العلَّامة الشيخ: عبد الفتاح أبو غدة -5-

* تفننه في العلوم:

بدأ الوالد رحمه الله طلب العلم بهمة عالية متوثبة، ونهمة شديدة، وذهن متقد، وذكاء ألمعي، فنهل من مختلف العلوم والفنون.

وكان له في بدء الطلب اهتمام بالنحو واللغة، حتى إن بعض أقرانه كان يسميه: (الأصمعي)، وآخر كان يسميه: (قاموسٌ ناطقٌ).

كما اهتم بالفقه والأصول، والسيرة والحديث الشريف.

ثم لمّا انتقل إلى مصر درس في الأزهر الأصول والفقه والحديث وغيرَ ذلك من الفنون بتوسع، فغدا رحمه الله محدثاً فقيهاً أصولياً نحوياً لغوياً أديباً مؤرخاً رحمه الله وغفر له.

وأضرب مثالاً لعلمه بالعربية: أن الوالد رحمه الله أخرج ملاحظات لغوية على العلامة أبي فِهْر محمود شاكر في تعليقه على «طبقات فحول الشعراء» لابن سَلَّام، ومحمود شاكر يعد من أفراد هذا العلم في هذا العصر. رحمهما الله وغفر لهما.

وتعليقات الوالد رحمه الله المنثورة في كتبه خير شاهد على تفننه في العلوم السابقة الذكر.

* مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:

بناء على ما سبق من تفننه في العلوم رحمه الله، وجودته وإتقانه في خدمة كتب العلم، مع الذوق الرفيع، والعمل والصلاح، تبوَّأ رحمه الله مكانة رفيعة عند علماء عصره، حتى عند بعض من كان يخالفه الرأي.

وسأسوق طائفة من ثناء العلماء عليه، مبتدئاً ومختتماً بعلماء مكة زادها الله شرفاً وعمرها بالعلم والعلماء:

1  قال الشيخ العلامة الفقيه الأصولي محمد يحيـى أمان رحمه الله مراسلاً الوالد رحمه الله في عام 1384: إلى محترم المقام الأستاذ الجليل والفاضل الكامل النبيل.

2  وقال العلامة الفقيه الشيخ علوي بن عباس المالكي رحمه الله تعالى مراسلاً الوالد رحمه الله في عام 1384 أيضاً: سيادة المحترم العالم العلامة الإمام الدرَّاكة النبيل.

3  وقال العلامة الفقيه الشيخ حسن المشاط رحمه الله مراسلاً الوالد رحمه الله في عام 1377: العلامة المحقق الدرَّاكة أستاذ حلب الشهباء وفاضلها، حامل لواء السُّنَّة المطهرة في ربوع الديار الشامية وناشرها، صديقنا الشهم الكريم، سيدي الشيخ عبد الفتاح أبو غدة أطال المولى عمره في خير وعافية يتمتع به الطالبون ويُروى به المتعطشون وجمعنا به في خير وعافية بمنّه وكرمه.

4  قال الشيخ العلامة المتفنن المحقق الكبير مفتي الديار المصرية حسنين مخلوف رحمه الله في تقريظه للطبعة الأولى من كتاب «رسالة المسترشدين»: الأستاذ العلامة المحقق،...، وبعد فإني أحمد الله تعالى إليكم، إذ وفَّقكم لنشر «رسالة المسترشدين» للإمام المحاسبي، بتحقيقكم القيِّم الذي ألممتم فيه بما ينبـئ عن غزير علمكم ودقيق بحثكم، وازدانت به «الرسالة» رُواءً وجمالاً، وازدادت به نفعاً وكمالاً...

كما وصف رحمه الله الوالد في رسالة بعث بها إليه في 4/جمادى الأولى/1389 بأنه: أحد العلماء النابهين الصالحين.

5  ووصفه الشيخ العلامة المحدث المدقق حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله في رسالة أرسلها إليه: بالعلامة النحرير.

كما أنه رحمه الله نظم بيتين في مدحه، وهما:

أهلاً بِمَقْدَمِكَ الهَنِيِّ ومرحباً *** يا عالمَ الشَّهْبَا إمامَ الشامِ

لم يحوِ علمَ الفقه والآثار شا *** مي كجَمْعِكَ بعد ذاك الشامي

ويريد (بالشامي) الثاني: العلامة ابن عابدين صاحب «الحاشية»، فإن أهل الهند قاطبة يطلقون على ابن عابدين العلامة الشامي أو الشاميَّ.

كما أنه قال له ذات مرة: يا شيخُ إني أُجِلُّكَ إجلال الشيوخ (أي كما يُجِلُّ مشايخه) رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جناته.

6  وقال الشيخ العلامة الفقيه محمد أبو زهرة في رسالة أرسلها للوالد رحمهما الله: أخي العزيز الأستاذ... الأكرم.

وبعد، فإن الأيام السعيدة التي قضيتها بصحبتك الطيبة الخالصة التي رأيت فيها إخلاص المتقين وظرف المؤمنين واصطبار الأصدقاء على بلاغة الأولياء،...، وإن هذه أيام لا أنسَ ما بدا منها فيك من طبع سليم ولطف مودة وحسن صحبة.

7  وكتب إليه العلامة المحدث عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله رسالة يثني فيها على بحث الوالد رحمه الله «من ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» وسكت عنه»، مع شيء من ملاحظاته، وصفه فيها: بالعلامة المحدث، وقال: أظهرتَ فيه (في البحث المذكور) اطلاعاً ومعرفة.

8  أما شيخه ومحبه القديم، العلامة الأفيق الفقيه المحقق الأديب المنقح الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله وبارك في أثره وعلمه، فقال في تقريظه لكتاب «صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل»: أخي الأثير الحبيب، الذي له في قلبي محبةٌ أكبر من قلبي، وله في نفسي وقارٌ وإن كان أصغر مني سناً...

وقال في ترشيحه للوالد رحمه الله لجائزة سلطان بروناي حسن البَلْقِيَا العالمية في الحديث الشريف وعلومه: وقد وازنت بين هؤلاء الجديرين الذين أعرفهم، فترجّح في نظري صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل العلامة الثَّبْت المحقق المدقق الثقة، الذي لا يجاريه في تحقيقاته ودقته فيها مُجارٍ، وهو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة...، وبالإضافة إلى مؤهلاته العلمية يتمتع بأخلاق إسلامية عالية المستوى، وبمكانة محترمة، وتتوافر في شخصه أخلاق العلماء من التواضع والمتانة في الدين دون تساهل...

وقال لما زارنا معزّياً: إنه لا يعلم له مثيلاً في هذا العصر.

9  وقال العلامة المحقق الشيخ السيد أحمد صقر رحمه الله: لو قيل للأخلاق تجسَّدي لكانت عبد الفتاح.

10  وقال الشيخ العلامة محمد الشاذلي النيفر رحمه الله، في رسالة أرسل بها معزياً: إن نبأ نعي العلامة الإمام الفقيد العزيز الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وقع علينا كالصاعقة، لما له من دين وفضل وعلم جَمَّ...

وقال عنه: إنه من الأفذاذ الذين يفتخرُ بهم عصرهم.

11  وقال الشيخ العلامة أحمد سحنون حفظه الله في رسالة أرسلها إلى الوالد رحمه الله: الأخ الكريم والصديق الحميم، العالم النفاع والبحّاثة الملهم...

12  وقال الأستاذ العلامة الفقيه المحقق محمد الحبيب ابن الخوجهْ نفع الله به، في رسالة أرسلها للوالد رحمه الله: سماحة الشيخ الأستاذ العلامة حافظ السنة...

وقال في رسالة العزاء: تلقينا بغاية الأسى والحزن نعي شيخنا الجليل الفقيه المحدث...

13  وقال الأستاذ العالم الرباني، والداعية المربي، الفاضل والعاقل، الشيخ أبو الحسن علي الندوي الحسَني رحمه الله في تقريظه للطبعة الثانية من «صفحات من صبر العلماء»: وبعد فيسعدني أن أكتب سطوراً في انطباعي عن كتاب «صفحات...»، في طبعته الثانية، للعالم الرباني المربي، تذكار علماء السلف في سُمُوِّ الهمة، وعلو النظر، والتفنن في العلوم، والإتقان فيها...

وقال رحمه الله لأحد تلامذته  وهو يقدمه ويعرّفه على الوالد رحمه الله : إنك في مستقبل الأيام ستذكر العلماء الذين لقيتَهم، وستعتز بهذه اللقيا، وستقول في يوم من الأيام: لقيتُ فضيلةَ الشيخِ عبدِ الفتاح أبو غدة.

14  وقال الشيخ العلامة المحدث الفقيه محمد عبد الرشيد النعماني رحمه الله في رسالة أرسلها للوالد رحمه الله: الشيخ العالم البحر زين الديار الحلبية المحقق العلامة النقادة، المحدث الناقد...

15  وقال الشيخ العلامة المقرئ المتقن الورع الفقيه عبد الوهاب الحافظ المشهور بعبد الوهاب دِبْسٌ وزَيْتٌ الدمشقي رحمه الله: لو كان انتخاب المفتي بالاختبار لاستحق الإفتاء الشيخ عبد الفتّاح أبو غدَّة.

16  ووصفه الشيخ المقرئ كريّم سعيد راجح حفظه الله شيخ القراء في دمشق، في رسالة العزاء: بالعلامة.

17  ووصفه علامة دمشق الشيخ أحمد نصيب المحاميد رحمه الله ، في رسالة العزاء: بالعلامة المحقق المدقق المسنِد.

وقال عنه: هو عَلَمٌ من أعلام المحدِّثين والأصوليين والأدباء، لا يزال عالماً ومتعلماً ومعلِّماً، قد تخلَّق بخُلُق ابن المبارك: من المحبرة إلى المقبرة.

18  وقال عنه الشيخ العلامة المحدِّث المربي عبد الله بن عبد القادر التَّلِيْدي المغربي: العلامة الكبير المحدِّث المحقق المطَّلع، من محاسن العصر وأفراده ونوادره علماً واطِّلاعاً وتحقيقاً وفضلاً وصلاحاً.

19  ونعته الشيخ الفقيه الأصولي الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان المكي، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، بالعلَّامة المحدِّث الفقيه، وقال عنه: كان رحمه الله طرازاً فريداً من العلماء الذين يجمعون بين علم الحديث رواية ودرايةً وعلم الفقه تأصيلاً وتفريعاً في معاصرة واعية ومرونة ملتزمة.

20  وقال عنه الشيخ الفقيه عبد الفتاح بن حسين رَاوَهْ المكي: العلامة المحدِّث، مما يتعجَّبُ منه علماً وعملاً، وأدباً وتواضعاً، ورواية ودراية، وتحقيقاً وإتقاناً، وسمتاً وهدياً.

* عوامل نبوغه وبروزه:

1  أسرته المتدينة.

2  استقامته وتقواه وصلاحه.

3  ذكاؤه الفطري.

4  ذوقه الفطري.

5  أدبه الفطري.

6  لطفه وظرافته.

7  خُلقه الحسن.

8  تواضعه الجمّ.

9  تعقُّله وحَصافته وعدم تعصبه.

10  حُبُّه للعلم، ونهمه في التحصيل.

11  الهمة العالية المتوثبة.

12  تلقّيه ومخالطته لكبار علماء عصره في بلدان كثيرة.

13  نباهته، وانتخابه عن كل شيخ أحسن ما عنده.

14  رحلاته الكثيرة والمتنوعة.

15  اشتغاله بالتصنيف والتحقيق.

16  اشتغاله بالتدريس والتعليم.

17  اشتغاله بالدعوة، مما أعطاه صبغة محلية وعالمية.

18  حُسن هيئته ومظهره.

* ركائز شخصيته:

1  الصلاح والتقوى.

2  الإحساس المُرْهَف بالجمال.

3  الرغبة والمحبة الشديدة للكمال.

4  الذوق.

5  الأدب والخُلُقُ الحَسَن.

6  الحرص على الوقت.

7  الشغف بالعلم تحصيلاً وقراءةً وتأليفاً.

8  الذكاء الحاد.

9  الذاكرة القوية.

10  العقلانية المنوَّرة بنور الشرع.

11  الحس الحار النيراني.

* من أقواله:

الإسلامُ ذوقٌ.

الكتابُ لا يعطيك سرَّهُ إلَّا إذا قرأته كلَّه.

ما جمع الله الخير كلَّه لأحد إلَّا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

مَزِيَّةُ العالم أن يوقظ العقل بظل الشرع.

دِرهمُ مالٍ يحتاج قِنْطَارَ عَقْلٍ، ودِرهمُ علمٍ يحتاج قِنْطَاري عَقْلٍ.

العلم يُتَعَشَّقُ بالفهم.

* وفاته:

انتقل رحمه الله إلى جوار ربه الكريم ورحمة خالقه الرحيم في سَحَر يوم الأحد 9/شوال/1417هـ بمدينة الرياض، عن إحدى وثمانين سنة وثلاثة أشهر إلَّا ستة أيام، رحمه الله وغفر له وقدَّس روحه ونوَّر ضريحه وبرَّد مضجعه وطيّب ثراه.

وصُلِّيَ عليه يوم الاثنين بعد صلاة الظهر في مسجد الراجحي بمدينة الرياض، ثم نُقِل بالطائرة إلى المدينة المنورة، حيث صُلِّي عليه بالمسجد النبوي الشريف عقب صلاة العشاء، ثم دفن في البقيع الشريف، وكانت جنازته مشهودة حضرها نحو ألف شخص ضاق بهم البقيع وازدحم، كلهم يثنون عليه خيراً ويبكون ويترحمون عليه.

وقد صُلِّي عليه صلاة الغائب في عدد من مساجد تركيا والهند وقطر والمغرب.

جسدٌ لُفِّفَ في أكفانه

رحمةُ اللَّهِ على ذاك الجسدْ

وقد صحَّ في الحديث الشريف عن عائشة وأنس رضي الله عنهما مرفوعاً (ما من ميِّت تُصلِّي عليه أُمةٌ من المسلمين يبلغون مئةً، كلُّهم يشفعون له إلَّا شُفِّعوا فيه)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلَّا شَفَّعهم الله فيه).

الحلقة السابقة هـــنا