هذا أبو إقبال فذُ زمانه...

 

شيّع، بعد عصر الإثنين التاسع من شوال لعام ألف وأربعمئة وثمانية وثلاثين الموافق للثالث من تموز لعام ألفين وسبعة عشر (للميلاد) جمع غفيرٌ من الناس، العالم الكبير، والمعلم القدير، والداعية الناجــــح، والمخلص الناصح...الشيخ الدكتور محمد أديب الصالح، من جامع الراجحي في الرياض إلى مقبرة النسيم، وقد خيم الحزن على جل الوجوه، فالحاضرون جميعًا ما بين صديق محب، وقريب مقرب، وطالب بار، وسامع له في خطبة عصماء، ومعجب به وهو يوجه لأعداء الحق والحرية طعنة نجلاء...وقد منّ الله عليّ أنْ كنتُ أكثر من واحد من هؤلاء... فحزنتُ كما حزنوا، وتألّمتُ كما تألموا...ولا نقول إلا ما يُرضي الله سبحانه: إنا لله وإنا إليه راجعون...وما أحسب أن أحدًا لا يعرف هذا العَلَمَ الشامخَ، وكثيرون أولئك الذين تنافسوا في الحديث عنه عالمًا فذًا، وخطيبًا بليغًا، ومحققًا أصوليًا، وأبا رحيما، وصديقًا وفيًا، ومُبتلًى صابرًا، وقريبًا واصلًا... ولئن تكرّم هؤلاء الكثيرون وقبلوني  أن أكون واحدًا منهم، فلن أزاحمهم فيما كتبوا وأشادوا، بل سأضيف إلى ما سطروه قصيدة في رثائه، يرحمه الله، أسأل الله تعالى أن ينفع بها، إنه سميع مجيب:

---------------------

هذا أبو إقبال فذّ زمانهِ...

--------------------

يا أمّــــــتي صبرًا على الأرزاء===فــــي بُكْــرة تنتــابُنــا ومساءِ

صبرًا على خــــطبٍ ألمّ بساحنا===بوفـاة حَــبـْـــرٍ باذلٍ معطـــاء

اليوم ظهرًا قــد دعـــــاه ربّـــه ===من بعْــــد سقْــمٍ نــابـَه وبـلاءِ

عـلَمٌ من الشام الجريح قد ارتقى===نحو السماء بوجهـه الوضّــاءِ

قطنا التي سعدت به وبـعــــلمــه===كم أرضعتهُ لبـــانها بصفـــاء 

واختار والدُه له اســمًا مشــــرقًا===قد كان حقًا زينـــة الأسمـــاءِ

فقد ابتدى بمحمد وأتى أديب بعده===وبصـالح خـتم اسمه بالحــاءِ

آل الغلاييني وعمـــدتـــهم* أنــا===روا دربَـه للمجد والعــــليـــاءِ

وردَ المناهل عـــــــذبةً فإذا بـــه===عــذبٌ فـراتٌ مانــح لـــرواء

في ظل دوح قـد تــربّـى راشــفًا===عسلًا تقطّرَ من ربى الفيـحاء

ودمشق كم أهْــــدتْ إليه نـفائسًا===من منـبر البلغــاء والعظـمـاء

من منبرٍ كان "السبـاعي**"مُنشئًا===لعرينِــه في همّـــةٍ عَــليـــاءِ

عِلْــمًا وتربيةً وأخـــلاقًا سـمَتْ===بالدارسين إلى ذرى الجــوزاء

ضمّته جامعـــــة الشآم لرَكْبهـا=== في موكب العلماء والصّلحـاءِ

فأبان شـرعة ربّه في صـرْحها===شرح الحديْث بدقّـــة وجــــلاء

وغدا بمسجدها خطـيبًا بارعـــاً===يُعْــلي قــضـايا شعبه بــوفـــاء 

والحــــــقّ بيّنه وكان نصــيرَه===لمْ يخشَ فيه رعــونةَ الجهــلاء

و"حضارة الإسلام***"كان مديرها===فيهــا غذاء الروح للأدبـاء

أسفاره في العلم عـــز نظيــرها===قدْ أُزلفـتْ لِمجـــاورٍ أو نــــاءِ

لكنّ أعــداء الحقيــقة لم يـَـرُقْ===لهمُ سُــطوعُ البدر في الظلمــاءِ

طبْعُ الخـفافــيش القبوعُ بكهفها===تسعى إلى الإفـــساد والإيـــذاءِ

كادوا له، وتآمروا فــي خسَّــةٍ===أقصــوه حتى صار في الغرباء

وضع الكريمُ له القبول بأرضه===فيهــا غـدا من خيـرة الفضـلاء

فتحتْ ذراعيها الرياض ببهجة===واستقــــــبلته ببســمة وحيــــاء

أهدى لجامعــة الإمام أريجَـــه===فغــدتْ بـــه كالروضــةِ الغنّـاء

هذا أبــــو إقبال، فــــذّ زمــانه===بــــزّ الرجــالَ بِفِـــطنــةٍ وذكاء 

مَنْ زاره في بيْــــته ألفى لديـــ===ـهِ سماحةً صُبغت بفيض سخاء

يأتي إليهِ بــوجـهــه مُتـــبسّمــًا===حتى ولو قـــد كان فـي إعيـــاء

غصّت دمشق بدمعـها لمْ تُبــده===حبستْه في أعمــاقــها بعــنــــاء

حبسته كي يبقى رصيد جمارها===يومًا لتحــرق زُمـــرة اللقطاء

غصتْ وفيها القلب يبكي ناعيـًا ===نجمًا هــوى في عــزةٍ وإبــاءِ

فاستقبلتْـه بــطاح نـــجد ترتَــوي===من ريـه، بوركتِ من بطحاءِ

كم من فحـول الشام أصبح ثاويًا===في روضك المصبوغ بالحنّاءِ

يا ربّ أكرمهم وأعلِ مقـــامهــم===واجعل محبيهـــم من السعـداء

--------------------------

* الشيخ إبراهيم الغلاييني

**الدكتور مصطفى السباعي، مؤسس كلية الشريع بجامعة دمشق.

***مجلة "حضارة الإسلام"