عالم فقدناه أحمد عبد الرزاق الكبيسي

 

فقد العالم الإسلامي ومكة المكرمة وجامعة أم القرى قبل أيام معدودةٍ ( السبت 17 / محرم / 1439 الموافق 7 / 10 / 2017 ) رجلاً من رجالها وعَلَماً من أعلامها وعالِماً من علمائها وفقيهاً من فقهائها . 

إنه العالم الفقيه الحنفي الشيخ الدكتور أحمد عبد الرزاق الكبيسي أبو ملهم (المولود سنة ١٩٥١ ) الذي كان مجاوراً لبيت الله الحرام في بلد الله الحرام وأستاذاً في جامعة أم القرى . 

عَرَفَتْهُ مكة المكرمة بطرقها وجبالها ووديانها ومساجدها ، وعَرَفَه المسجد الحرام بطوافه بالعمرة والحج وبسعيه بين الصفا والمروة ، وصلاته فيه وخصوصاً صلاة الفجر ، وعَرَفَه كذلك باعتكافه فيه في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك في كل سنة ، وعَرَفَتْه مساجد مكة بصلاته فيها وخصوصاً مسجد الحي الذي يسكن فيه حيث كان لا يصلي الفريضة إلا فيه . 

عَرَفَتْهُ جامعة أم القرى التي أمضى فيها قرابة الثلاثين عاماً مدرساً في كلياتها ومشرفاً ومناقشاً لرسائل الماجستير والدكتوراه ، وقد تخرج منها على يديه عدة أجيالٍ ومنهم بعض أئمة الحرم المكي . 

رحمك الله شيخي وأستاذي وصاحب الفضل علي أبا ملهم 

عرفتك رجلاً عالماً فقيهاً حنفياً شهماً كريماً مقداماً جريئاً في الحق لا تخاف في الله لومة لائم ، تقف في المسجد وفي الشارع وفي الجامعة تنصح وتعلِّم وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . 

عرفتك في بيتك الأول في حي العزيزية في حج عام / 1979 م حين أكرمني الله تعالى بصحبة وخدمة الوالد والوالدة والجدة إلى الحج ونزلنا ضيوفاً عليك في بيتك العامر الذي لا يكاد يتسع من كثرة الضيوف الحجاج – وكان منهم صديقك الحميم الدكتور كايد ومجموعة من زملائه - وهذه المرة الأولى التي تعرَّفَ فيها الوالد عليك . 

عرفتك حين بشرتني بقبولي طالباً في المعهد الثانوي في الجامعة الإسلامية ، أرجو الله تعالى أن يكون ذلك في ميزان حسناتك . 

عرفتك عندما كنت آتي إلى العمرة وأنزل عندك في البيت فأجد الاستقبال والترحيب وكرم الضيافة . 

عرفتك في حج عام / 1981 م عندما جاء الوالد والوالدة إلى الحج – وهذه آخر مرة رأينا فيها الوالد رحمه الله – وكان معهم الشيخ عبد الله الحلاق وزوجته من حماة والشيخ حسين الأزهري وأخته من اللاذقية ثم وصل محمود ابن عمي الشيخ سيادي قادماً من الرياض ، ونزلنا جميعاً ضيوفاً عندك في بيتك المبارك ، وكانت أياماً جميلةً مباركةً لا تنسى رأينا فيها الكرم الحاتمي الذي كان صفةً متأصلةً فيك ، وأثناءها قدم العالم الرباني الشيخ سعيد الطنطاوي حفظه الله وعافاه زائراً لك في بيتك ومسلِّماً على الوالد ومن معه ومتعرفاً عليهم وهذه أول مرة يلتقيان فيها ، وكذلك قدوم العالم المقرئ شيخ قراء حماة الشيخ سعيد العبد الله رحمه الله ومعه الشيخ حاتم الطبشي وغيرهم . 

عرفتك عندما تخرجت من الجامعة وجئتُ عندك في مكة فسعيتَ لي حتى قبلتُ في معهد رابطة العالم الإسلامي وانتظمتُ طالباً به عام / 1985 م فصرتُ قريباً منك آتي عندك دائماً . 

عرفتك عندما قدم وفد من تركيا للعمرة وفيهم شخصية مهمة فأقمتَ لهم وليمة عشاء ، وكان عدد الحضور قرابة المائة شخص من مكة وخارجها ، وكانت وليمة مشهوداً لها بشتى أصناف وأنواع الطعام الشهي من يد ابنة الخالة أم ملهم حفظها الله تعالى وبارك بها وأعانها وألهمها الصبر والسلوان . 

عرفتك عندما كنتُ أذهبُ بمعيتك إلى الشيخ سعيد الطنطاوي نزوره في بيته ، وخصوصاً عندما جاءك خبر وقوعه في حفرة عميقة فركبنا السيارة مسرعين حتى وصلنا بيت الشيخ وبدأتَ بطرق الباب وانتظرنا طويلاً ولم يفتح ، وكدنا أن نرجع لكن كان عندك إحساس داخلي أن الشيخ في البيت وهو لا يستطيع فتح الباب ، وفعلاً بعد قليل فُتِح البابُ ودخلنا وإذا بالشيخ يقف وراء الباب وكأنه شبح خارج من القبر من شدة ضعفه وألمه ، فسلمنا عليه ودخلنا المجلس ونحن ننظر إليه مستغربين مما جرى للشيخ مشفقين عليه ، وعندما أراد الجلوس والاستلقاء كادت روحه أن تفارق جسده من شدة آلام ظهره بسبب هذه الوقعة في الحفرة العميقة . 

عرفتك في يوم جمعةٍ من أيام شتاء مكة الجميل عندما زرنا الشيخ سعيد الطنطاوي بعد صلاة الجمعة واقترحنا عليه أن نخرج إلى عرفة ونتغدى فيها – وعرفة متنزه أهل مكة - ، فوافق الشيخ بشرطِ أن يطبخ هو بيده الأرز بالبازيلا بدون لحم - لأنه لا يأكل اللحم - وأخذنا ما يلزم وتوجهنا إلى عرفة – ثلاثتنا ومعنا ملهم وكان صغيراً - ووجدنا مكاناً مناسباً وجلسنا فيه وبدأ الشيخ سعيد بطبخ الأرز بالبازيلا ، وبعد الانتهاء وضعه في إناء وبجانبه علب اللبن وبدأنا الأكل ، ويعلم الله أني لم أتذوق أطيب ولا أشهى ولا ألذ من هذه الأكلة الشهية المباركة من يد هذا العالِم المبارك ، ولقد كانت جلسةً رائعةً مباركةً من جلسات العمر لا تقدر بثمن مع هذين العَلَمَيْن العالِمَيْن ، ولقد بارك الله في هذا الطعام المبارك وزاد شيء منه ، فأخذْتَه إلى البيت حتى تطعم أهلكَ وأولادكَ ليتباركوا بهذا الطعام الذي صنعه الشيخ سعيد بيده المباركة . 

عرفتك كثيرَ الذكر والاستغفار والتسبيح ، وكثيراً ما تردد قوله تعالى : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) وكثيرَ الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم . 

عرفتك كثير الالتزام بالشرع الحنيف والاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تترك صلاة التهجد في الليل ولا صلاة السنن والنوافل في النهار ولا تترك صيام النافلة في الصيف والشتاء . 

عرفتك شديدَ التعلق بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه شديدَ التمسك به ، لا أعرف أنك دخلت مكة من خارج الميقات إلا وأنت محرم بالعمرة ، ولا أعرف أنك جمعت بين صلاتين في السفر ، وقد سافرت معك إلى الطائف وإلى المدينة المنورة وإلى الرياض . 

عرفتك عالي الهمة تأخذ بالعزيمة لا بالرخصة وخصوصاً في الحج فكنت تأخذ بيد ابن العم نزار أبي تميم - توأم الروح - وتخرجان إلى عرفة ومزدلفة ومنى ومن ثم إلى الحرم مشياً على الأقدام وتحاول جاهداً أن تطبق كل السنن والنوافل بله الفرائض . 

وإذا كانت النفوس كباراً === تعبت في مرادها الأجسام 

ولقد عرفت منك أنك حججتَ مرة مع هيئة التوعية في الحج وفي أيام منى كان الإمام يقصر الصلاة الرباعية في مسجد الخيف – والكل حجاج ومسافرون - وكنت أنت الوحيد الذي يتم صلاته أربع ركعات فكانوا يستغربون ويستهجنون فِعْلَك ويسألونك عن هذا فكنتَ تجيبهم : كيف أقصر الصلاة وبيتي في العزيزية لا يبعد عن منى سوى بضعة أمتار فهل يجوز لي القصر ؟ مما دفعك لكتابة رسالة " المكيون والميقاتيون وما يختص بهم عن أحكام الحج والعمرة " 

عرفتك عندما كُسرت قدم ولدك عبد الرزاق وكان صغيراً كثير الحركة وأخذناه إلى المشفى وبعدما تأكد الأطباء من الكسر بعد الأشعة أخذَتْكَ عاطفة الأبوة والحنان ونزلتْ عبرات من عينيك ، وبعد لحظات أعطيتني المصحف الصغير الذي كان في جيبك وطلبتَ مني أن أفتح سورة النحل لأنك ستُدَرِّسُ تفسيرها للطلاب في الفصل الصيفي ، وعندما فتحتُها وإذا هي تبدأ بقوله تعالى : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) فازداد بكاؤك وأنت تحمد الله على كل حال . 

أما موضوع التدريس والتحضير لدروس الجامعة وتأليف الكتب وتحقيقها ومناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه فحدِّث ولا حرج أقول : لقد أخذ الله منك نعمة البصر وعوضك بنعم كثيرة وأهمها نعمة البصيرة الإيمانية الثاقبة ، فكنتَ تحفظ وتفهم ما تسمعه أو ما يُقرَأ لك ، وهيأ الله لك زوجةً صالحةً عالمةً ابنة علماء لتراجعَ المراجعَ والمصادرَ وتقرأَ وتبحثَ وتنقِّبَ عن الحكم الشرعي والمسألة الشرعية ، فكانت عينَك التي تُبْصِرُ بها وذراعَك اليمنى التي تكتب بها في تحضير دروس الجامعة ، وفي تأليف وتحقيق الكتب ، وفي مناقشة الرسائل الجامعية ، وفي كل شؤونك ، هذا بالإضافة إلى عملها في البيت بكامله من تنظيف وترتيب وطبخ لك ولأولادك ولضيوفك الذين لا يخلو بيتك منهم ، ولتربية أولادك ومتابعة دروسهم في المدرسة . فجزاكِ الله خيراً يا أم ملهم عن أبي ملهم وعن أولادك وعن ضيوفه أحسن الجزاء . 

وأخيراً أقول : إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا ملهم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا " إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم اجرنا في مصيبتنا وأبدلنا خيراً منها " 

لقد كنت لي أخا كبيراً عزيزاً ووالداً بعد والدي وصديقاً وفياً ناصحاً مخلصاً ، تعلمتُ منك كل خير وكل فضيلة فجزاكَ الله عني أحسن الجزاء ، وأسكنك الجنةَ وجمعني بك في الفردوس الأعلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ووالديَّ ومشايخي ومن له حق عليَّ إنه ولي ذلك والقادر عليه . 

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين