنه. ولا يجوز ذكر مساوئه، وهو موضوع يأخذ مساحة واسعة من الخلاف في وسائل التواصل الاجتماعي، فكان لا بدَّ من تجلية ما هو الحقّ في هذه المسألة والمواضيع التي نوقشت في هذا البحث -في جلها - مواضيع بحثها علماؤنا السابقون.

ولذلك فقد كان دوري في هذا البحث أن أجمع النصوص الشرعية المتعلقة بالقضايا المطروحة فيه وأناقشها في ضوء ما ذكره علماؤنا مستنيرًا بفهمهم، إذ مناقشة قضايا الشريعة دون الاهتداء بقول العلماء الراسخين مظنة الوقوع في العثرات، والقضايا المطروحة فيها ما هو مجمع عليه ل يختلف فيه سلفنا؛ لدلالة النصوص المحكمة على حكمه وهذا ليس لنا فيه إلا التسليم وكشف وتوضيح الإجماع عليه وهناك قضايا اختلف علماؤنا فيها فلم ألتزم فيها بقول عالم معيّن وإنما التزمت بما ترجّح لدي من أقوالهم، غير خارج عنها - بإذن الله تعالى - وغير مبتدع قولًا ل يقل به أحد من السلف رحمهم الله تعالى.

وقد اضطرتني حساسية المواضيع المطروحة وكثرة العْبَّش في طرحها في وسائل التواصل الاجتماعي للإكثار من حشد النصوص لتجلية الحق فيها فكنت أرجع عند نقل قول ما -في فهم معاني آيات القرآن الكريم - إلى عدّة مراجع تكرر نفس الموقف. ليس استكثارًا من المراجع، وإنما لئلا يظنّ ظَان إذا اقتصرت على مرجع واحد أنه ربما يكون قد انفرد في فهمه للمسألة» فليعذرني الأخ القارئ إن رأى كثرة المراجع في مسألة ما.

وقد حرصت على توثيق النقول التي أستشهد بها من كلام سادتنا العلماء من مصادرها وعلى تخريج الأحاديث النبوية وبيان مرتبتها من الصحة، وقد أدى ذلك إلى كثرة ال هوامش في البحث، وقد اعتمدت - لتقليل حجم تلك الهوامش قدر الإمكان - نظامًا في توثيق المراجع فيها أبيّنه هنا ليكون واضحًا للقارئ:

” عند العزو لكتب التفسير اعتمدت أسماء التفاسير بنسبتها إلى مؤلفيها فلا أقول (الطبري» جامع البيان عن تأويل آي القرآن) وإنما أقول: (تفسير الطبري) وفي (القرطبي الجامع لأحكام القرآن) أكتفي بالقول (تفسير القرطبي) وفي زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، أقول: (تفسير ابن الجوزي)» وهكذا إلا أن يكون للمفسر أكثر من كتاب في التفسير» مثل الواحدي الذي له ثلاثة تفاسير» وهي: التفسير البسيط والوسيط في تفسير القرآن المجيد، والوجيز في تفسير الكتاب العزيز فكان لا بدَّ من بيان الكتاب المرجوع إليه منها.

” أذكر كتب السنة باسم الشهرة مثلا فلا أقول (ابن حبان» الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان»» وإنما أقول: (صحيح ابن حبان) وفي (النسائي) المجتبى من السنن، أو (النسائي) السنن الصغرى أكتفي بالقول (سنن النسائي) وهكذا.

اعتمدت عند العزو لكتب السنة ذكر رقم الحديث وفق الطبعة التي أشير إلى اعتمادها في ثبت المراجع آخر الكتاب دون ذكر الجزء ورقم الصفحة. إلا أن تكون أحاديث الكتاب غير مرقمة، فأعزوه لرقم الصفحة.

اضطررت - أحيانًا - للرجوع إلى أكثر من طبعة لنفس الكتاب من كتب السنة عندما أحتاج للاستشهاد بقول أكثر من محقق للكتاب نفسه في الحكم على الحديث.

اختصرت الأسماء الطويلة للكتب مكتفيًا بها يكفي للدلالة على الكتاب» فمثلا: أقول: (ابن عبد البر» التمهيد) بدلا من (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) وأقول: (ابن القطان بيان الوهم والإيهام) بدلا من (بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام)، وأقول: (الكرماني الكواكب الدراري) بدلا من (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري»؛ وأقول: (القاضي عياض إكمال المعلم)» بدلا من (إكمال المعلم بفوائد مسلم) وهكذا وقد ذكرت تفاصيل أسماء الكتب والطبعات التي رجعت إليها في ثبت المراجع آخر الكتاب.

ولما كان هناك العديد من الأعلام المذكورين في متن البحث وكان كثير منهم ممن ينبغي التعريف بهم، وخشيت أن تتضخم الهوامش بذلك فقد ألحقت بالكتاب ملحقًا حوى تراجم مختصرة لهؤلاء الأعلام تناسب المقام، مع الإشارة لمرجع ترجمتهم لمن شاء الاستزادة منها، مع استثناء من يعتبر ذكر تراجمهم من العبث لشهرتهم كالصحابة المشهورين، والأئمة الأربعة» وأصحاب كتب السنة المشهورة.

وأخيرًا:

فإن هذا الجهد عمل بشري لن يخلو من نقص وتقصير - ككل أعمال البشر – وقد بذلت فيه جهدي وحاولت الوصول إلى أرجح الاختيارات في المسائل المطروحة» فإن أحسنت فبتوفيق من الله - جل في علاه -» وإن أسأت فمني ومن الشيطان» والمرجو من الأفاضل من أهل العلم إن رأوا في هذا البحث خللًا أو تقصيرًا أو زيغاً عن الحق أن يكرموني

بنُصحهم، وذلك عبر مراسلتي على بريدي الإلكتروني أو على صفحاتي في وسائل التواصل الاجتماعي.

الله - سبحانه - أَسألٌ أن يمن علينا وعلى أُمَّتنا بالهداية والرجوع للتمسك بما عليه الصالحون من السالكين في طريق الله تعالى» وأن يرينا الحنّ حقًا ويرزقنا اتباعه» والباطل باطلّ ويرزقنا اجتنابه.

وكتبه

الفقير إلى اللّه تعالى: عيسى خيري الجعبري

مدينة خليل الرحمن / فلسطين

جمادى الأولى سنة 1443 هـ / وفق كانون الثاني سنة 2022 م

تحميل الملف