الأستاذ الدكتور الشيخ محمد فوزي فيض الله كما عرفته



الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأفضل الصلاة والسلام على خير البريات سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي ذات يوم من سنة 1960 جمعتني صدفة وأنا في الدراسات العليا في الأزهر بأخ في العلم سبقت شهرته اللقاء به، لاشتهاره بأنه رجل لا يشبع من الدراسة، وإذا رجل قسيم وسيم، أنيق الثياب، فصيح العبارة، يجذب إليه محادثه بلطف أسلوبه، وبارع بيانه، وحسن نصحه وإرشاده، إنه الأخ الأستاذ الدكتور محمد فوزي فيض الله، أبقاه الله وأدام نفعه، ولم نحتج لوقت طويل للتعارف، فقد كنت أعرفه بظهر الغيب بطيب الصفات، وكان يعرفني لسبقي إلى الأولى في طلب العلم ، ويعرف أسرتي من طرفيها آل عتر وآل سراج الدين، وشعرت بانجذاب ا لقلب إليه، وطلبت منه موعداً للزيارة، وذهبت في الموعد المحدد إلى بيته في أقصى ما بلغه البنيان في مصر الجديدة ووجدت على الباب بطاقة طبع عليها اسمه بحرف جميل وتحته العبارة الآتية:
(يستقبل زواره يوم الجمعة صباحاً من الساعة التاسعة إلى الحادية عشرة، ويعتذر عما سوى ذلك، فالواجبات أكثر من الأوقات).
وهكذا أينما زرته تجد هذا الشعار على باب المنزل يعلن لك الاعتذار (فالواجبات أكثر من الأوقات).
إنّ هذا القانون كان نبراس حياة الزميل الكريم والأخ الحميم القديم الأستاذ الدكتور الشيخ محمد فوزي فيض الله، أمتع الله به الإسلام وأهله، وسار في ضوئه في مختلف المراحل من حياته.
صداقته مع الشيخ عبد الله سراج الدين:
في أيام الطلب في المدرسة الخسروية، توثقت عرى الصداقة مع أخيه صديق العمر شيخنا الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى، فانظر هذه الصداقة واستمع للأخ الدكتور فوزي يتحدث عنها يقول: (فكنت لا ترانا إلا ذاهبين إلى المدرسة الخسروية أو عائدين منها إلى بيوتنا – إذ كانت متقاربة – أو جالسين في ركن من حديقة المدرسة نقرأ في كتاب أو نحفظ قصيدة، أو نراجع متناً من المتون، أو نتدارس كتاب الله....).
أما الصيف فكان له برنامج عمل حافل، حفظ في إجازاته كتاب الله، ودرس مع صديقه الشيخ عبد الله كتباً مهمة نافعة.
في صيف 1941 قرأ تفسير جزء عم من تفسير النيسابوري، وفي صيف 1942 قرأ تفسير جزء تبارك منه، وفي صيف 1943 قرأ كتاب (الأشباه والنظائر لابن نُجيم الحنفي)، وهو أسلوب فريد في الفقه، ولم تكن قراءة هذه الكتب قراءة اطلاع فحسب، بل كانت دراية وتعمقاً، ومقابلة نسخ وتحقيق وكشف أغلاط.
لا يشبع من الدراسة:
ولما ذهب إلى الأزهر في مصر وكانت منبع العلوم والمعارف، فلم يكتف بكلية الشريعة في الأزهر، بل اشتغل بطلب العلم إلى أعلى مستوى يمكنه في كلية الآداب، ثم في الدراسات العليا منها، واشتغل بالحقوق، وحصل على دراسات تربوية وغير ذلك حتى صار يقال عنه: إنه لا يشبع من الدراسة.
ولما باشر عمله مدرساً في كلية الشريعة عرف الطلبة فضله، وأقبلوا عليه بل إنهم أقبلوا عليه وفضَّلوه على الأساتذة الكبار مذ كان يدرّس وهو معيد في كلية الشريعة.
مؤلفاته:
فلما تسلّم عمله أستاذاً جامعياً عكف على تدوين محاضراته، وقدم تآليف تتميز بتحرير المسائل، ووضوح البيان، وجمال التعابير، وكمال البحث والتوثيق بالعزو الدقيق، فكتب المؤلفات القيمة في الفقه وأصول الفقه، وبعض الشرح اللغوي والأدبي للحديث، وكتَبَ في السيرة النبوية، إلى جانب مقالات في مجلات متعددة.
وإذا كانت مؤلفاته متألقةً في الفقه وأصول الفقه، بحكم اختصاصه فإن مؤلفاته الأخرى متألقة كذلك لاكتمال تكوينه العلمي الموسوعي، ومن ذلك على سبيل المثال كتابه في السيرة: (صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة).
هذا الكتاب منعطف واضح في بحوث الزميل العزيز العلمية، وإن كان في الوقت نفسه مثالاً من التألق، في إشراق البيان، وفي تجديد الدراسة، وعمق التحليل للوقائع والغزوات، وما أغزر ذلك في الكتاب، مع ما يتلوها من دروس وعبر، وخذ مثلاً لذلك غزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة حنين.
وتأمل تحقيقه النيِّر لما كثر القول فيه، إنّ أخذ الفداء من أسرى بدر كان خلاف الكمال، وكيف أثبت أن الكمال الحق إنما هو فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر ما فيه من مناقشات المستشرقين المغرضين، مثل بحثه في عقاب الخونة بني قريظة، الذين تآمروا أيام الأحزاب لإبادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه عن بكرة أبيهم.
ثم انظر قبل هذا وبعد هذا الجوانب الروحية، والقيم الإيمانية يبثها الكتاب في روح قارئه، كيف لا، والكاتب من خواصِّ المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم، الحافظين لكتاب الله، الكثيري الاطلاع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كله مع العرض لمسائل فقهية من اختصاص المؤلف، لكن حكمته في البحث أوردت هذه المسائل بمقدار يناسب موضوع الكتاب، ومقصد الكاتب لا يطغى عليهما.
لمحة سريعة عن منهجه في الفقه:
ومن المهم جداً وقد تحدثنا عن الفقه عند الزميل الحبيب الدكتور فوزي، أن نعرض لمحة سريعة عن منهجه في الفقه: فمن ذلك:
1 – لابدَّ من اعتماد الفقه على علم أصول الفقه، فإن أصول الفقه يُنظِّمُ العقل الفقهي، ويصون عمل الفقيه من الشطط والزيغ، ويخطئ بعض العصريين خطأ عظيماً بالتهوين من شأن هذا العلم العظيم، الذي سبق إليه أئمة الإسلام ويحاول أصوليو القانون الأجانب اللحاق بهم في الأعصر المتأخرة، وكأن ذلك بالنسبة لبعض هؤلاء المعارضين إنما هو بسبب وقوف هذا العلم أمام شطحاتهم، وآرائهم الشاذة عن أصول العلم، بل عن مقررات الدين.
2 – التوسع في الإفادة من الثروة الفقهية الضخمة التي تملكها الأمة الإسلامية، مما لا يقاربه ولا عُشره ما عند أمم الأرض، وعدم الاقتصار على مذهب واحد، كما كان متَّبعاً أيام العثمانيين، وفي هذا إفساح مجال لتحاشي مواضع قد يقع فيها عسر ومشقة.
3 – التثبّت في الأخذ بما خرج على المذاهب الأربعة، لأن السير مع الجمهور أصوب وأضمن، إلا أن يتحقق في المذهب المخالف ثبوته عن الإمام المجتهد الذي ينسب إليه، ويكون متفقاً مع مقاصد الشريعة في الباب، ولا يوجد في مذهب من الأربعة بديل عنه.
ومن أجل هذا قلَّت فتاوى الدكتور فوزي من هذا النوع بل ندرت.
وفي رأينا أن هذا التحفظ مهم جداً، يصون الحكم الشرعي من الخطأ والزلل، ومن نزعة المجاراة التي كثرت في عصرنا، كما أنه مهم لصيانة الوحدة الوطنية، لقيام الاحترام للمذاهب الأربعة في نفوس المسلمين.
لمحة من سجاياه ومزاياه:
وأما شخصية الزميل فضيلة الأستاذ الدكتور محمد فوزي فيض الله، فهو أستاذ جليل في شخصيته قبل أن يكون أستاذاً جليلاً في العلم، لما اجتمع فيه من كريم السجايا في المظهر والخلق، وهذه لمحة من سجاياه ومزاياه:
1 – العناية بالمظهر والأناقة في نظام الشعر والثياب، والتفنن فيها، حتى لربما يمر عليك أسبوعان تراه كل يوم بثياب غير ما سبق، من غير تكرار، وكأنه يتمثل الهدي النبوي الشريف الصحيح: (إن الله جميل يحب الجمال).
على أن هذا لا يؤدي للسرف، كما أنه يتفنن في ترتيب الأطقم كما حدثني هو.
2 – الاهتمام بالنطق العربي الفصيح، بل الأفصح في حواره مع الناس عامة، ناهيك عن أسلوبه الجميل الأخَّاذ في دروسه ومحاضراته.
وهذه مهمة لكل مثقف، فضلاً عن أستاذ جامعي.
3 – الاعتناء بالنظام والترتيب: فكل شيء له موضعه، وكل قطعة في البيت لها مكانها بنظام جميل وترتيب يتميز بحسِّ الذوق الجمالي الذي تميز به شخصه.
4 – المشاركة في عمل البيت، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكون في مهنة أهله، فإذا نودي إلى الصلاة قام إلى الصلاة.
5 – الدقة في المواعيد والحفاظ عليها: ولا سيما مواعيد بدء المحاضرات والانصراف عنها بدقة بالغة، حتى لو تعارض موعد المحاضرة مع صلاة سنة قدَّم المحاضرة لأنها واجب، وهكذا سائر مواعيده في زياراته أو استقباله.
6 – بر الوالدين: فكان كثير الدعاء لهما، والصلاة لهما، لاسيما في الليل، حتى صار قدوة في ذلك.
7 – التواضع ولين الجانب: مع الجميع حتى الطلاب، وكأن الطالب أمامه زميل له، لما يرى من الكرامة، وحسن محادثته وتلطفه معه، مما يأسر القلوب إليه، وربما يمر علينا ومعنا في القاعة طلاب فيقول: هل تقبوني طالباً عندكم؟!
8 – توقير علماء الأمة، من كان على مذهبه أو لم يكن، وهذه خليقة علمية مهمة تنم عن كمال العالم، بل كمال المسلم، كما في الحديث: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه).
وقد يتساهل بعض الأستاذة لاسيما الناشئين فلا يقدروا العالم قدره من نشوتهم بما أوتوا من العلم، وهو دليل خلل في علمهم أو في تكوين شخصيتهم.
9 – تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه كلما ذكر، من غير ملل ولا سآمة، وهذا نص العلماء أنه من أول ما يغتنمه ويربحه العالم وطالب العلم، وهو عنوان إخلاصه في علمه وتعلمه ويخشى على من تعمد إغفال ذلك البعد، عياذاً بالله، كما ورد في الحديث: (بَعُد من ذُكِرْتَ عنده فلم يصل عليك [قل آمين، قال صلى الله عليه وسلم] فقلت: آمين ) ( ).
10 – الاعتناء بنشر العلم تطوعاً في المسجد كثيراً، وفي البيت أحياناً، وقد خصص وهو في الكويت يوم الجمعة من الفجر حتى العشاء، وقال لي: هذا لله تعالى، وذاك للجامعة، قلت له: كله لله.
11 – المحافظة على قيام الليل: وهو مركب الصالحين، وكان لحرصه على ذلك يسير على نظام خاص في حياته، فيقلّ من السهر كثيراً، ويقلل أيضاً الزيارات في الليل كذا استقبال الزوار ليلاً، إلا لماماً، ليحتفظ بنشاطه في قيام الليل، وأذكر ليلة من أول حزيران احتجنا أن يصحبنا بسيارته إلى مشفى الولادة لحال طلق سريع، وكان القوت قبل الفجر فوجدناه مستيقظاً مستعداً للصلاة، فنزل معنا حالاً، وكان صحبة مباركة تيسرت الولادة سريعاً وبسلامة تامة ولله الحمد.
12 – الإكثار من الذكر، وقد قال تعالى: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] {البقرة:152}. وحسبه أنه حافظ كتاب الله، وقد كنا نشعر بقدومه أو ذهابه من لهجة لسانه بالذكر مع كل درجة.
13 – الإكرام البالغ لمشايخه ولإخوانه وأصدقائه: فيحتفي بهم، ويثني عليهم، ويتحدث بآلامهم وآمالهم، ويدعو لهم، لاسيما في قيامه بالليل، يذكرهم بدعواته واحداً واحداً، وكاتب السطور منهم، وهو إكرام عظيم، وتحمُّلٌ فريد، ندر من يفعله، وإنا ندعو الله تعالى أن يتقبل دعاءه، ويعطيه مثل ما يدعو به تحقيقاً لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق في الحديث الصحيح: (ما من مسلم يدعو لأخيه المسلم بظهر غيب إلا وكل الله له ملكاً يقول: (ولك بمثل) اللهم وخيراً منه.
ونختم ببعض وصاياه، ومن ذلك:
- لو تآلف المسلمون لم يُغلبوا، بل لو اتفق اثنان بصدق وعزيمة في (دائرة) لانتصرا وفازا بفضل الله.
وأخيراً وليس هو آخر ما يقال في هذا العلامة العامل الهمام: فإن الأخ العلامة الجليل محمد فوزي فيض الله عَلم في علوم الإسلام والعربية، وهو مدرسة في العمل والخلق والفضائل، وإن ما ذكرته إلمامة سريعة موجزة جداً، مقصرة عن الوفاء بحق فضيلة الأستاذ والدكتور محمد فوزي بل وأضعافها قاصر، وإنما ندعو الله تعالى أن يفسح في مدته، ويزيد نفع الأمة بعلمه وصلاحه وعمله، وأن يجزل مثوبته، ويعلي درجته مع النَّبيين والصديقين، اللهم آمين.
صديق معترف له بالفضل


نور الدين عتر
الأحد: 23/محرم/1428هـ
11/2/2007م
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.