الشيخ المُعلّم شُعَيب الأرْنؤوط

كَلمةٌ في ذكراه الطيبة

في حيِّ الأقصاب من مدينة دمشق ،ولد الشيخ شُعيب بن محرّم الأرنؤوط عام 1346هجرية الموافق 1928م ،لوالد هاجر بدينه من مدينة اشكودرا عاصمة البانيا سنة 1926م فراراً من المستقبل المظلم الذي كان ينتظر المسلمين هناك بعد زوال الدولة العثمانية وانكشاف ظهورهم أمام الأعداء ، فضلا عما وقع في البانيا من الخطوات السريعة والثورية نحو العلمنة الشاملة اقتداء بالحركة الكمالية الأتاتوركية في تركيا ،وقد جاءه على كِبرٍ حين كان عمره 59عاما ،فأسماه شُعيباً تيمُّناً بهذا النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه ، حتى إذا بلغ الخامسة من العمر أرسله والده الى المدرسة العلمية التجارية الخاصة لدراسة علوم الشريعة والعربية ، وكغيره من أبناء جيله ، تعلم الشيخ شعيب هذه العلوم وأتقنها في ظروف استثنائية تكشف عن صادق رغبته في حب العلم والاستنارة بأنوار المعرفة ، وليس المقام متسعاً لاستيعاب ظروف نشأته العلمية المباركة ، وحسبي أن اشير في هذا المقام إلى الدراسة المتميزة التي كتبها الأستاذ المُحقّقُ إبراهيم الزيبق بعنوان "المحدّث العلامة الشيخ شعيب الارنؤوط :سيرته في طلب العلم ، وجهوده في تحقيق التراث "وصدرت عن دار البشائر الاسلامية عام 2012م،أوفى فيها على الغاية في العناية بسيرة الشيخ ومنهجه وإنجازاته ،وكان الصديقُ الدكتور إبراهيم الكوفحي سبّاقا في الكتابة عن الشيخ حين أصدر كتابه " شُعيبُ الأرنؤوط: جوانبُ من سيرته وجهوده في تحقيق التراث " الصادر عام 2002م ، مع ضرورة التنويه بما كتبه الأستاذ أنبياء يلدرم من تركيا الشقيقة في ترجمته للشعيب شعيب وصدر باللغة التركية ، وكذا ما كتبه الأخ الصديق الدكتور أبو العالية محمد بن يوسف الجوراني الذي أصدر كتاباً ضخما بعنوان " رحلة فضيلة العلّامة شعيب الأرنؤوط إلى الديار الكويتية " تتبّع فيه ترجمة الشيخ وإنجازاته ومواقفه وفوائد رحلته الكويتية على وجه الخصوص .

لن انسى ما حييتُ اللقاءَ الأولَ الذي جمعني بشيخي وأستاذي الشيخ شعيب رحمه الله عام 1992 حين انتدبتني مؤسسة الرسالة للعمل في نسخ كتاب "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي (ت654هجرية ) وتقديمِه بعد مقارنة النسخ الخطية للعلامة المرحوم الدكتور إحسان عباس الذي كان قد شرع في تحقيقه، واحتاج إلى مَنْ يُقدّم له هذه الخدمة العلمية ، وتهيّباً من الشيخ الجليل إحسان عباس أمرني مدير عام مؤسسة الرسالة الأستاذ رضوان دعبول ،ذكره الله بكل خير، أن اذهب لزيارة الشيخ شعيب في مكتب التحقيق في حيّ الشميساني في عمان للحديث حول المهام التي تنتظرني والتعرف الى ملامح المنهج العلمي المتبع في المؤسسة ، فتشرفت بالسلام عليه ،وكلّفني بتحقيق قطعة من كتاب "مرآة الزمان "كي يرى مَنزِعي في الكتابة ، وبعد أسبوع رجعتُ اليه وقدمتُ إليه القطعةَ التي كلّفني بتحقيقها ،وحين تفحّصها ظهرت عليه علاماتُ الرضا ، وقال لي : اين تعلمتَ مبادئ َ التحقيق وصياغةَ العبارة العلمية ؟فقلتُ له :أنا تلميذٌ متدرّبٌ في مدرسة الشيخ محمود محمد شاكر وأخيه الشيخ أحمد ، حيث كنت أعدُّ أُطروحتي للماجستير عن منهج الشيخ محمود شاكر في قراءة الشعر الجاهلي ،واقتضاني ذلك قراءة السِّفريْن الكَبيريْن :"الشعر والشعراء "لابن قتيبة بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر ، و"طبقات فحول الشعراء "لابن سلّام الجُمحي بتحقيق الشيخ محمود محمد شاكر ، وكنتُ قبل ذلك شديد الوَلوع بنشرة الشيخ أحمد شاكر لكتاب "الرسالة "للإمام الشافعي رضوان الله عليه ، وتوفرتُ على نَسْخِه ومحاولةِ حفظه لشدة إعجابي بلغة الشافعي ،فأخذتِ الشيخَ شُعيبًا رحمه الله هِزّةٌ وأريحيةٌ وقال لي : "إذنْ هُديتَ وكُفيت" ، ثم أوصى بي خيراً، وشرعتُ في عملي مع الشيخ الكبير إحسان عباس لمدة ثلاث سنوات في النسخ والمقابلة حسب .

لقد ذكرتُ هذه الحادثةَ الشخصية للربط بين مدرسة الشيخ الأرنؤوط ومدرسة آل شاكر ، وكيف أنّ شيخنا الجليل كان شديدَ الاحترام لها ، عظيمَ الحفاوة بإنجازاتها ، كيف لا وهي المدرسةُ التي انتزعت رايةَ التحقيق العلمي الرصين من المؤسسة الاستشراقية بعد أن انعقدت الريادة لطلائع المستشرقين في نشر التراث العربي ضمن تقاليدَ منهجيةٍ علميةٍ صارمةٍ مُتقنةٍ لا عهدَ للثقافة العربية الإسلامية بها ، فكان لآل شاكر فضلُ الإقدام والمبادرة في إخراج أعمالٍ علميةٍ جليلةٍ كانت وما زالت مصدرَ إلهام لكثير من الطلائع الراغبة في تحقيق التراث ضمن عين ناقدة وبصيرة نافذة .

تنقسم المسيرة العلمية للشيخ الأرنؤوط رحمه الله إلى مرحلتين شديدتي التمايز والوضوح ، أما الأولى منهما ،فهي المرحلة الدمشقية حين خطا الشيخُ خطواته الأولى للعمل في المكتب الإسلامي لصاحبه الشيخ زهير الشاويش رحمه الله عام 1959م حيث عُهد إليه تصحيحُ الكتب ومراجعتُها مع عدم كتابة اسمه عليها ، وكان غايةَ ما يجود به الشاويش عليه أن يذكرَ اسمه في ذيل المقدمة على استحياء ، وخلال هذه المرحلة اتصلت أسباب الشيخ شعيب بأسباب الأستاذ أحمد راتب النفّاخ شيخ الديار الشامية في علوم العربية ، وكان قد عاد من مصر بعد ان تضلّع من صحبة شيخ العربية الأستاذ محمود محمد شاكر وعمل معه في التحقيق الذي فرع شاكر ذُروته العليا بما أوتي من بصيرة فذة في قراءة النصوص الخطية وتوجيهها والتعليق عليها بأسلوب لا يطيقه إلا شاكر وحده ، فاشتدت رغبة الشيخ الأرنؤوط في استكمال الأسباب التي تجعله في طليعة المحققين ، فكان يديم النظر والمطالعة في الكتب التي نهض بأعباء تحقيقها كبار المحققين ممن هم في مرتبة اساتذته كالعلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي من فضلاء الهند ، وأحد أكبر الساعين في نشر المعارف الأدبية في تلك البلاد فضلا عما كان يربطه بأشياخ مصر وكبار المستشرقين من عميق الصلات ، وكذا في تحقيقات الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر الذي كان قد شرع في تحقيق الجمّ الغفير من عيون التراث ،ولم يستكمل الا النزر اليسير منها رحمه الله ،مثل "الرسالة" للشافعي ، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة ، لكن المنية اخترمته وهو يجاهد في سبيل إخراج أربعة كتب هي خيرٌ من ملء الأرض ذهبا لو تيسّر له استكمال إخراجها ، وهي على التوالي :تفسير الطبري بالاشتراك مع شقيقه محمود ، و"مسند الإمام أحمد "حيث أخرج منه خمسة عشر مجلدا هي ثلث الكتاب فيها من دقائق النظر ومنازع التحقيق ما يقضي بجلالة قدره ، و"صحيح ابن حبان "حيث أخرج منه المجلد الاول ،و"سنن الترمذي " حيث أخرج منه مجلدين كانا غايةً في الإتقان وبسط دقائق المنهج في التحقيق ،ثمّ مضى لطيّته دون إكمال هذه المشاريع العلمية الجليلة ، وكذا القول في شأن التلمذة على تراث شقيقه العلامة محمود محمد شاكر الذي استولى على الغايات القصية لفن التحقيق ، وأبدع في انجاز منهجٍ وصفه إحسان عباس بقوله :" إن منهج شاكر لا يطيقه إلا محمود محمد شاكر " .

لقد قصّ الأستاذ إبراهيم الزيبق طرفاً صالحاً من طبيعة تلك المرحلة ،وذكر جملة من الحوادث التي كانت تُكدّر صَفْوَ خاطر الشيخ الارنؤوط من خلال عمله في المكتب الإسلامي ، وكيف أن إدارة المكتب كانت لا ترعوي عن هضم حقوقه العلمية على وجه الخصوص ، وتتحيّل بكل وسيلة لإبقائه في الظل لصالح الظهور المقصود للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله الذي كان يُهيمن على مسيرة المكتب ، وتسير الأمور بحسب ما يرتئيه ، فكان ذلك وأمثاله من الظروف العصيبة مما يعمل في قلب الشيخ شعيب ويؤلمه ، ويجعله يقلب طرفه في السماء بحثاً عن قِبلة جديدة للقلب والعقل والانجاز العلمي الرصين .

وعلى الرغم من كآبة هذه المرحلة على المستوى النفسي إلا ان الشيخ شعيبًا رحمه الله أنجز فيها عددًا من الأعمال العلمية الرصينة الدالة على رسوخ قدمه في هذا الفن ، والتي كانت بمثابة التدريب الصارم للانطلاقة الكبرى في قادمات الايام ، ففي المكتب الإسلامي نشر الشيخ شعيب مجموعة من كتب الحنابلة تحديداً حيث كانت سياسة المكتب في هذا الاتجاه ، فنشر كتاب "المبدع" لابن مفلح في الفقه الحنبلي المقارن في عشرة مجلدات ، و"زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي في ثمانية مجلدات ، و"مشكاة المصابيح "للخطيب التبريزي المحدث وليس اللغوي المعروف ، و"المنازل والديار "لأسامة بن منقذ ، وغيرها من الأعمال قبل أن تضيق نفسه بالعمل ، ويغادر المكتب الإسلامي ليعملَ منفردا مع زميله وصديقه الشيخ عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله في قاعة المكتبة الظاهرية للعمل في "روضة الطالبين "للإمام النووي ولكن لصالح المكتب الإسلامي، ونجز الكتاب في اثني عشر مجلدا ، وعلى سيرته السابقة من هضم الحقوق ضنّ عليهما الشيخ زهير الشاويش بكتابة اسميهما على الكتاب ، واكتفى بالإشارة اليهما بعبارة "الإخوة الأساتذة في مكتب التحقيق " إمعانا منه في هضم الحق ، والرضوخ لسلطة الالباني الذي كان يستشعر القوة العلمية للشيخ الأرنؤوط ، ويرى فيه نجمًا طالعًا في هذه السماء التي يريد ان ينفرد بها وحده على الرغم من تواضع مُنجزاته في علم التحقيق تحديدًا ، وضَعْفِ مُنّته في علوم الآلة التي هي من أوْكَدِ الأسبابِ للبراعة في علم التحقيق .

ثم كانت قاصمةُ الظهر بين الشيخ شعيب والمكتب الإسلامي حين تفرغ لتحقيق كتاب "شرح السنة "للإمام البغوي ، وهو من الشروح التي يُتنافس فيها ، فلم يَطِبْ زهير الشاويش رحمه الله نفسًا بهذا الكتاب ان يكون خالصةً للشيخ شعيب ، وظل يُزاحمه وِيُخاتله عن حقوقه حتى فاض الكيل ، وكتب شُعيبٌ كلمته الأخيرة وهو ينزف من عين القلب بسبب هذا الجحود والنكران ، وغادر المكتب الإسلامي عام 1977م وليس في جيبه سوى راتبه الذي تقاضاه في نهاية ذلك الشهر على حد تعبير الأستاذ الزيبق ، ويبس الثرى بينه وبين الشاويش الى غير رجعة .

حين ينظر الشيخ شعيب رحمه الله إلى هذه المرحلة من العُمرِ لا يرى فيها الا تمهيدا لطلوع شمسه ساطعة بعد هذه الرحلة الشاقة حين اتصلت أسبابه بأسباب "مؤسسة الرسالة " التي ظهرت عام 1970من خلال نشر كتب الفكر الإسلامي للشيخ على الطنطاوي والدكتور يوسف القرضاوي وغيرهما من المشتغلين بهموم الفكر الإسلامي ، قبل أن تنعطف الى نشر الكتب التراثية الرصينة ، وتتبوّأ المنزلة العليا بين جميع مؤسسات النشر في العالم الإسلامي ، حيث استطاع صاحبها الأستاذ الفاضل رضوان دعبول أن يستقطب الشيخ شعيبًا ، وأن يكون كتاب "زاد المعاد " لابن القيم باكورةَ الأعمال العلمية المباركة التي نهضت هذه المؤسسة بأعباء نشرها ضمن منهجية سنتحدث عنها في موطنها من هذه الكلمة ، فصدر الكتاب في خمسة مجلدات ، ولقي من القبول والرضا ما جعله قُرّةَ عين المؤسسة إلى يوم الناس هذا ،حيث طُبِعَ أكثر من ستين طبعة ، وتلقفته الأيدي بالقراءة والإفادة من جميع مستويات الباحثين ، وتنفس الشيخ شعيب الصعداء ، واستوى على العرش الذي يليق به بين كبار المحققين ، ومنحته المؤسسة الجديدة كل معالم الاحترام ، وعَهِدَتْ إليه باختيار ما يراه مناسباً للنشر من الكتب التراثية النافعة التي تمَسُّ إليها حاجة الباحثين ، فكان كتاب "سيَر أعلام النبلاء "للحافظ الذهبي هو الكتاب الثاني الذي شرع الشيخ الأرنؤوط في تحقيقه واختيار مجموعة من أذكياء الباحثين لمساعدته للقيام بهذا العمل الجليل الذي ناءت بحمله العصبة المشهورة من محققي أرض الكنانة حين أصدرت الثلاثة المجلدات الأولى منه ، ثم قعدت بها الهِمّة عن إكماله ، ليكون ذلك العِلقُ النفيسُ هو العملَ الذي خبأته الأقدار للشيخ شعيب كي يسمو به إلى أعلى المراتب العلمية في تلك المرحلة حيث صدر الكتاب في خمسة وعشرين مجلداً فيها من الجهود العلمية في التحقيق والتخريج وتوضيح مقاصد النص ما هو قاض بزعامة هذا الشيخ وجلالة قدره ، وزكانة رأيه في اختيار هذه المجموعة الرشيدة من الباحثين الذين استلهموا خُطّته ، وأبدعوا في تنفيذها ، لكن ظروفًا كثيرة أحاطت بالشيخ وبالمؤسسة اضطرتهم الى الهجرة من دمشق الشام ، والرحيل الى عمان البلقاء عام 1982م حيث استأنف العمل في هذا الكتاب ، وكان قد شرع في المرحلة نفسها في تحقيق كتاب "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان "وصدر في ثمانية عشر مجلدًا ضمن تحقيق بديع يشهد بكفاءته العلمية النادرة ، فكانت عمان هي الملاذَ الآمن الذي أكمل فيه العلامة الأرنؤوط هذين الكتابين ، قبل ان ينطلق انطلاقته الكبرى من الأردن الحبيب .

كنتُ أتعجّبُ أحياناً من محبة الشيخ شعيب الصادقة لعمان وللأردن وأهله الذين أكرموا وِفادته ، وعرفوا جليلَ منزلته ،وحين عرفتُ الظروفَ الصعبةَ التي عاناها الشيخ ُفي مسيرته العملية في دمشق زال عجبي ، فالعالم لا يبهَظه شيءٌ مثل نُكران الحق ، ولا يَكسِفُ من شمسه مثل الجحود ، فكان مجيئه إلى الاردن فاتحةَ خيرٍ وبركة عليه وعلى المؤسسة التي أكرمته ، وعلى الأردن الذي عرف قيمته ، وبادله حباً بحب ووفاء بوفاء ، ولن أنسى على سبيل المثال تلك الحفاوة الصادقة التي كان يتلقاه بها شيخُ الشافعية في ديارنا الأردنية ومفتي المملكة سماحة الشيخ نوح القضاة رحمه الله بواسع رحمته حين كان يزوره الشيخ شعيب في بعض قَدَماته إلى الشمال في فصل الربيع الجميل من كل عام حين كان يُشرّفني وثُلّةً كريمةً من صَفْوة الأصدقاء ، تعبيراً عن الاحترام الذي تنطوي عليه جوانح الشيخ نوح للشيخ شعيب رحمه الله تعالى .

في عمان ، كان كتاب "شرح مشكل الآثار "للإمام الطحاوي هو العملَ الأولَ الذي وقع عليه الاختيار ، وهو كتابٌ لا نظيرَ له في بابته من دواوين السنة الشريفة ، تصدى فيه الطحاوي لجميع المشكلات العلمية التي كانت مثارَ شُبهةٍ في زمانه على مستوى المتن تحديدًا ، وأبدع في توجيه النصوص ، وتحرير المقاصد على الوجه الصحيح في حدود مشكلات عصره ، وأجاد الشيخ الأرنؤوط في تحقيقه إجادة بادية لكل ذي بصيرة ، وصدر الكتاب في ستة عشر مجلدا هي قرة عين للباحثين بجميع المقاييس ، فالطحاوي على الرغم من مشاركته لأصحاب الكتب الصحاح في المشيخة إلا أنه ينفرد بأسانيدَ تحتاجُ الى إنعامِ نظرٍ وفَضْلِ تثبُّتٍ ، فكان الكتاب جديراً بهذه العناية الفائقة التي ظفر بها ، واحتل مكانته اللائقةَ به بين دواوين السنة المشرفة .

حتى إذا اظلتنا سنة 1411هجرية الموافقة1991م ، سمتْ همّةُ الشيخ القَعْساءُ إلى ديوان السنة الأعظم "مسند الإمام أحمد "، وهو الديوان الذي انقطعت دونه القُدَرُ والغايات ،وظل أمنيةً ناشبةً في حَلْقِ العلماء ، بل إن الإمام الذهبي على جلالة قدره كان قد تمنى أن يُوفِّقه الله إلى حلّ معضلات هذا الديوان العظيم ، وتحرير مشكلاته ، وتحقيق متونه وأسانيده ،وهي الخبيئةُ الكبرى التي ادخرها الله تعالى للشيخ شعيب وطائفة من أهل الإتقان من أصحابه ،فرفع رأسه بهذا المصنّف العظيم ، وتوفّر عليه عشراً متواصلة من السنوات يصل كَلالَ الليلِ بكَلالِ النهارِ حتى أخرجه في خمسين مجلداً تُضرب إليها أكبادُ الإبل على حد تعبير أسلافنا السابقين ،فكان هذا العمل هو الإنجازَ الأكبر لشيخنا الأرنؤوط ، وهو الذي استبدَّ بجهوده التي استوت له بعد ثلاثين عاماً ونيّفاً من السنوات ، فكانت هذه النشرةُ العلميةُ المباركةُ التي نضّرت وجه "المسند" ووجه شيخنا الجليل ، وجَبّتْ ما قبلها من النشرات ، وغدتْ منهجاً متفردًا في الإجادة والإتقان وتوفير حق التراث من العناية والتجويد .

بعد المسند ، توجهت همة الشيخ إلى إخراج الكتب الستة من علوم السنة ، فأخرجها على المعروف من منهجه المتقن ، ولم يتيسر له إخراج "صحيح مسلم" تحديدا حتى يومنا هذا على الرغم من رغبته الصادقة في إخراجه، لكنه عِوضاً عن ذلك أخرج "سنن الدارقطني "في طبعةٍ مُتقنةٍ جدا ، وخلال هذه المرحلة أخرج أيضًا مجموعة من الكتب النفيسة مثل :"العواصم من القواصم "لابن الوزير اليماني "ت840هجرية "عام 1992م ، وهو كتاب حافلٌ نفيسٌ في بابه ، أجاد فيه مصنفه إجادة شهد له بها العلماء ، وكتاب "جامع العلوم والحكم "لابن رجب الحنبلي عام 1991م ، وكان حظي من التوفيق عظيما حين تلطّف بإشراكي معه في تحقيق كتاب "الآداب الشرعية " لابن مفلح المقدسي الحنبلي "ت 763هجرية "، وصدر في ثلاثة مجلدات عام 1996م ، لتمتدَّ مسيرةُ التحقيق الرصينة حتى أخرج كتاب "فتح الباري "للحافظ ابن حجر العسقلاني "ت852هجرية "في 24 مجلدًا ، و"الاختيار لتعليل المختار "للموصلي الحنفي "ت683هجرية :"في 4مجلدات ليكون مجموع ما أنجزه الشيخ قريبا من 300 مجلد فيها جُمّاعُ الدلالةِ على منهجه وسيرته وإنجازه العلمي من خلال مدرسة أجاد في تكوينها وتدريبها رحمه الله .

أما منهج الشيخ الأرنؤوط رحمه الله فهو ما تكفَّلَتْ ببيانه مقدماتُ كتبه الضافياتُ التي تصلح أن تكون نموذجًا يحتذيه الراغبون في دخول معترك التحقيق ، فضلاً عما تذوَّقْتُه بنفسي خلال عملي تحت ظِلّه الكريم ، حيث يقوم منهجه العلمي الرصين على الدعائم العلمية التالية :

1-الاعتماد على الأصول الخطية في التحقيق ،والتخيّر بين أفضل النسخ من خلال المفاضلة بينها ضمن معايير تاريخية وفنية تكفل الاعتماد على أفضل الأصول الخطية بما يخدم النص المحقق ، وعدم التورط فيما تورّط فيه غير واحد من المحققين في الاعتماد على بعض النسخ المطبوعة أو الاكتفاء بنسخة خطية واحدة .

2-الدقة في العمل ، وعدم التهاون في ضبط المسائل العلمية ، وإنفاق الوقت الثمين في تحرير النقول :رواية ودراية .

3-تعقّبُ المتقدمين بأسلوب علمي يقوم على الاعتراف بفَضْلهم ،وينتقدهم بأدبٍ جَمٍّ وعبارةٍ علمية بعيدة عن التجريح الشخصي .

4-غَرْسُ حبّ الاجتهاد في المسائل المختلف فيها ، وعدم التعصب لغير الدليل العلمي المستفاد من مصادره المعتبرة ، والأخذ بأقربها الى الصواب .

5-إخلاء الذهن من التحيزات المذهبية السابقة حين مناقشة المسائل العلمية ، والتوفر على بحثها بعيدا عن الرأي المسبق .

فإذا جئنا الى الضوابط المنهجية داخل العمل في التحقيق أمكننا أن نستخلص الضوابط المنهجية العلمية التالية :

1-نسخُ النص عن المخطوط ، ثم مقابلته على الشيخ شعيب وهو يمسك الأصل المخطوط بيده ، ويقرأ عليه الباحث برويّة وإتقان ويضبط المنسوخ ويدوّن الملحوظات التي يبديها الشيخ الأرنؤوط .

2-التحرّي التام الدقيق في ضبط النص ضبطًا يجمع بين الدقة العلمية والإخراج الجمالي الذي يساعد القارئ على تذوّق النص ، ثم تنسيق النص تنسيقاً يراعي مقتضيات المعنى وجماليات الإخراج .

3-مراجعة النصوص المنقولة عن السابقين مهما كانت غزيرة ، وتحريرها والتأكد من موافقتها للأصول ، ورصد ما فيها من بتر ونقص وتحريف وسقط إلى غير ذلك من مطالب هذه البابة الصعبة من بابات التحقيق .

4-تخريج الاحاديث والآثار الواردة في الكتاب ، واستبدادها بمعظم الوقت ، وتحريرها على الوجه الكامل مع عدم التزيد إلا فيما تمسُّ إليه الحاجة ، فهناك علاقة متينة بين المتن والهامش بخلاف ما نراه عند بعض المحققين من نفخ الكتاب بما لا يُسمن ولا يُغني من الهوامش الخالية من المضمون العلمي الرفيع .

5-الحكم على الأحاديث بما تقتضيه قواعد الصنعة الحديثية من تصحيح وتحسين وتضعيف ، وضمن رؤية نقدية دقيقة لا تكتفي بمتابعة أحكام السابقين لا سيما ما تعارفه المشتغلون بالتحقيق من إفراطهم في الاعتماد على بعض العلماء المشتغلين بنقد الحديث لا سيما الحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني في كتابه "تقريب التهذيب" وهو الكتاب الذي نهض شيخنا بمشاركة الدكتور بشار عواد معروف بتحرير أحكامه على الرجال بعد طول مِراسٍ مع علوم السنة على وجه التحديد .وكان شيخنا رحمه الله شديد التأثر بمنهج نُقاد الحديث الكبار الذين يسبرون الروايات وينخلونها مثل الإمام أحمد والبخاري وأبي زرعة الرازي وابن المديني وابن حِبّان وابن عديّ والدارقطني وابن رجب الحنبلي والحافظ ابن حجر العسقلاني وأعيان هذه الطبقة المتفردة في نقد الحديث وتعليله وتنخيل رواياته .

6-التعليق على بعض المواطن التي تحتاج الى تعليق علمي يقرّب مآخذها ، ويُدني فوائدها من طلبة العلم والباحثين مع الانتباه إلى عدم الإفراط في ذلك .

7-كتابة المقدمات العلمية الكفيلة بالكشف عن قيمة الكتاب ومنهج مؤلفه وموقعه بين الكتب النظيرة له في فنه ، وهذا من أهم مطالب التحقيق ، ويقع الإخلال به بين ضَعَفَة المحققين الذين يخِفّون سِراعا إلى كتب التراجم ، ويرصفون من كلام القدماء ترجمة مُشَيّئة غير مكتملة ، بينما يتوفر شيخنا على قراءة المخطوط ويستنبط منه أدق معالم الترجمة كالذي صنعه في مقدمة "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي حيث صنع له ترجمةً حفيلة على الرغم من نُدرة أخباره ونزارتها في دواوين التاريخ .

8-صنع الفهارس الفنية الشاملة التي تقوم بجميع مطالب الكتاب ، وتقدم خدمة علمية جلية للباحثين ، وبعض الكتب وقعت فهارسها في مجلدين ضخمين كما في "مسند الإمام أحمد "، و"سير أعلام النبلاء "للذهبي ، وهذا مطلب عظيم النفع ، وحين يقع الإخلال به يتعسّر على الباحثين الإفادة من هذه الاسفار الكبيرة .

وبعد :فهذه ثماني دعامات من دعائم المنهج العلمي في التحقيق كما تبلورت لدى مدرسة شيخنا الجليل الشيخ شعيب الأرنؤوط رحمه الله ، وسأثني عنان القلم هاهنا كي اتحدث عن الجانب الإنساني في شخصيته الطيبة النبيلة ، فأقول:

إنَّ شهادةَ المُحبّ مجروحة ، وأشهد أنني حين أكتب عن شيخي الشيخ شعيب فإنني أكتب عنه من مِشكاة الحب ، فقد رأيتُ من كرم أخلاقه ، ونُبل صفاته ، وصفاء قلبه ، ومحبته لتلاميذه وأصحابه ما يُذكّرنا بالسلف الصالحين ، وهو الشيخ الذي لا يحتجِنُ معرفةً ولا جاهًا ولا مالًا ولا كتابًا ولا مخطوطًا عن تلاميذه وعن كل محتاج ، أما فعلُه للخيرات ِومساعدته لطلاب العلم ولا سيما الغرباء فشيء تضيقُ عنه العبارة ،ولا أجد كِفاءً له إلا أن يتولاه الله بحُسْن جزائه ، ودارتُه العامرةُ مفتوحةٌ للأضيافِ من كل الأقطار الذين يتشرفون بزيارته وينهلون من علمه وكرم أخلاقه ، ولقد بلَوْتُ من شمائله ما يجعلني أفتخر بالتلمذة عليه والجلوس بين يديه ، فهو الملجأ عند المعضلة ، والكنز حين الحاجة ، أفزع إليه حين تعتاص عليّ بعض المواطن ، واستضيء بنوره حين تتعسّر عليّ العويصات .

الشيخ شعيب هو أستاذي الذي افاض عليّ من رعايته ومحبته الكثير الكثير ، وحين نشرتُ "فتاوى الحافظ العلائي "عام 2009م تلطّف بكتابةِ مقدمة وجيزة عميقة الدلالة على صلتي به حيث قال :"لقد اتصلت أسباب الاستاذ عمر القيام بأسبابنا قبل سبعةَ عَشَرَ عامًا حين التحق بالعمل معنا في "مؤسسة الرسالة "، ومنذ اللقاء الأول تفرّستُ فيه ملامح الرغبة الصادقة في طلب العلم فضلاً عن أمارات التمكن من علوم العربية على وجه الخصوص ، ولم يمضِ كثيرُ وقتٍ حتى أصبح قريبًا من نفسي لا سيما بعد ان لمستُ منه الرغبة في تحقيق الشخصية العلمية المتوازنة التي تُجيد التعامل مع التراث ولا تقطع صلتها بالحياة المعاصرة ، وهو المنهج الذي ارتضيناه لأنفسنا وأحببناه بل ورسّخناه في نفوس تلاميذنا وأصحابنا ، وكم كانت سعادتي غامرة حين رأيتُ هذا الباحثَ الجادَّ يحذق دقائق صنعة التحقيق ويجري فيها على سَنَن الكبار من أهل العلم بعد أن تذوّق منهجنا ، وأفاد بما أكرمنا الله به من خبرة طويلة في هذا المضمار" .

أستاذي الجليل الشيخ شعيب الأرنؤوط : السلامُ على روحك الطيبة ، وتلقّاك الله بالرَّوْحِ والرَّيْحان ، وسلامٌ عليك في الأولين والآخرين .