خواطر عن والدي الأستاذ محمد المبارك 

ربما لو أتيح لي تلخيص سيرة والدي محمد المبارك رحمه الله في كلمة واحدة لقلت هي (التوازن) فكثيرا ما تكلم عن معنى القسط وأنه يشمل العدل وأكثر من ذلك فهو يشمل التوازن في الخلق من أكبر المجرّات والنجوم إلى الذرة التي لا ترى بالعين... وهذا ما أمرنا الله تعالى به من توازن في الحياة بين حاجات الجسد والعقل والروح.. توان بين حاجات النفس والأهل والمجتمع والرب. ولعل سيرته الذاتية تعكس هذا التصور إلى حد كبير. لم يكن رحمه الله تقليديا بأي شكل فقد كان حريصاً على استعمال عقله ضمن ضوابط الشرع وطالما خالف الأعراف المتبعة لأنها لم تستقم له فقد كان دائما محافظاً على المواعيد ، بعيداً عن المجاملات الزائدة أو الكاذبة ، صريحاً مع الآخرين إلى حد بعيد.

حين ذهب إلى السودان كأستاذ في الجامعة الإسلامية في أم درمان (1966-1969) رأى الشحناء بين السلفيين والصوفيين هناك فكان شعاره " تسليف الصوفية وتصويف السلفية " وحين انتقل إلى مكة المكرمة ورأى أن السلفية هناك ترفض وجود أي نوع من التصوف حتى ولو كانت بدون شطحات اقترح على أحد طلابه في مرحلة الماجستير موضوع أطروحة "التصوف عند ابن تيمية " كموضوع يظهر تصوفاً منضبطاً شرعياً ولا يستطيع الإخوة السلفيون الاعتراض عليه لارتباطه بابن تيمية. بشكل أوسع: كان والدي رحمه الله على صلة حسنة بمفكرين وعلماء وزملاء من شتى المشارب الدينية والفكرية وكنت أرى في مجلسه المسلم والمسيحي وغير ذلك ، وبين المسلمين أرى أيضا تنوع المذاهب والطوائف والآراء حيث يشارك الجميع في النقاش مع الاحترام لآراء الآخرين ولو خالفها. شخصياً كان محمد المبارك رحمه متبعاً للمذهب المالكي من غير التزام تام (أو بعبارة أخرى لا مذهبي ولكن أقرب للمدرسة المالكية) وكان رأيه الالتزام بمذهب للعامة وليس للعلماء ، وأذكر في أوائل السبعينات من القرن الماضي كان والدي يقضي الصيف في جبل لبنان وكان أصحابه يأتون من سورية وغيرها لزيارته ، وكان أحد هؤلاء الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي أهداه نسخة من كتاب جديد له آنذاك: (اللامذهبية: أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) ولكن والدي لم يخفِ انزعاجه من العنوان (والذي جاء كحلقة من المعركة بين المؤلف والشيخ ناصر الدين الألباني) وقال للبوطي: أنا لا مذهبي... ما المشكلة في ذلك؟

لا أبالغ إذا قلتُ أنه أثّر في نفسي أكثر من أي شخص رأيته أو عاشرته رغم أني لم أدرك قيمته وتأثيره إلا بعد وفاته بسنوات فقد توفي ولي من العمر 23 عاماً ولم أكن قد قرأت كتبه بعد رغم أني كنت حريصاً على حضور جلساته مع زملائه وطلابه قدر الإمكان وكان رحمه الله – خلافا للأعراف المتبعة حينئذٍ – لا يمنعني من الجلوس مع الكبار منذ أن كنت طفلا صغيرا بل لم يكن يمانع من مشاركتي في الحديث رغم أني كنت أحياناً أتحدث بشكل طفولي فيضحك ولا ينهرني أبداً. كنت أحب مرافقته ومجالسته فأحياناً يمتحن قدراتي في الحساب والرياضيات وأحياناً أخرى في النحو والإعراب وأحيانا في معاني بعض الكلمات وأحياناً يعطيني نصاً من آية أو حديث أو قول ثم يسألني عمّا فهمته منه. وأحمد الله أن هيأ لي أباً عالماً عاقلاً واعياً فقد درست المرحلتين الإعدادية والثانوية في مكة المكرمة وكانت مناهجنا تحوي أموراً لا يقبلها عقلي فأعود إلى البيت وأطرحها على أبي وأناقشه ويقنعني بشكل منطقي عقلاني لا إكراه فيه ولا زجر.

من نصائح والدي رحمه الله التي أثّر فيّ تأثيراً عميقاً استمرّ حتى الآن تلك النصيحة التي جاءت بعد مشاجرة بيني وبين والدتي وكنتُ منذ صغري مشاكساً مجادلاً إلى حد الاستفزاز خاصة مع والدتي التي كانت حازمة الطبع (وكان عملها مديرة مدرسة) وفي تلك المشاجرة كنت ربما في الخامس أو السادس عشرة من عمري (أي في مرحلة تكوين الشخصية والتمرد) وبدأت بسبب تافه ثم تطورت لإصراري على وجهة نظري فانتهى الأمر بغضب والدتي ومعاقبتها لي. كان على والدي بعدها أن يذهب إلى مدينة جدة (وكنا نسكن في مكة المكرمة) فاقترح عليّ مرافقته فوافقته على الفور. ركبنا في السيارة وبعد قراءة أدعية الخروج من البيت والسفر والمعوذات سكت والدي قليلا وكنتُ قد هدأتُ بعد انفعالي الشديد ثم سألني بصوتٍ لطيف حنون: هل من الممكن أن أسألك سؤالا؟ فأجبته: بالطبع. فقال: في كل مرة تجادل والدتك وتدخل معها في معركة... هل تربح شيئاً؟ صمتُّ قليلا وقلت لا. فقال: وهل تخسر شيئاً؟ ففكرت قليلا ولم أكن أقدر على الكذب فقلت: نعم. فابتسم وقال: وكيف يمكن لإنسان عاقل مثلك أن يفعل أمراً يعلم يقيناً أنه سيخسر منه ولن يكسب شيئا. رغم بديهية هذا الكلام إلا أنه وقع موقعاً مؤثرا في نفسي ، ثم أتبع والدي الكلام بحديث (أنا زعيم ببيت في الجنة لمن ترك المراء وهو محقّ) وشرح لي معناه وركز على ضرورة أن أنظر لنتائج العمل وليس كسب المعركة مع أمي. قررتُ بعدها أن أغيّر طريقتي مع أمي وأتبع نصيحة والدي ولم تمضِ فترةٌ بسيطة إلا وقد تحسنت صلتي بوالدتي وشعرتُ براحة عميقة ثم بدأتُ أطبق تلك القاعدة مع الآخرين وتوسعت فيها ، وبعد سنين طويلة اطلعت على علم "الذكاء العاطفي" فوجدته يركز على نفس المفهوم وسررت بقراءتي للسيرة النبوية المطهرة لأرى فيها الكثير من مواقف الرسول الأعظم التي تثبت أنه كان معلماً أيضاً في فن التعامل مع الآخرين.

لكن الناحية التي كنت أراه يتميّز بها عن أقرانه هي تركيزه على الجانب الخدمي من الدين أكثر من الجانب التعبدي رغم أنه كان يرى مفهوم العبادة لا يكتمل إلا بهما معاً. فكنت أسمعه يقول: لماذا يقول الناس عن الذي لا يصلي أو لا يصوم قليل دين.. ولا يقولون ذلك على من يكذب أو يغش أو لا يفي بوعوده؟ ومن الحوادث الطريفة أن ابن أختي الكبيرة (المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 1971) جاء ليقضي الصيف معنا في عمّان في الأردن وكان والدي رحمه الله يبحث عن رفيق له في طريق العودة إلى أميركا فلم يكن ابن أختي قد بلغ التاسعة من العمر بعد. سمعه أحد الشباب في الجامعة وقال لوالدي: صديقي مسافر إلى أميركا قريبا وسآتي به عندك يا أستاذ. قال له والدي أعطني رقمه لأتصل به ولكن الشاب أكّد: لا يا أستاذ بل سنأتي ونتشرف بزيارتكم الليلة. ومرت الليلة ولم يأتِ... ثم رآه والدي مرة أخرى وكرر: لا تعذّب نفسك وأعطني الرقم لأتصل به فاعتذر الشاب وعاد يكرر: أعدك الليلة أن نشرب الشاي عندكم. ومرت الليلة الأخرى ولم يأتِ ولم يتصل ، فيما بعد أرسل والدي له رسالة شفهية مع شاب زميل له: اذهب إلى فلان وقل له إن محمد المبارك يقول لك احلق لحيتك وأنا مسؤول عن هذه الكلمة أمام الله يوم القيامة... هذه اللحية لا تليق بك!

من الأمور التي أذكرها فيه دوماً وقد أثّرت إيجابياً في حياتي هو ترفعه عن التوافه والأمور المادية واهتمامه بقضايا الأمة إلى درجة كبيرة. في فترةٍ ما كنت شاباً يافعاً أرى الشباب حولي يتبعون الموضات في الملابس وأشعر برغبة في اتباعهم بينما كان والدي لا يعير لتلك الأمور أي أهمية. كان يحب النظافة والهندام الحسن لكنه لم يأبه بالموضات والصرعات. أذكر مرة في أوائل السبعينات رأيته يرتدي بدلته ويضع ربطة عنق قديمة ضيقة وكانت وقتها موضة ربطة العنق العريضة فقلت له: بابا ألا تعلم أن موضة هذه الكرافة قد انتهت ولا أحد يلبسها هذه الأيام؟ فالتفت إليّ بابتسامة هادئة ووضع يده بحنان على خدي وسألني: وهل يقلل ذلك من قيمتي كإنسان؟ وتركني أفكر في السؤال وجوابه. لم يكن رحمه الله يفكر كثيرا بما تعدّه الوالدة لطعام الغداء فكان يأكل من أي طعام تعده ولا يشتكي ولا يتذمر إطلاقا بل كثيرا ما كان طعامنا من بقايا البارحة أو قبلها وحين تسافر والدتي كثيرا ما كان يكتفي بالنواشف من غير طبخ. لكن ما كان يزعجه هو تضييع الوقت فيما لا ينفع. كنت أنزل معه في الصيف إلى المكتبات فيسمح لي بشراء ما شئت من الكتب لكنه أنّبني مرة حين علم أني اشتريت ورق لعب (شدّة – كنجفة – كوتشينة ) لأنه يعتبرها لعبة تضيّع الوقت ولا تفيد الجسد أو العقل.

كان محمد المبارك رحمه الله حريصاً على حرمات الدين والقيام بالفروض وبعض النوافل وتجنب المعاصي وكان يؤكد علينا ذلك بقوله وفعله ، لم يكن ممن يكثرون النوافل مثل قيام الليل وصيام التطوع ولكنه كان يؤكد على أهمية مساعدة الآخرين وأداء الحقوق والابتعاد عن الظلم بأي شكل كان ، وكنت أرى الزوار يأتون إليه (وكثير منهم لا يعرفهم أصلاً) فيساعدهم في قضاء حوائجهم أحياناً على حساب وقته وماله وعلاقاته. كان له الكثير من العلاقات لكني لم أره يستغل أيّاً منها لشخصه أو لعائلته بل كان يُسَخِّرها لخدمة الناس وقضاء حاجاتهم ، وما أثّر فيّ أكثر من ذلك كتمانه لما يفعل ربما لحفظ ماء وجه الذين يساعدهم وكذلك حتى يكون الأمر بينه وبين ربه ، لا رياء فيه ، وقد علمتُ عن كثير من هذه الأمور إمّا بالصدفة أو ممن تلقوا تلك المساعدة ، غالباً بعد سنين طويلة إذ كنت أحيانا أتعرف على أشخاص حالما يعرفون أن اسم عائلتي (المبارك) يسألونني عن صلتي بمحمد المبارك وحين أخبرهم بأنه والدي يحكون لي قصصاً عنه يفرح بها قلبي وتدمع عيوني وتشعرني بالفخر والإعجاب بوالدي رحمه الله. بل إن كثيرا ممن كنت ألقاهم الناس في سورية أثناء دراستي الجامعية (1975-1980) كانوا يعبرون لي عن حبهم واحترامهم العميقين له رغم أنه كان يمثّل فكرا يعتبر معادياً لسلطة البعث هناك. في الواقع حدثت معي ومع إخوتي أمورٌ كثيرة في حياتنا نجّانا الله تعالى من خطر أو مأزق ، أو فتح لنا باب فرج أو رزق... أتأمل فيها فلا أجدها مجرد صدفة ولا لأن أحدنا يستحق هذه العناية الإلهية الخاصة ولكني أتذكر والدي والآية الكريمة (وكان أبوهما صالحا) فأحثّ نفسي لأتّبع خطى والدي ليكافئ أولادي كما كافأني أنا وإخوتي ، وأنا على قناعة بأن بعض الأعمال الصالحة يكافئ الله عليها في الدنيا والآخرة وخاصة تلك الأعمال التي تتعلق بنفع الخلق.

كان والدي يقول إن في الإسلام نظام نسب فليس المشكلة فقط فيمن يبتدعون أموراً ليست من الدين أو من يحذفون أمورا هي من الدين ولكن المشكلة أيضاً فيمن يشوّهون النسب لما هو موجود في الدين فيعطون أهمية أكبر لأمرٍ ما على حساب أمرٍ آخر ، وهناك الكثير من الأمثلة التي كان يضربها ، وأذكر قوله لي: الكاريكاتير هي صورة حقيقية لشخص ما ولكن الرسام تلاعب بأحجام الأعضاء (العيون – الأنف – الشفتين – الأذنين – الذقن – الجبهة) فصغّر بعضها وكبّر الأخرى فجاءت الصورة مشوَّهةً ساخرة.. وكذلك الإسلام حين تتلاعب بنسبه فتعطي قضية أعطاها الإسلام 10 بالمئة أهمية مقدار 60 بالمئة بينما تنزل أهمية قضية أخرى من 70 بالمئة إلى 5 بالمئة فيأتي الإسلام مشوَّهاً محرّفاً.

وقد كتب قبيل وفاته (عام 1981) أسطراً فيها معنىَ عميق نراه اليوم: يمتاز الجيل الإسلامي الجديد في أكثر البلدان الإسلامية بوعي إسلامي أشمل وأعمق ، وهو في نموّ إذا لم تنجح القوى الخارجية بمختلف وسائلها المؤثرة لتعويق سيره وإضعافه وتطويقه. ولكن خطراً آخر داخليا يهدده وهو انقسام هذا الجيل إلى تيّارات متباينة في فهمها للإسلام وتركيز كلٌّ منها على جانب دون جانب واستشعارها الجفاء فيما بينها بسبب هذا الاختلاف في الفهم والتصور. وما لم يزل هذا الشعور بالجفاء من كل فريق فالنجاح بعيد والإثم واقع على الجميع في مجافاة فئة مسلمة ، سواء أكانت مصيبة في فهمها للإسلام أو مخطئة.