التفسير المكي للشيخ طاهر الكردي، ومعه:

 

المقدمة

الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى وعلى خاتمهم المجتبى سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد بُذلت جهود مباركة كثيرة في تفسير القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، واتَّسعت مكتبة التَّفسير اتِّساعًا كبيراً، وملأت مجلداتها خزائن عديدة، وتعدَّدت مناهج المفسِّرين، وطرائقهم، واستفاد اللاحقون ممَّن سبقهم، وأضاف بعضهم - وهم قلَّة قليلة -، واستنبطوا من دلالات النصِّ القرآني ما رزقهم الله تعالى من فهم سليم، وتدبُّر عميق؛ على أنَّ الاجتهادات الإنسانيَّة مهما بلغت من النقاء والصَّفاء مبلغًا عالياً، فقد لا تخلو من أخطاء غير مقصودة، والمتابعات العلميَّة كفيلةٌ ببيانها، وتصويب الصَّواب منها، وتَخْطيء الخطأ فيها.

ومن هذه الجهود المبذولة في منتصف القرن الهجري السالف، ما قام به الخطَّاط المُؤرِّخ الأديب الشيخ محمد طاهر الكردي المكي المولود بمكة المكرمة سنة ۱۳۲۱هـ، والمتوفى بجُدَّة عام 1400هـ رحمه الله تعالى، كاتب مصحف مكة المكرمة، وصاحب كتاب (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم)، الذي نهض لكتابة تفسير لكتاب الله عز وجل سمَّاه: (التفسير المكي)، ثم كتب تفسيرًا آخر سمَّاه: (زهرة التفاسير).

وتعود صلتي بـ (التفسير المكي) إلى سنوات عديدة، أثناء دراستي في مرحلة الدراسات العليا (في عام 1407) بجامعة أم القرى بمكة المكرمة شرفها الله تعالى، حين قدَّمه إليَّ أحدُ الناشرين الفضلاء لقراءته وترقيمه، وإعداده للطباعة، فقرأتُ بعض أجزائه قراءةً عابرةً، وتعرَّفت من خلال ذلك على منهجه وطريقته في التفسير، وأعددْتُ بعض أجزائه - بعد قراءته وترقيمه - للطباعة، دون أن أُعَلِّق عليه أو أتعقبه، أو أبذل جهدًا مّا في تجويده وتحسينه، وانقطعت صلتي بالكتاب، وتعثرت طباعته لمدة طويلة.

ثمَّ سعَت جهة علميَّة أخرى إلى إصداره مع تفسيره الآخر (زهرة التفاسير)، وقُدِّم الكتابان إليَّ، فقرأتُ (زهرة التفاسير) ونقَّحته وأعددتُه للطباعة، بعد خدمات مُتعدِّدات، وسوف يصدر بعون الله تعالى قريباً.

ثمَّ عدتُ إلى (التفسير المكي) أقلِّبُ النظر فيه، وأجتهدُ في محاولة خدمته وتقريبه لجمهور القراء، وبذلتُ وسعي في خدمته وإكمال جوانب النقص فيه، ورأيتُ أن إتمام العمل على الوجه العلمي المطلوب سيستغرق مني زمنًا طويلًا و جهدًا كبيراً، أمام سعَة الكتاب، وكثرة نقوله، وتعدُّد مباحثه، وتنوُّع استطراداته، واسْتَحْسَنْتُ أن أخرج بعض أجزائه للتعريف بأسلوب المؤلف و طريقته في التفسير، وللاطِّلاع كذلك على جوانب خدمتي للكتاب، وللاستفادة من آراء الباحثين وملاحظاتهم، وليكون إخراجه في أجزاء متتابعة أخفَّ مؤونة عليَّ وعلى القارئ.

وقد استحسنتُ أن أُقدِّم للقرَّاء تفسير سورة النساء التي انتهى المؤلف -رحمه الله تعالى - من تفسيرها في يوم الجمعة آخر شوال سنة ۱۳۷۸ بمكة المكرمة.

وأتبع هذه السورة بِسُور أخرى مُتتابعة، حتى يتمَّ إصداره كاملًا بعون الله وتوفيقه، وإنَّما لم أقدِّم تفسير سُورَتي البقرة وآل عمران، لحاجتهما إلى مزيد من الخدمة المطلوبة، ولأنهما سيتقدَّمهما دراسة مُطوَّلة أُترجم فيها للمؤلف، وأتكلم فيها عن منهجه في التفسير ومصادره ومزاياه، وبعض المآخذ والعيوب التي تحتاج إلى الاستدراك والتنبيه، مادام للإنسان عقل يُرشده إلى الصَّواب، أو يد تصل إلى كتاب، أو مادام له فكر يتأمَّل، وطاقات متحرِّكة تعمل، فالكمال لله تعالى وحده.

والمؤلف - رحمه الله تعالى - في هذه السورة وفي سائر تفسيره، كثير الاستطراد والخروج من موضوع الآية لأدنى مناسبة يراها، إذ لا يخلو مؤلف عن التأثر بثقافته وبيئته؛ فهو عالم يميل إلى التاريخ والأدب، وحُبِّ الجمع والاستكثار من النقول، فَيُوردُ عند الآيات ما يستحسنه من القصص والحكايات، والمواعظ والأمثال والأشعار، وقد يزيد الاستطراد عند بعض الآيات - ممَّا هو بعيد عن جوِّ الآية - على أكثر من أربعين صفحة، بل ستين صفحة، كما ستجد في الملاحق التي ألحقتها في آخر تفسير هذه السورة.

وفي الوقت نفسه يقصِّر تقصيرًا شديدًا في الوقوف عند بعض الآيات، ولا سيما في بيان معنى المفردات اللغويَّة، فضلًا عن الفوائد التفسيريَّة، والنكات البلاغية.

وعمدة المؤلف في تفسيره ومراجعه الأساسية: تفسير ابن كثير، والخازن، ويرجع أحيانا إلى تفسير النسفي، والبغوي، وحاشيَتَي الجمل، والصاوي على تفسير الجلالين، وهو لم يستفد من هذه المصادر على الوجه المطلوب، بل يختار منها اختيارات يستحسنها ويغفل الكثير من الفوائد والمهمات فيها.

والمؤلف رحمه الله تعالى – كما ذكرت-يستطرد على سجيَّته، وينقل ما يحلُو له، دون استقصاء للنقل من تلك المصادر المعدودة، أو استفادة من كثير ممَّا فيها.. وهو في كتابه يُغلِّب جانبَ الوعظ والتَّذكير، ويُراعي في كتابته جمهور الناس وعوامَّهم، وواقعهم وأحوالهم، فلا يشير في تفسيره إلى أيِّ فائدة بلاغيَّة، أو مسألة تتعلق بمتشابه لفظي، ولا يلتفت إلى ذلك، ويخلو تفسيره من هذه الدقائق واللطائف، ولا يتعدَّى في بيان بعض المفردات من الرجوع إلى (مختار الصحاح)، و (المصباح المنير)، فضلًا عن الرجوع إلى معاجم اللغة وكتب ألفاظ القرآن كـ (المفردات) للراغب، أو (معجم مقاييس اللغة)، أو (اللسان)، ممَّا ترك في تفسيره عوزًا ونقصًا لابدَّ من استدراكه.

وبعد قراءتي للكتاب وصُحبتي الطويلة للمؤلف، رأيتُ أنه لابدَّ لخدمة هذا التفسير من باب النصيحة لكتاب الله عز وجل، من عملين اثنين متوازيين: التَّخلية والتَّحلية.

فأمَّا التَّخلية، فتكون بتحويل الاستطرادات الكثيرة والطويلة البعيدة عن موضوع الآية التي يقوم بتفسيرها إلى آخر السورة، مع التنبيه على ذلك في موضعه من الآية، ليبقى القارئ في جوِّ السورة وموضوعها، ولا يخرج عنها إلى قصص وحكايات وأشعار تخرجه عن التفسير، حتى يخال نفسه أنه يقرأ كتابًا تاريخيًّا أو أدبيًّا، أو مقالة صحفية.. وقد بلغت الملاحق الخارجة عن موضوع التفسير في هذه السورة فقط خمسة وعشرين ملحقًا، ألحقتها في آخر السورة، متسلسلة حسب ورودها في الكتاب، مع الإشارة عند كل ملحق إلى مناسبته وموضع ذكره. 

وأما الاستطرادات القصيرة فما كان منها متعلقًا بالتفسير، فقد جعلته في الحاشية، وأشرت في آخره إلى أنه من كلامه بقولي بعد نقل كلامه: (المؤلف)

وأمَّا ما ليس له صلة بالتفسير من الاستطرادات القصيرة أيضًا، فجعلته في الحاشية أيضا، وقلت في أول الحاشية: (قال المؤلف)، ليُعلم أنها ليست ممَّا يتصل بالتفسير أدنى اتصال، ولا يرتبط بالآية بأيِّ ارتباط، فيمكن للقارئ أن يمرَّ على هذه المواضع دون توقُّف عندها؛ كي لا تقطع صلته بالآية، وتُخرجه عن موضوع السورة وجوِّها.

وأما جانب التَّحلية، فهو مُتعدِّد الجوانب، واسعُ الأرجاء، ولو ذهبت أتمُّ ما أراه ناقصاً، وأكمل ما يحتاج إلى تجويد وتحسين، لاحتاج الأمر إلى كتابة تفسير جديد، أنسبه النفسي، ولذلك اقتصرت في جانب التَّحلية على الأمور التالية:

1 - العناية بالتَّرقيم والضبط بالشكل، وإبراز الآيات القرآنيَّة، مع أرقامها بخط المصحف الشريف، ضمن سياق التفسير، وهو ما أغفله المؤلف رحمه الله تعالى، وأدرج في كثير من المواضع الآيات ضمن كلامه دون تمييز لها.

۲- إكمال بعض المواضع في متن التفسير التي غَفَلَ المؤلف عن التعرُّض لها، وجعلتها بين معقوفين، للتنبيه على أنها من زيادتي.

٣- وضع العناوين الجانبيَّة التي تُعين القارئ على فهم معاني الآيات ومواضيع السورة، وقد بلغت العناوين التي وضعتها وميَّزتها في هذه السورة فقط أكثر من مائتين وعشرين عنواناً.

4 - عَزْوُ النقول بعد الرجوع إلى مصادره، والتوثُّق منها. 

5- تخريج الأحاديث والآثار.

6 - التعليق على كثير من المواضيع التي تحتاج إلى إكمال وإتمام وتحسين من مراجع متعدِّدة متنوِّعة، اقتطفتُ منها ما أرى أنَّ القارئ بحاجة إليه، لإشباع القارئ من الجانب العلمي، وتعريفه بفوائد يجدُها قريبةَ الجَنَى، دانية القطاف.

7- التنبيه على بعض الأوهام التي وقع المؤلف فيها، وهي من أهم جوانب الخدمة المطلوبة لهذا التفسير.

كما أوردت الكثير من التعليقات التي تسدُّ النقص الواقع في التفسير، وبذلت الجهد في ذلك، حتى استوى إلى مستوى يليق بتفسير كلام الله سبحانه وتعالى بالجهد البشري المحدود.

وحقيقٌ أن تُسمَّى جوانب التَّحسين والإتمام التي قمت بها نحو تفسير هذه السورة الكريمة بـ:

(إسبال الكساء على تفسير سورة النساء).

سائلًا المولى سبحانه أن يتقبَّل جهدي، ويرزقني الإخلاص في القول والعمل والإصابة والسَّداد.

وكنت أودُّ أن أكتب التفسير كلِّ سورة ما يتَّصل بموضوعاتها ومقاصدها، ودروسها، وسبب تسميتها، ووقت نزولها، والبيئة المعنويَّة الخاصَّة التي تسري في آياتها، إذ إنَّ المؤلف رحمه الله تعالى لم يُولِ هذا الجانب أدنى اهتمام، فهو يدخل إلى تفسير السورة دون أيَّة إشارة لموضوعاتها ودروسها، كما لا يعتني ضمن السورة أيَّةَ عنايةٍ بذكر ما يتعلَّق بترابط موضوعاتها في وحدة فكريَّة متشابكة تشابك فروع الشجرة.

وقد استحسنتُ في هذا الجزء أن أُمَهِّد للقارئ الكريم قبل دخوله في التفسير بما يتعلَّق بأهم موضوعات السورة من خلال تسميتها، ليدخل القارئ إلى السورة مُلمًّا ببعض موضوعاتها، مُتعرِّفًا على سبب الحكمة من تسميتها بهذا الاسم: (النساء).

وبعد: فإليك - أيها القارئ الكريم - تفسير سورة النساء، وهو نموذج تفصيليٌّ يُوضِّح لك منهج (التفسير المكي)، الذي ألَّفه الأستاذ المؤرخ الأديب الشيخ طاهر الكردي المكي، تتلمَّس من خلاله تأثُّره بثقافته وبيئته العلمية واهتماماته ونظراته الإصلاحية، وليكون هذا النموذج سبيلًا إلى التواصل العلمي، وتقديم الاقتراحات المطلوبة في خدمة هذا التفسير، وإسداء النصيحة فيما قمتُ به نحو هذه السورة وغيرها ممَّا سبقها ولحقها من خدمات مُتعدِّدات، لنُسدِّد العمل، ونُقوِّم المنهج، ونتعاونَ في تحقيق النصيحة لكتاب الله عزَّوجلَّ.

وكتبه: مجد مكي

الخميس 24 من رمضان 1426.