العلامة عبد الله سراج الدين

1343 ـ 1422هـ

1924 ـ 2002م

 

الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد نجيب بن الحاج محمد بن الحاج يوسف سراج الدين الحسيني ( )، الحنفي الحلبي.

علامة عامل، إمام، محدث حافظ، ومفسر مدقق، وفقيه محقق مجتهد وصوفي عابد، وزاهد ورع.

ولد في مدينة حلب، سنة: ثلاث وأربعين وثلاثمئة وألف للهجرة النبوية الشريفة، في أسرة طاهرة مباركة، ومن أبوين كريمين صالحين

فوالده الرجل الصالح العلامة المحدث المفسر محمد نجيب سراج الدين ( ) ووالدته سيدة فاضلة صالحة من آل المكتبي( ).

في هذه الأسرة الطيبة، نشأ الشيخ وربي على التقوى والصلاح وحب العلم. وما أن وعي الحياة، وبدأ يدرج في أول مدارجها، حتى بعث به والده إلى كتاب (جامع سليمان)( ) ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة، انتقل بعدها إلى مدرسة (دار الفلاح)( ) في جامع (السلطانية)، فتعلم فيها تلاوة القرآن الكريم ومبادئ العلوم الشرعية والعربية والحساب وعلم (الدوبيا)( ) وذلك على يد شيخيه الشيخ عثمان المصري والشيخ محمد خير أسبير، وبعد تخرجه فيها، وجهه والده إلى مكتب المدرسة (العثمانية) لتحفيظ القرآن الكريم، وقد حفظه بمدة قصيرة مع التجويد ومبادئ علم القراءات والنحو على يد شيخه الشيخ عبد الوهاب المصري، ثم انتسب إلى المدرسة (الخسروية) مستمعاً لصغر سنه، وبعد عام من حضوره على شيوخها، غدا طالباً نظامياً فيها

يدرس بجد ونشاط، وينجح في صفوفها بتفوق منقطع النظير حتى وصل إلى الصف السادس، وفيه تغيرت أنظمة التعليم فيها، وفرض على الطلاب مقررات علمية ولغوية وألزم طلاب الصف السادس بالرجوع إلى الصف الرابع لدراسة هذه المقررات، فما كان من الشيخ إلا أن تركها احتجاجاً على هذا التغيير المفاجئ.

وفي المدرسة (الخسروية) التقى الشيخ جلّ علماء حلب، وكبار شيوخها، فأخذ عنهم علوم القرآن والقراءات والتفسير والفقه والحديث والفرائض والتوحيد والسير والمغازي والتربية، بالإضافة إلى علوم العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها وآدابها، أمثال الشيخ محمد راغب الطباخ، والشيخ محمد إبراهيم السلقيني، والشيخ محمد أسعد العجبي

والشيخ عمر مسعود الحريري، والشيخ فيض الله الكردي، والشيخ أحمد الشمّاع، والشيخ عيسى البيانوني، والشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ أحمد الكردي ( ) وغيرهم.

غادر الشيخ المدرسة (الخسروية)، لكنه لم يغادر طلبه للعلم، فاتجه إلى المدرسة (الشعبانية)، وتبوأ غرفه والده الشيخ محمد نجيب منقطعاً فيها إلى مطالعة كتب الحديث والتفسير والفقه والسيرة النبوية، التي كانت تذخر بها مكتبة والده، فقرأ كتب الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم، ثم حفظ أحاديث الكتب الستة الصحاح، وذلك لحفظه لكتاب (تيسير الوصول) المختصر من جامع الأصول، وأحاديث الترغيب والترهيب وأحاديث المسانيد وأحاديث التفسير وغيرها، وذلك بإشراف والده، وقد قدر تلميذه وصهره الدكتور نور الدين عتر عدد الأحاديث التي حفظها بثمانين ألف حديث، ولذلك أطلق عليه لقب (حافظ)( ).

وكان الشيخ في هذه المرحلة، لا ينقطع عن دروس والده وحلقات الحديث الشريف التي كان يقيمها في جامع الحموي خاصة، ودرس شيخه الشيخ أحمد الكردي في المدرسة (الإسماعيلية).

وعمل الشيخ على تقوية صلته بعلم الحديث وتخصصه فيه، فقصد الكثير من شيوخه في حلب ودمشق وحمص والحجاز وغيرها، والتقاهم وأخذ منهم، وروى عنهم، وحصل على أجازاتهم في الحديث وفي غيره من العلوم، بعد تثبيتهم من حفظه وإتقانه، وكان أعظمهم فائدة له وأكثرهم تأثيراً في تكوينه العلمي والده وشيخه العلامة الشيخ محمد نجيب سراج الدين، فقد كان شديد الملازمة له والبرّ به، وقد رافقه لأداء فريضة الحج سنة: 1367هـ، ونال رضاه ودعائه وبركته، ثم ورث عنه علمه الجم

وأخلاقه الرفيعة، وكتبه الثمينة، وكتاباته وحواشيه على معظم الكتب التي  قرأها له.

ولما أنس الوالد من ابنه المجد، العلم والفقه والتبحر في علم الحديث النبوي الشريف، أجازه إجازة عامة مختصرة جامعة، نوردها هنا بنصّها نظراً لأهميتها، ودلالتها على سعة مرويات الشيخ.

بسم الله الرحمن الرحيم

(وإنني محمد نجيب سراج الدين، قد أجزت ابني عبد الله سراج الدين بجميع مسموعاته مني، وبجميع مالي من مرويات ومقروءات ومسموعات وبما سمعه مني، وما لم يسمعه مني، من الحديث الشريف والتفسير المنيف

راجياً من الله أن لا يقطع هذه السلسلة الطاهرة المباركة إنه  سميع مجيب) ( ).

كما أجازه شيخه العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ إجازة عامة في الحديث الشريف وغيره من العلوم الشرعية التي تلقاها عنه، وقد قرأ عليه العديد من الكتب في المدرسة (الخسروية) وخارجها، كما أجازه شيخه الأديب المحدث محمد خير الدين أسبير بأسانيده في حديث الرحمة المسلسل بالأولية.

وقد حصل على إجازة شيخه الشيخ محمد مكي بن السيد محمد بن جعفر الكتاني الحسيني المغربي، ثم الدمشقي، وكان الشيخ كثير الزيارة له في دمشق.

ثم حصل على إجازة شيخه، الشيخ عبد العزيز بن محمد عيون السود الحمصي المقرئ، بعد أن أخذ عنه علم القراءات والحديث، وروى عنه الكثير من كتب الحديث والسنة، خلال زياراته الكثيرة له في حمص.

ومن بلاد الحجاز حصل الشيخ على إجازات شيوخه الشيخ المسند حسن بن محمد المشاط المكي المالكي، بأسانيده عن شيوخه، والشيخ المحدث المسند عبد القادر بن أحمد السقاف الحسيني الحضرمي ثم الحجازي، والشيخ إبراهيم بن سعد الله الفضلي الحنفي المدني، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي الهندي، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي الهندي ثم المدني( )، وكان آخرهم الدكتور الشيخ يوسف الكتاني المغربي، وذلك عند زياراته حلب قبيل تاريخ وفاة الشيخ، حيث زاره في بيته واستجازه وأجازه (فتدبجا)( ) معاً.

بهذه الذخيرة العلمية الغزيرة من المعارف الشرعية والعربية، راح الشيخ يدعو إلى الله، وينشر العلم بين الناس، فكانت دروس في جامع

(أبو الدرجين)( ) في حي الجلوم، كلفّ بها بعد نجاحه في مسابقة اشترك فيها كثير من العلماء وطلاب العلم، فسبقهم وفاز بهذا الدرس، بعد وفاة صاحبه الشيخ أحمد المكتبي، ثم دعي للتدريس في المدرسة (الشعبانية)

فأخذ يلقي فيها دروسه في الحديث ومصطلحه والتفسير والفقه الحنفي وأصوله، ثم أسندت إليه دروس الحديث النبوي الشريف ومصطلحه والفقه الحنفي وأصوله في الثانوية الشرعية( ).

هذا بالإضافة إلى حلقاته العلمية التي ورثها عن والده في جامع (الحموي) وجامع (بانقوسا) وخطبة الجمعة في جامع (سليمان)، ومجالس العلم والذكر والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في جامع (العثمانية) وفي المدرسة (الشعبانية)، ثم نقل درسه في جامع (أبو الدرجين) إلى الجامع الأموي الكبير، وجعله يوم الاثنين بعد صلاة الظهر.

السدة التي كان الشيخ يجلس عليها

لإلقاء الدرس في جامع بانقوسا 

 

وهكذا كانت أوقاته كلها مليئة بالدعوة إلى الله، ونشر العلم بين الناس عامة وطلبة العلم بشكل خاص. 

وقد عمل الشيخ على إحياء المدرسة (الشعبانية)، وإعادة التدريس فيها، وكان ذلك رغبة والده الشيخ محمد نجيب الذي قعد به الضعف وكبر السن عن تنفيذ هذه الرغبة، فقام الشيخ بإحياء هذا المشروع، بمساعدة بعض إخوانه من العلماء وطلبة العلم ( ). 

واتخذ من (جامع الحموي) نواة لهذه المدرسة، ثم عمل على ترميم المدرسة (الشعبانية) وإصلاحها، ونقل الطلاب إليها، ووضع لهم المناهج المفيدة، واستقدم لهم خيرة العلماء لتدريسهم، ثم تولى إدارتها وإدارة (دار الحديث) التابعة لها، وإدارة مدرسة (تحفيظ القرآن الكريم) في المدرسة (العثمانية)، وكل هذه المدارس قامت تحت رعاية (جمعية التعليم الشرعي)، التي عمل الشيخ على تأسيسها، ثم رئسها وأشرف على كل شؤونها، وكان من أهم أهدافها: رعاية طلاب العلم والعلماء، ومساعدة الأسر المحتاجة منهم ( ).

وفي عام: 1400هـ 1980م، هاجر الشيخ إلى (المدينة المنورة) ليجاور حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وليتفرغ للعبادة وتأليف الكتب النافعة، حيث استطاع أن يؤلف في هذه المرحلة عدداً من كتبه منها كتابه (صعود الأقوال ورفع الأعمال)، وكتاب (تلاوة القرآن المجيد) وكتاب (الدعاء) وكتاب (شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله)، كما استطاع إعادة نشر كتابه (سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصاله الحميدة وشمائله المجيدة).

وبعد هجرة امتدت أربع سنوات تقريباً، عاد الشيخ إلى موطنه، وكان الضعف والمرض قد تسلل إلى جسده، فتخلى عن معظم دروسه في المدارس الشرعية، وأبقى على درسيه في الجامع الأموي الكبير ( )، وفي جامع (بانقوسا)، ثم ما لبث أن تخلى عنهما، مؤثراً العزلة عن الناس عاكفاً على المطالعة والتأليف.

وقد رأى الشيخ في تأليف الكتب النافعة، ونشرها للناس أسلوباً مجدياً في الدعوة إلى الله، ونشر العلم فكثرت مؤلفاته، وتعددت موضوعاتها، فمن الإيمان والعقيدة، إلى القرآن وعلومه وتفسيره، إلى الحديث والفقه وغيرها من العلوم، التي تدل على سعة علمه، وتمكنه في مختلف العلوم والفنون وقد بلغت مؤلفاته خمسة وعشرين مؤلفاً وهي:

1- أدعية الصباح والمساء ومعها استغاثات بالله.

2- الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها، وهو أول كتاب يصدر له صدر سنة: 1370هـ.

3- الإيمان بالملائكة عليهم السلام، صدر سنة 1392هـ.

4- التقرب إلى الله تعالى، فضله، طريقته، مرتبه، صدر سنة: 1408هـ.

5- تلاوة القرآن المجيد، فضائلها، آدابها، خصائصها، صدر سنة: 1385هـ، صدر في المدينة المنورة، سنة: 1401هـ.

6- حول تفسير سورة الفاتحة.

7- حول تفسير سورة ق.

8- حول تفسير سورة الحجرات.

9- حول تفسير سورة الإنسان.

10- حول تفسير سورة الكوثر.

11- حول تفسير سورة (اقرأ باسم ربك الذي خلق).

12- حول تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين بعدها، وقد صدرت كتب التفسير هذه كلها بعد عودته إلى الوطن، وذلك بعد سنة: 1408هـ.

13- حول ترجمة الإمام العلامة المرحوم محمد نجيب سراج الدين رحمه الله تعالى، وهو آخر كتاب صدر له قبل وفاته.

14- الدعاء فضائله، آدابه، ما ورد في المناسبات ومختلف الأوقات، صدر سنة: 1404هـ.

15- سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، خصاله الحميدة، وشمائله المجيدة، صدر سنة: 1394هـ.

16- شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله: فضائلها، معانيها، مطالبها صدر سنة: 1405 هـ.

17- شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث، فرغ من تأليفه سنة: 1372هـ.

18- الصلاة في الإسلام: منزلتها في الدين ـ فضائلها ـ آثارها ـ آدابها.

19- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أحكامها ـ فضائله ـ آثارها ـ آدابها.

20- صعود الأقوال ورفع الأعمال إلى الكبير المتعال ذي العزة والجلال، صدر سنة: 1403هـ.

21- مناسك الحج، ويليها أحكام زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وآدابها.

22- هدي القرآن الكريم إلى الحجة والبرهان.

23- هدي القرآن الكريم إلى معرفة العوالم والتفكير في الأكوان.

24- الهدي النبوي والإرشادات المحمدية إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب السنية.

25- وكان آخر ما كتبه كتاب شرح أسماء الله الحسنى، لكنه لم يكمله حيث عاجلته المنية ـ رحمه الله ـ.

تمتاز مؤلفات الشيخ بعمق معانيها، وسهولة أسلوبها، ووضوح عباراتها، وقربها من قلب القارئ ونفسه، وذلك لما تمتع به من موهبة أدبية نادرة. 

وكانت له بعض المحاولات الشعرية على صورة ابتهالات إلى الله سبحانه وتعالى، واستغاثة به، وهذه بعض استغاثاته:

يا إلهي يا مجيب السائلين= بالنبي الصادق الهادي الأمين

اشرح الصدر ويسر أمرنا= وأعنا يا قوي يا متين

يا إلهي يا رجاء المرتجين= بالكلام المحكم الحق المبين

بضيا وجهك النور الذي= نوّر العرش وعم العالمين

بصفات لك حلت يا قديم= وبأنوار قلوب المؤمنين

بابتهالات الحبيب الأكرم= سيد الكونين فخر الفاخرين

ببهاء نور وجه المصطفى= وضياء وسنا ذاك الجبين

بسجود تحت عرش الله إذ= قيل اشفع في العباد أجمعين

بخشوع وخضوع الأتقيا= ونحيب وأنين العاشقين

بتجلي الأنس أوقات الوصال= وفيوض الفتح بالعلم اليقين

بعطاياك التي خصصتها= فمنحت الأنبيا والمرسلين

هب لنا قرباً وحباً صادقاً= ووصالاً ويقين الموقنين

وشهوداً للتجلي دائماً= بالجمال يا مغيث الوالهين

قد دعوياك بذل وافتقار= فاستجب للمنكسر والمستكين

إن نكن أعصي العصاة المذنبين= أنت بر، أنت خير الغافرين

أو تكن زلاتنا قد عظمت= بحر غفرانك طمّ المذنبين

قد سألناك بفقر واضطرار= فاستجب للفقرا والمذنبين

وطرقنا باب عفو يارحيم= لا تدعنا خائبين خاسرين

وظننا فيك مصداق الظنون= والتجأنا لك طراً أجمعين

وبسطنا أيدنا نرجو بها= فضلك المرجو لكل المرتجين

رب فارحم ذلنا واغفر لنا= وأجرنا يا مجير الضارعين

طيب القلب، زكي النفس، محب للمسلمين، متواضع، لا ينسب لنفسه شيء ( ) ولا يرى لنفسه فضل على أحد المخلوقات، يكرر قوله:"أنا معلم للقرآن والحديث"، "أنا خادم صغير على الأعتاب"( ).

صبور، يتحمل الأذى والمشقات والآلام بنفس راضية، وثقه عظيمة بالله، وفيّ، لا ينسى الفضل لأصحابه، وهذا ما تجلى في تعامله مع أساتذته وشيوخه بتوفيرهم وإجلالهم والتأدب معهم، ولعل أسمى مظهر من مظاهر وفائه، بره بوالديه، ودوام ذكرهما، والترحم عليهما، فوالده عنده صاحب كل فضل وخير، فعلمه (علم الشيخ نجيب، والمدرسة مدرسة الشيخ نجيب والعمل عمل الشيخ نجيب، والشيخ نجيب حجة الإسلام وإمام المسلمين والشيخ نجيب أمره عجيب....) ( ).

كريم النفس، سخي اليد، جواداً معطاء، كثير البذل، لا يرد سائلاً

يكرم زواره، ويبش لهم، ويقوم على خدمتهم.

كثير العبادة، يرى فيها أهم مظهر من مظاهر التقرب إلى الله، دائم الذكر وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذا مع الورع والزهد في الدنيا، والترفع عما في أيدي الناس.

محبوب من الناس، ولهم فيه اعتقاد عظيم ( ) وفي الجملة، فما من خصلة من خصال الخير إلا وهو متصف بها ( )، حاد الذكاء، متوقد الذهن سريع البديهة، حسن الصوت بالقرآن الكريم. 

جميل الوجه، مهيب الطلعة، أبيض اللون مشرب بحمرة، أشقر الشعر أخضر العينين واسعهما، كث اللحية منور الشيبة، معتدل القامة، حسن المظهر، صاحب ذوق رفيع في ملبسه، يزين رأسه بعمامة بيضاء لفت بإحكام فوق قبعة بيضاء يغطيها بطيلسان جميل، طيب الرائحة لا يفارقه الطيب.

ظل الشيخ على هذه الأخلاق النبيلة، إلى أن وافته المنية، إثر عملية جراحية، مساء يوم الاثنين، في العشرين من ذي الحجة، سنة: اثنتين وعشرين وأربعمئة وألف للهجرة، الموافق، للرابع من شهر آذار، عام: اثنين وألفين للميلاد. 

وكان يوم وفاته يوم حزن وأسى عمّ المدينة كلها، وزحفت جموع الجماهير منذ الصباح الباكر لتودع شيخها الراحل، وامتلأت أرجاء

(جامع عبد الله بن العباس) على سعته، وسدت جميع الطرق المؤدية من بيته إلى الجامع إلى المدرسة (الشعبانية)، وصلي عليه قبل صلاة الظهر

ليتسنى للناس الصلاة من شدة الزحام، وحضر الصلاة عليه علماء حلب

ومدير أوقافها، ومفتي المدينة، وكبار المسؤولين فيها، ثم حمل النعش على سيارة خاصة، وسارت به في طرق فرعية، متجنبة الزحام في الطرق المألوفة من الجامع إلى المدرسة (الشعبانية)، ومع ذلك فقد استغرق الطريق إليها أكثر من ساعتين، وهناك أعيدت الصلاة عليه، وراء ابنه الشيخ نجيب مع مجموعة كبيرة من الناس، الذين لم يتسن لهم الصلاة عليه في الجامع ثم تقدم صهره الشيخ الدكتور نور الدين عتر، فلقنه بكلمات موجزة، خنقتها الدموع، ثم وري الثرى في مدفن غربي جامع المدرسة، حسب وصيته.

وأقيمت له مجالس عزاء في (جامع عبد الله بن العباس)، اقتصرت على سماع القرآن الكريم، وقدمت وفود للتعزية من مختلف المحافظات السورية، ومن خارج البلاد، وجمع غفير من الجماهير حلب، التي أحبت الشيخ، وحزنت لفقده، كما أقيمت صلاة الغائب على روحه الطاهرة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق وغيرها من المدن الإسلامية، وخصص خطباء المساجد في المدينة حلب جزءاً كبيراً من خطبتهم يوم الجمعة للحديث عن الشيخ الفقيد ومناقبه.

ورثاه عدد كبير من الشعراء بقصائد مؤثرة، وهذه أبيات من قصيد للشاعر الدمشقي الدكتور شهاب الدين أحمد فرفور:

أجل هو خطب قد تبدت عجائبه= وأرق جفن العين والفكر صاحبه

فسارت به الركبان في كل جانب= بكاء وأحزاناً وقد طال جانبه

رويداً سراج الدين فالرزء مفجع= لكل ذوي قلب لأنك سالبه

هداديك( ) لا تعجل فسرك آخذ= بأرواحنا والسر في الحزن طالبه

طلعت على الشهبا سواداً فضاءه= صلاحك حتى قيل من ذا يقاربه

وقمت على التعليم والهدي مخلصاً= فأتعبت بالإخلاص خصماً يحاربه

عرفناك يا ذا الصبر لله طالباً= و مثلك من في الله أضحت مطالبه

عرفناك ذا إرث لكل نبوة= وإرث رسول الله دين تصاحبه

فعنك أحاديث الرسول تبينت= معالمها والفقه فيك مذاهبه

وعنك مضامين التصوف حققت= وفضلك بين الناس جلت مراتبه

ولست بمداح ولكنني امرؤ= دخيل عسى أن يمنح الجود واهبه

رويداً سراج الدين جئنا قوافلاً= لنخطي بفضل منكم ونواكبه

وعلمتنا أن التصبّر شيمة= لكل كريم معدن الصدق غالبه

ولكنه رزء تعاظم شأنه= وأحبطنا حتى بدونا نجانبه

وأرقنا حتى عدا الحزن وصفنا= ففقدك ليل قد تهاوى كواكبه

وفقدك خسر لا يعوض بعضهً= فكيف و(شعبانية) الشيخ ناحبه

أليس لكم آثار عز حسابها= أليس لكم جيل تجلت مناقبه

تعاليت ربي قد أخذت سراجنا= ووجه سواد الليل حلك جلاببه

إلهي سلبت الناس لبّ لبابها= فهبنا من التصبار مالا نغالبه

وهيئ لنا من أمرنا خير رشده= وأبدل بنا خيراً فقد غاب آيبه

ـ المدرسة الشعبانية ـ

 

المراجع والمصادر

1- أربعون حديثاً نبوياً بأسانيد الشيخ عبد الله سراج الدين من أربعين كتاباً، للشيخ أحمد سردار.

2- إعانة الطلبة المجدين في تراجم أعلام المحدثين من الشيوخ الحلبيين للشيخ أحمد سردار ـ مخطوط ـ.

3- إعلام الطلبة الناجحين فيما علا من أسانيد الشيخ عبد الله سراج الدين، للشيخ أحمد سردار ـ مطبوع ـ.

4- ديوان نسمات الصفاء في ذكريات الإخلاء، للشاعر الشيخ محمد خير الدين أسبير.

5- صفحات من حياة الإمام شيخ الإسلام الشيخ عبد الله سراج الدين الحسيني، بقلم الدكتور نور الدين عتر.

6- كتب الشيخ ومؤلفاته.

7- لقاءات ومشافهات مع عدد من شيوخنا وإخواننا طلبة العلم أذكر منهم على سبيل المثال، الشيخ محمد زين العابدين الجذبة، والشيخ أحمد قلاش، والشيخ محمد درويش خطيب، والشيخ عدنان الغشيم، والشيخ عبد الرحمن الغش، وغيرهم.

8- مذكرات المؤلف وذكرياته عن الشيخ، رحمه الله.

الحواشي:

(1) اشتهرت هذه الأسرة الطاهرة بنسبتها إلى سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، إذ هي فرع من عشيرة (النعيم) المعروف نسبها إلى آل البيت.

(2) انظر ترجمته ص 231.

(3) والدته السيدة خديجة بنت السيد المجاهد وحيد المكتبي، توفيت سنة، 1400هـ.

(4) انظر حديثنا عنه في ترجمة الشيخ محمد نجيب سراج الدين حاشية رقم: 3، ص 233.

(5) أنشأها الشيخ محمد خير الدين أسبير بتوجيه من شيخه الشيخ محمد نجيب سراج الدين، سنة، 1344هـ.

وانظر حديث الشيخ محمد خير عن نشأة المترجم وحفظه لكتاب الله وذكائه وبراعته في الإلقاء وفصاحته في ديوانه نسمات الصفاء. ص10.

(6) علم متفرع عن علم الحساب، يعنى بالمحاسبة التجارية وما يعرف بـ (مسك الدفاتر التجارية).

(7) انظر ترجمات شيوخه هؤلاء في مكانها من الكتاب.

(8) صفحات من حياة الإمام شيخ الإسلام الشيخ عبد الله سراج الدين ص 28.

(9) عن إعانة الطلبة المجدين، مخطوط أطلعني عليه شيخنا الشيخ أحمد سردار، وأخذت صورة عن ترجمة الشيخ وإجازاته من شيوخه بإذن من شيخنا الشيخ أحمد سردار رحمه الله.

(10) ذكر شيخنا السردار في كتابه (إعلام الطلبة المجدين) كل مرويات الشيخ وأسانيده وشيوخه في الحديث الشريف.

(11) (التدبيج) مصطلح عند أهل الحديث يعني أن الشيخ أجاز طالبه بما عنده، والطالب أجاز شيخه بما عنده.

(12) تقدم الحديث عنه في الحاشية رقم 2، ص 304.

(13) كان من فضل الله عليّ أن كنت أحد تلامذة الشيخ في هذه المرحلة، وقد درست عليه علم الحديث الشريف ومصطلحه، وأفدت منه فائدة عظيمة، فجزاه الله خيراّ. مذكرات المؤلف. 

(14) حدثني أخي الفاضل الشيخ عدنان غشيم ـ حفظه الله ـ أن والده الشيخ محمد الغشيم رأى في منامه

الشيخ محمد نجيب سراج، يقول له: قل لولدي عبد الله: لقد كنت أعمل في بناء هذه المدرسة منذ كذا وكذا والآن تمت، واستبشر الشيخ عبد الله بهذه الرؤيا، وعمل على الإسراع في افتتاح هذه المدرسة

وكان معظم طلابها من تلاميذ الشيخ عبد الله في جامع (الحموي)، والشيخ محمد الغشيم في جامع

(مقر الأنبياء)، وتلاميذ بعض إخوانهم من العلماء، أمثال الشيخ مصطفى مزراب، والشيخ عبد الله خير الله، والشيخ سامي البصمجي، والشيخ أحمد القلاش، والشيخ محمد المعدل، ثمّ أصبحوا جميعاً مدرسين في هذه المدرسة.(عن مقابلة شفهية مع الشيخ عدنان الغشيم).

(15) أقول لقد أوتي الشيخ من الحكمة والدراية في شؤون الإدارة ما يثير العجب ويدهش، وانظر كتاب 

(لتعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر). ص 88 للمؤلف.

(16) كنت بفضل الله من المواظبين على حضور دروس الشيخ في الجامع الأموي، وجامع (باتقوسا)، لا يفوتني درس منها، وكنت أجلس على السدة خلف الشيخ مباشرة في الجامع الأموي، وأمامه مباشرة في جامع (بانقوسا) (المؤلف)

(17) عندما حدثه صهره الدكتور نور الدين عتر عن عظمة كتابه (سيدنا محمد) أجابه بكل تواضع: (الشأن ليس في الكتاب الشأن في المكتوب عنه). صفحات من حياة الإمام شيخ الإسلام عبد الله سراج الدين ص226.

(18) المصدر السابق ص 145.

(19) المصدر السابق ص 151.

(20) انظر الحديث عن كراماته في المصدر السابق ص 241 وما بعدها.

(21) قد يظن بعض القراء أنني أبالغ في صفات الشيخ ومناقبه متأثراً بما أحمله في قلبي من حب له، إلا أنني أؤكد لقارئي العزيز أنني لم أبالغ وما خرجت عن الموضوعية التي ألزمت نفسي بها، وأنني ما أزال أشعر بأنني ما وفيت الشيخ بعض حقه، وأن ما قلته كان عن معاينة ومشاهدة عن قرب، ذلك أنه كانت لي صحبة وصداقة مع نجلي الشيخ الكريمين الدكتور محمد نجيب والأستاذ أحمد، وكنت أكثر زيارتهما والمكوث عندهما، وربما أمضينا الليل كله في بيتهم جانب القلعة، نذاكر دروسنا ونطالع بعض الكتب العلمية، وكان شيخنا ووالدنا يحيطنا بأكثر مما ذكر ت من كرم نفسه ويده وأخلاقه، هذا بالإضافة إلى شهادة كل من عرف الشيخ أو تتلمذ عليه أو صاحبه أو زامله في الطلب أو أخذ عنه أو جاوره. (المؤلف)

(22) رويدك.