الشيخ الأزهري اللغوي الفقيه محمد فوزي فيض الله

الإمام الرباني العلامة المُعَمَّر الفقيه المحقق والأصولي المدقق والأديب الأريب الشيخ الدكتور محمد فوزي فيض الله، عالم حلبي فاضل، وفقيه حنفي متثبت، تخرج على يديه كثير من العلماء.

عُرف عنه تعمقه في العلم ودقته، وسلاسة أسلوبه في عرض الأحكام والأفكار وبراعته، تشعر بأنفاسه الطاهرة متلبسة حروفه، تضفي على نفس قارئها صفاء وسكينة ونورًا، وما أكثر ما كتب، وما أنفس ما حرّر وقرر، كتبه كثيرة، ومقالاته غزيرة، ومشاركاته في الندوات والمؤتمرات العلمية وفيرة.

جمع الله له جمال الخَلق والخُلق، تراه أنيق المظهر، يتشح بالجمال، ويكتسي بالجلال، فلا تشاء أن ترى منظرًا جميلًا جليلًا إلا رأيته فيه، ولا عالمًا عاملًا إلا رأيته إياه، ولا متعبدًا متخشعًا إلا كان هو.

* موجز عن النشأة العلمية: وُلد شيخنا في عام 1921م في محلة (البياضة) بحلب القديمة قرب قلعة حلب، وانتسب وتخرّج في الخسروية (الثانوية الشرعية) بحلب في دفعة 1942م (لم يبقَ من دفعته أحد حيٌّ وكان الشيخ عبدالفتاح أبو غدة من نفس دفعته ...وكان الشيخ عبدالله سراج الدين بعده بسنةٍ)، ثم نال الشهادة العالية في الشريعة من الأزهر عام 1947م، ثم إجازة العالمية في القضاء الشرعي 1949م، ثم إجازة تخصص التدريس (العالمية) 1951م، ثم نال شهادة التخصص (الماجستير في الفقه والأصول) عام 1960م، ثم العالمية بدرجة أستاذ (دكتوراه) في الفقه والأصول عام 1963م.

وأكب الشيخ فوزي على التحصيل فعرف عنه أنه لا يشبع من الدراسة كما يقول شيخنا العلامة نور الدين عتر حفظه الله فحضر على كبار علماء الأزهر وغيرهم، ودرس في كلية الآداب أيضًا وكاد يسجل رسالة ماجستير يشرف عليه فيها طه حسين فلم يتم ذلك بسبب بره الكبير بأبيه الذي دعاه لحلب ولم يشجعه على ذلك.

* أهم أساتذته: الشيخ أحمد محمد الكردي، الشيخ أحمد الشماع، والشيخ محمد أسعد عبه جي، الشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ محمد راغب الطباخ، والشيخ فيض الله الأيوبي الكردي، والشيخ محمد زين العابدين الكردي، والشيخ محمد الناشد، والشيخ عبد الله حمادة، والشيخ عيسى البيانوني، والشيخ جميل العقاد، والأستاذ محمد أبو زهرة، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد محمد الموني، والشيخ محمد سيمون، والشيخ عبدالعزيز المراغي، والشيخ حسن مأمون. وغيرهم رحمهم الله رحمة واسعة.

سُئل الشيخ محمد فوزي فيض الله عن أكثر المدرسين تأثيرًا في حياته العلمية فقال: الأستاذ محمد أبو زهرة، وقال: وأثر في حياتي تأثيرًا كبيرًا، وعلمني الصراحة والحرص على الحق.

* خلقه وأدبه: أما خلقه وأدبه فحدث ولا حرج، بشاشةٌ وحسن ضيافة لزائريه، وهدوء ووقار مع مناقشيه، كثير الذكر، طويل الفكر، لا يتكلم إلا بخير، حتى في أيامه الأخيرة ـ و قد اشتد عليه المرض، والأجهزة الطبية تكتنفه من كل صوب ـ كان يصلي ويذكر الله دونما فتور، ديدنه ختم القرآن مرتين كل شهر: مرة في الصلاة، ومرة خارجها، يعظم القرآن وأهله، ما ذُكر التواضع إلا ضُرب الشيخ مثلًا، لا يبغي عن الحياء حِوَلًا، ولا عن رفيع الأخلاق بدلًا.

وأما الوفاء فأمره فيه عجب عجاب، لا يَنسى من الذكر الحسن ولا من الدعاء في تهجده مشايخَه وزملاءه والأصحاب، بل ولا ينسى طلابه الأدنين، قد ألحق الأحفاد بالأجداد، وربى ثلاثة أجيال متتابعة، يشجع طلابه على العلم والجد والمثابرة.

ومما يذكر في مناقب الشيخ تواضعه وإكرامه ضيفانه أنه كان ينسل من بينهم فيرتب لهم أحذيتهم ونعالهم فيفاجؤون بذلك إذا انصرفوا.

* ورعه وعبادته: ومما يذكر في ورعه ما قاله تلميذه الشيخ د. محمود الطحان: دخلت مرة على الدكتور محمد فوزي فيض الله في مكتبه بكلية الشريعة في جامعة دمشق، وأنا طالب في الكلية آنذاك، فسألني السؤال التالي: أضطر أحيانًا إلى كتابة رسالة وأنا في مكتبي، فأتناول ورقة أكتب عليها تلك الرسالة، وهي من أوراق الكلية، وربما فعلت ذلك مرارًا، وكنت كل فترة أتصدق بعشر ليرات سورية للفقراء بدلاً عن ثمن الاوراق التي كنت أكتب عليها، فهل يجوز ذلك؟ أم ماذا أفعل؟ فتبسمت متعجبًا من ورعه في ذلك الوقت الذي استحل فيه كثير من الموظفين أموال الدولة التي تحت يده. انتهى.

وكان الشيخ تقيًّا نقيًّا ورعًا زكيًّا قوامًا لليل لا يدعه صيفًا ولا شتاءً، يحفظ كتاب الله حفظًا متقنًا، وكان يدعو في قيامه لأكثر من أربعين شخصًا من أهله وأشياخه وأحبابه وطلابه بأسمائهم اسمًا اسمًا، فلله دره ما أزكى نفسه وما أعلى قدره.

* بعض كشوفاته: شكا له أحد طلابه تأخر الذرية بعد زواج دام أربعة أعوام، فقال له: لن يولد لك حتى تنهي الماجستير، وهكذا كان.

* الأعمال العلمية التي قام بها: 

ـ تدريس ومحاضرات: التدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق (من عام 1963م، إلى عام 1973م) من المواد التي درسها فيها (الفقه وأصوله وعلم الصرف)، وفي عام ١٩٧٩ طلب من الشيخ أن يمدح الخميني فأبى فتمت إقالته بقرار رئاسي من العمل بكلية الشريعة بدمشق وتحويله للعمل بوزارة الصحة براتب أقل عقوبة له فكان الشيخ يقول: اشتد الأمر عليَّ حتى إني قلت لو اضطررت للعمل سائق سيارة أجرة (تاكسي) لكان ذلك خيرًا لي من أن أبيع ديني.

ثم انتقل للعمل في عدد من الكليات والجامعات منها: كلية الشريعة جامعة الكويت، وفي جامعة الإمام في السعودية بالرياض، وكلية الأوزاعي في بيروت. 

ـ أستاذ ورئيس قسم بكلية الشريعة بجامعة الكويت.

ـ كان الشيخ عضوًا في هيئة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية، وعضوًا في اللجنة العلمية للموسوعة الفقهية الكويتية، وعضوًا في اللجان العلمية والهيئات الرقابية لعدد من المؤسسات والشركات المالية الإسلامية.

ـ إمامة وخطابة وحلقات علمية: إمامة وخطابة في مسجد الشويخ بالكويت.

* مؤلفاته وكتبه: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام، الزواج وموجباته في الشريعة والقانون، الإلمام في أصول الأحكام، فصول في الفقه الإسلامي، وكتاب الطلاق ومذاهبه، المذاهب الفقهية، صور وعبر من الجهاد النبوي، المدخل إلى الفقه الإسلامي وأصوله، وغيرها.

* بره الكبير بأبويه: ومما يذكر في ذلك أن العادة جرت في علماء حلب أن يعتموا بعمائم بيضاء ولكن الشيخ فوزي خالفهم في ذلك، فلم يعتم إلا إذا نزل حلب إرضاء لوالده الذي كان يتمنى أن يرى ابنه يلبس لباس العلماء وإدخالًا للسرور على قلبه فلما توفي والده ترك لبسها.

* وفاته: توفي صباح يوم الاثنين 5 من شهر المحرم 1439هجري (الموافق 25 من أيلول سبتمبر 2017 ميلادي) عن عمر ناهز المائة في مدينة Isparta (اسبارطة) بتركيا، وكان قد استقر بحلب منذ قرابة عشر أعوام فلما قامت الثورة صدع الشيخ بكلمة الحق في بيانات أصدرها بعض كبار علماء حلب وقع عليها ثم قصف بيته ومزرعته واستشهد حفيده فذهب إلى تركيا وأقام بمدينة اسبارطة. فرحمة الله عليه رحمة تتجدد ولا تنفد.

جسد لُفف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد

عليه تحية الرحمن تترى برحمات غوادٍ رائحات

كتب الشيخ محمد ياسر القضماني كتابًا ماتعًا في ترجمة الشيخ طبع بدار القلم بدمشق، سنة 2002، في 174 صفحة.