سيدي العلامة الشيخ د. نور الدين عتر 

صورة لكرم العلماء وتواضعهم

مرّ ذكرُ شيخنا العتر، حفظه المولى وعافاه، في حديث لي مع أحد محبيه، مرّ حديثه خلال مرورنا، هذه الليلةَ، بجموع المتهيئين لصلاة العشاء في الحرم النبويّ الشريف، ومرور ذكره رضي الله عنه، في مثل هذا الزمن الشريف، وهذا المكان الشريف= إشارة لاح لي فيها فكرة الكتابة عن شيخنا العتر من جانب لامسه فيه مقربوه من طلابه ومحبيه، فكان اجتماع شرف الكتابة بزمانها ومكانها مع شرف المكتوب عنه= فكرة تستحقّ التدوين والنشر.

ما زلت أسمعُ مذ عرفت الناس شابًّا بأنّ الصالحين لهم مقامهم، وأن لهم أحوالهم، وأنّ لهم كراماتهم، وهذا كان يأخذني للبحث والتدقيق والتأمل والمتابعة، حتى عرفت شيخنا العتر.

كنتُ في السنة الثانية في كلية الآداب في جامعة دمشق، وكنتُ مجتهدًا، أحاول ما استطعتُ ألا أرهق والدي بمصروفي، على يسر الحال الذي كنا وما زلنا فيه بفضل الله، لذا فكنت أعمل في المراجعات والتدقيق اللغوي مع كثير من دور النشر بدمشق، وكان لي منها دخل يكفيني إقامة ودراسة وتأسيسًا لمكتبة تخدم أبحاثي.

حجزت صباح الأحد إلى دمشق، وكنت على قرب مغادرة البيت إلى مكتب الحجز قريبًا جدًّا من بيتنا، كان الحجز بخمسين ليرة، وكان للخمسين صولةٌ وقتها، ولعلها تعود، نظرت في محفظتي فإذا فيها ثلاثمئة ليرة، وفي هذه الأثناء كانت أمي مقبلة تحمل أغراض البيت الصباحية، قبّلتها سريعًا وودعتها، تاركًا في يديها مئتين، وصاحت بي: ماذا أبقيت لك، تعال خذها، الخير كثير يا ابني، ودعتها مرة أخرى بقبلة سريعة ومضيت مبتهجًا إلى ( البولمان) المتجه لدمشق.

في الميدان كان لي شبكة أصدقاء مميزة وما زالت، وكان يجمعنا طالب علم أزهري متكلم فقيه(أبو خالد)، كنتُ أقرأ معه القرآن ومتن أبي شجاع، وكنت أسأله في بعض ما كان يعترض لي في دمشق.

استيقظتُ فجر الاثنين، وما زال منام جميل يعيد أحداثه عليّ، لقد رأيت الشيخ العتر يهديني شيئًا، والغالب أنه مال، لجأت للشيخ( أبو خالد) أطلب رأيه فيما رأيت، وكان سؤالي له: لو تحقق المنام فهل أقبل المال منه، فقال لي بلهجته الميدانية: وما أحلاك وأنت ما آخذه، لك هاد من مال سيدنا العتر، يابا في أطهر من هيك مال !

مضت أيام، وكان مجلس جامع الشمسية، وحين فرغنا أشار الشيخ بالمضي نحو بيته مع أربعة من فضلاء أهل العلم، وأذكر منهم الدكتور الطبيب محمد خير الشعال الداعية المعروف.

انفضّ المجلس الخاص حينما رفع شيخنا العتر يديه بقراءة الفاتحة، وقف الاخوة، ووقف الشيخ يودّعهم عند باب غرفة الاستقبال وبابها يؤدي إلى درج البناية، وكنت، لصغري بينهم عمرًا وقدرًا، ورغبة في الاستئثار بأن أكون آخر من يودعه ويقبل يده، كنت أقف في خاتمة المغادرين.

مشى الجميع، وحين بلغت موضع مغادرتي قال لي الشيخ انتظر يا فضل، دخل إلى الداخل، ثم أتى يحمل كيسًا فيه كتابان هما فكر المسلم، وكتاب ترجمته لخاله وأستاذه سيدنا العلامة المحدث عبدالله سراج الدين، وكان كلفني بمراجعته بعد طباعته الأولى.

إلى ههنا فالمشهد الذي رأيته في منامي لم يأت، فالشيخ العلامة يتكلم بهدوء وبطء يمكنك معه عدّ كلماته، لحظة فإذا به يضع مبلغًا في جيب قميصي، ويقول: هذا حلوان نجاحك، وختم بقوله: طلاب سيدنا عبدالله سراج الدين يا بني لا تعلو نفوسهم، فما استطعتَ فلا تترك لنفسك مساحة أن تتعاظم وتكبر.

دارت في رأسي صورة أمي ومنامي وكلام شيخي أبي خالد، فقلت لشيخنا العتر: سيدي لقد رأيت في المنام ما حدث الآن، وكنت سألت أستاذي فيما رأيت، فقال لي: خذ، هذا مال من أطهر المال؛ ابتسم شيخنا العتر، وودعته، ومضيت.

نزلت على درج البناية لا تحيط بي معاني الوجد كلها، ما رأيته يحدث، بهذه الصورة، وبهذه السرعة!

المشكلة ليست هنا، فللشيخ أحوال معروفة، وكرمه مع طلابه معروف مشهور، المشكلة ماذا سأفعل بهدية الشيخ المالية، وما زلت أفكر حتى قررت أن أصرفها في وجوه الخير، خشية أن أصرف منها ليرة في غير وجهها؛ فأقع في الملامة التي لن تنتهِي في نفسي.

نزلت إلى السوق فاشتريت خبزًا يحبه أهل الحارة في مديتني، ربع المبلغ صرفته ثمنًا لخبز ( السمون التازه)، وقفلت لبصرى، وما زالت أمي توزع على الجيران والأقارب من أهلنا حتى انتهت الكمية.

وبقي ثلاثة أرباع المبلغ أحملها كأنها الجبال، فهو المال الذي لا ينبغي أن تصرف منه ليرة إلا في الخير.

وما زلت في هذا الفكر حتى زارني أحد الأخوة، وأسرّ لي أن عنده امتحانًا في البورد، وبقي له مبلغ يحتاجه، سألته عن المبلغ فإذا هو باقي مال الشيخ، فقلت له وصلت، هذا مال حلال، ادرس وانجح لعل المولى ينفع بك، فيكون لي وللشيخ أجر وعقبى.

مرّت سبع عشرة سنةً، وما زالتِ القصة في نفسي أستدفي بطهرها وحسنها وجلالها، ولأني في حضرة الحبيب المصطفى أفضت بها للقارئ لعل بها نفعًا، نفعًا أرجوه أن يكون قبولًا من الحبيب بالشفاعة لي، ولحبيبي وشيخي العلامة الدكتور نور الدين عتر جمعني المولى به في خيري الدارين.