الأستاذ( نجاح علوان) في السابقين

كنسيم لطيف سرى رغم طول الزمن من بداية الحكاية إلى نهايتها: هذه حكاية الرجل الصالح نجاح علوان

ولد رحمه الله في مدينة معرّة النعمان (سورية) عام 1932 في أسرة متوسطة معروفة وكبيرة العدد نسبيًّا وملتزمة دينيا، كان والده الحاج مطيع تقي علوان يملك نشاطا تجاريا يخدم أهل المعرَّة والمناطق المحيطة بها، في وقت كانت فيه سورية تخوض صراعها مع الاستعمار من جهة ومع التغريب الذي كانت بواكيره تتسرب عبر الأفكار الواردة من ليبرالية إلى يسارية، ولأنها (المعرة) منطقة زراعية خصبة، فقد كان الصراع الطبقي ظاهرًا وكان الاستقطاب واضحا بين ما يسمَّى بالإقطاع وأنصاره مع اليسار والاشتراكيين في الطرف المقابل، ولم يكن سهلا – كما هو المعروف- تموضع المتدينين وسط هذا.

درس نجاح الابتدائية في مدينة المعرة ملتزما الخط الديني قريبا من علماء المعرة وخطبائها وعلى رأسهم الشيخ الحصري، محددا المسيرة والاتجاه، لينتقل بعد ذلك إلى دمشق فيدرس في الجمعية الغراء أربع سنوات، جعلته يتعرف على الكثير من العلماء والمشايخ والطلبة النابهين والمتحرقين لنصرة الإسلام، فقد كانت الجمعية أحد مراكز تجمعهم ونشاطهم، ليكمل بعدها الرحلة في حلب في المعهد العربي الإسلامي طالبا ثم مدرسا حيث أتم مشواره العلمي الأول بنيله إجازة التعليم من دار المعلمين في حلب عام 1952.

ومن وقتها إلى عام 1960 تنقل نجاح معلمًا للصفوف الابتدائية في المدارس المختلفة بين المدن والأرياف (كفرنبل، المعرة، لهلبة، ...)، يبذل فيها بإخلاص، رغم قلة الموارد ونقص الإمكانات، ففي إحدى القرى لم تكن المدرسة سوى غرفة كبيرة ملحقة بأحد البيوت كانت تستخدم للحيوانات، فقام الأستاذ نجاح مع أهل المنطقة بإصلاحها لتكون مكانا مناسبًا لعدد من الصفوف في وقت واحد، فكان يدرس الصف الأول والثاني معا، ثم يجمع الثالث والرابع، وهكذا، يعلم الخير ويزرع الود ويقدم النموذج، عينه على النشء أن يتعلم وعينه على المجتمع أن يكون قريبا من الإسلام، فحيث هناك مسجد، فإنه يشجع التلاميذ والأهل على إعماره، وإذا لم يكن هناك مسجد في القرية، فإنه يشحذ الهمم لتوفير مكان ولو كان صغيرا لذلك ، وفي سبيل هذا وذاك كان رحمه الله يعالج بالحكمة والموعظة الحسنة التخلف والجهل وجهود إبعاد الناس عن دين الله وزرع الكراهية بين الطبقات ، فكان رائدا مبكرًا للعمل الإسلامي في منطقته وفي المنطقة المحيطة ، خاصة في المناسبات كزيارة حسن الهضيبي والدكتور مصطفى السباعي وأعلام العمل الإسلامي للشمال السوري، إذ لطالما حصل التماس والاحتكاك مع أنصار الاشتراكيين وحزب البعث إزاء كل حدث أو مناسبة وطنية، لكن الأستاذ نجاح كان حاسما شجاعا في مواجهة أي تعدٍّ أو تجاوز، مع فقه ودراية عميقة في تجنب ما لا يفيد وينفع.

عاد نجاح إلى حلب عام 1958 معلما فيها، ليكون زواجه من الفاضلة هناء كيالي عام 1959 التي كان والدها رحمه الله من أشهر خطاطي حلب والجسر، وهو الأستاذ عبد الصمد كيالي، فقد كان شعلة نور وضياء طوال حياته، خاصة عند كبر سنّه، من حسن ذكر إلى تقوى قلب إلى سكينة روح ومظهر.

ولأن سورية كانت مصدرا للإشعاع العلمي، فإنها كانت توفر البعثات التعليمية للبلاد العربية المحتاجة مثل دول الخليج، فكان أن تمت (إعارة) مجموعة كبيرة من المعلمين لدولة قطر عام 1960 كان نجاح علوان واحدا منهم، فدرس في مدارس مدينة الخور أربع سنوات كان فيها مثالا للمعلم الملتزم بمهنته وقضايا وواجبات أمته ودينه، كما تعرف خلالها وشارك عددًا من رواد العمل الاسلامي في ذلك البلد مثل الشيخ مصطفى الصيرفي والاستاذ عادل كنعان وآخرين.

بعد عودته إلى حلب عام 1964 بدأت رحلته التعليمية الجديدة من جهة ونشاطه الاسلامي داعية وموجّهًا من جهة أخرى، إذ درس في عدد من مدارس حلب ، ورغم أنه رزق خلال عشر سنوات من زواجه بأربع مواليد : أيمن، أحمد مؤمن، مِنى، ومحمد مطيع إلا أن شغفه العلمي وهمته العالية دفعوا به إلى مشواره العلمي الجديد حيث بدأ دراسة دبلوم في علوم الإحصاء في جامعة حلب تلاها دراسة بكالوريوس لغة عربية من نفس الجامعة حيث أصبح إداريا في كلية العلوم الاقتصادية بعد انتقال وظيفته من وزارة التربية إلى الجامعة التي بقي فيها حتى مغادرته سورية علم 1979.

وخلال هذه المرحلة كان الأستاذ نجاح يبذل ما يستطيع من وقت للتعريف بالإسلام ودعوة الناس إليه، وتشجيع المحيطين به على الالتزام بأصوله وقواعده، متحديًا إجراءات نظام سياسي يسعى لخفض مساحات التدين وإقصاء أهله، وقد خاض لذلك عددا من المعارك دفاعا عن حجاب طالبات أو لإقامة مصليات قريبا من قاعات الدراسة رغم معارضة عميد الكلية وأنصار حزب البعث.

كانت سورية تعيش صحوة إسلامية عارمة إذ كان المد الإسلامي الشعبي يجتاح المدن الكبرى وأوساط المثقفين والنخب بشكل خاص، في وقت كان النظام يرصد ذلك ويحاول مقاومته باعتقال الكوادر أو التضييق عليهم ، فقد تعرض التعليم لوحده لأشهر عملية إقصاء لمئات المعلمين الملتزمين دينيا بإبعادهم من التدريس إلى دوائر أخرى في الدولة كالتموين والصحة والبلديات، ممَّا أدى إلى حدوث صدام توسعت دائرته ليشمل سورية كلها سعيا نحو الحرية وثورة على الفساد، خاصة مع توسع حجم الاعتقالات التي شملت الألوف إضافة إلى عمليات القتل العشوائي والمنظم التي شملت المدنيين في الكثير من المدن والسجون، مما اضطر الأستاذ نجاح لمغادرة القطر إلى المملكة العربية السعودية أواخر عام 1979.

بعد سفره إلى السعودية بشهرين زار المدينة المنورة، ووقف أمام قبر الرسول عليه الصلاة والسلام يًسلم عليه وينقل له سلام المحبين من أهله وأقاربه، فكان يذكر أسماءهم بسهولة بينما لا ينطلق لسانه عند ذكر اسم ابنه البكر أيمن، فما لبث بضعة أيام حتى وصله خبر استشهاده في حادثة مشهورة في مدينة حلب في شهر شباط 1980 مع سبعة من الشباب الإسلامي عندما داهمت منزلهم قوات النظام في حي الصاخور، إلا أن الأستاذ نجاح تلقى ذلك بقلب محتسب وصدر مؤمن واثق من كرم الله و نصره.

لقد زاده استشهاد ابنه البكر حنوًا ورفقًا على أبناء الدعوة الاسلامية، فكان يبذل لهم كل غال ونفيس، ليتحول منزله في جدة ومكة إلى مضافة ينزل فيها المهاجرون الجدد إلى السعودية، حيث تقام موائد الطعام ساعة بعد ساعة، وحيث يلقى أصحاب الحاجات من يستطيع خدمتهم ومساعدتهم.

في السعودية انشغل الأستاذ نجاح بالعمل الدعوي نصيرًا ومساندًا، يبذل الوقت والخدمة لإخوانه وأبناء دعوته حيثما كانوا وبأيِّ شكل ممكن، فهم الوافدون بعد عناء، ولكل واحد منهم قصة ومعاناة، فكان نعم الأخ الكبير والموجه، ورغم انشغاله الأساسي هذا إلا أنه مارس العديد من النشاطات المهنية كالمقاولات، والتجارة إضافة إلى شغفه الأساس بتعليم العربية وإعراب القرآن، ولقد تبدو قصة أحد تلامذته جميلة ومؤثرة، إذ كان الشاب مصابا بالسرطان، فكان الأستاذ نجاح يزوره يوميا راقيا، لعل الله يكشف الضر عنه، ومعلما له قواعد اللغة العربية وإعراب القرآن، ولقد استجاب الله دعاءه فشفي الشاب وتزوج ورزق بالولد إلا أنه لم ينس أثر الأستاذ نجاح وعاطفته. 

بين جدة ومكة قضى نجاح علوان أغلب سنوات عمره في السعودية (1980-2018) دمث الخلق متواضعا لين الجانب لم يعنف أحدا قط، لا من أولاده ولا من الناس الآخرين، معتمدا أسلوب القدوة والنموذج لتعليم الآخرين الصواب والحق، إلا أن لطفه الحاني هذا كان ينقلب إلى ثورة عارمة إذا انتهكت محارم الدين أو اعتدي عليه، فقد كان رحمه الله شديد الغيرة على الإسلام وأهله في كل مكان، وخاصة في أرجاء بلده سورية المصابة وهو المغترب عنها، والذي يذوب كمدا للعودة إليها والمساهمة في عمرانها وإصلاحها، دون أن يتاح له مشاهدة ثراها مذ غادرها عام 1979، أي قريبا من أربعين عاما، كان شديد التمسك بدينه وعباداته حريصا على أدائها بشكلها الصحيح المتقن، سنة وفرضا، لا يفوته منها شيء، ولأنه شافعي المذهب فقد كانت قراءته لدعاء الاستفتاح ( وجهت وجهي...) لازمة مع الفاتحة مهما كان الإمام الذي يصلي خلفه، مخرجا الحروف من أماكنها مرتلا الآيات بخشوعها، مؤدِّيا الصلوات سجودها وركوعها حسب ما أمر النبي وورد في السنة.

في علاقاته الاجتماعية، كان الأستاذ نجاح علوان شديد الحرص على أرحامه حيثما كانوا، واصلا ومشجعا لهم على أداء عمرة يكون هو المستضيف والمشرف على خدمتهم. كان يبذل من وقته وماله وراحته ما يحقق آمال أهله وأبناء دربه، فاجتمع الناس حوله، وصار مركز تواصل وملتقى كرم. كان حريصا أن لا يغيب عن أيِّ درس علمي أو اجتماع أخوي أو أيِّ جهد داعم ومساند، ملتزما بمواعيده، ومنجزا لواجباته التي يكلف أو يلتزم بها، فنال حب الخلق ودعاءهم. 

صعبت عليه الحركة قبل وفاته بخمس سنين فلم يمنعه ذلك من عمل الصالحات، وأداء الواجبات وخاصة الطاعات، مبادرا الى الصلاة، ذاكرا الله على كل حال، محتسبا غربته عن وطنه وبقية أهله في سبيل الله، وفي أيامه العشر الأخيرة التي قضاها في المشفى، كان يلجأ إلى الصلاة وهو على الفراش، غير قادر على الحركة، فبمجرد أن يصحو كان يُكَبّر ويرفع يديه ليصلي ويتلو القرآن ويدعو غير عابيء بكل ما حوله من أدوات ومعدات طبية، ولأن الصحو كان غير منتظم فلربما صلى الفرض عدة مرات دون ان يتذكر. 

أسلم نجاح علوان الروح لبارئها مساء الأحد 11 من شباط ( فبراير) عام 2018 الموافق لـ 25 جمادى الأولى عام 1439 في مشفى الجامعة في جدة، محتسبًا ما أصابه في سبيل الله كله، فلقد قضى العمر فاعلا للخير، مهتديا بكلام الله وسنة نبيه، مسخرا حياته لخدمة هذا الدين، فلم يعرف عنه سوء أو باطل، وكانت أيام مرضه الأخير صورة لذلك الإيمان الكبير الذي عاشه فلم نسمع منه تذمرًا أو شكوى لغير الله.

ست وثمانون عاما صرفت في الخير والطاعة والغربة في سبيل الله، نسأله تعالى أن يتقبلها من هذا النموذج الصالح.

رحمك الله أبا أيمن، فقد طبت حيًّا، وطبت ميتًا، والله نسأل لك الفردوس الأعلى، والحمد لله رب العالمين.