في ذكرى استشهاد بنان الطنطاوي

كتب فضيلة الشيخ علي الطنطاوي في الحلقة 165 من "الذكريات" (المنشورة سنة 1985):

ما صدّقت إلى الآن -وقد مرّ على استشهادها أربع سنوات- أنها ماتت؛ إنني أغفل أحياناً فأظنّ إنْ رنّ جرس الهاتف أنها ستُعْلِمني -على عادتها- بأنها بخير لأطمئنّ عليها. تكلّمني مستعجلةً ترصف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائماً كأنها تحسّ أن الردى لن يبطئ عنها وأن هذا المجرم، هذا النذل، هذا... يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يُطلَق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام.

إن في العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة وأمثالها، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس حتى طرقَت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها، فضربها ضرب الجبان. والجبان إذا ضرب أوجع! أطلق عليها خمس رصاصات تلقّتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها، كأن فيها بقيّة من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:

ولسنا على الأعقابِ تَدْمى كُلومُنا   ***   ولكنْ على أقدامِنا تقطُرُ الدِّما

ثم داس الـ... لا أدري والله بِمَ أصفه؟ إن قلت "المجرم" فمِن المجرمين مَن فيه بقيّة من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدمَيه النجستين على التي قتلها ظلماً ليتوثّق من موتها، ربما كان في المجرم ذرّة من إنسانية تحجزه عن أن يخوض في هذه الدماء الطاهرة التي أراقها. ولكنه فعل ذلك كما أوصاه مَن بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكّد من نجاح مهمّته، قطع الله يديه ورجلَيه. لا، بل أدعه وأدع مَن بعث به لله، لعذابه، لانتقامه. ولَعذابُ الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.

*   *   *

لقد كلّمتها قبل الحادث بساعة واحدة، قلت: أين عصام؟ قالت: خبّروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت. قلت: فكيف تبقين وحدك؟ قالت: بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير. ثق والله يا بابا أنني بخير. إن الباب لا يُفتَح إلاّ إن فتحته أنا، ولا أفتح إلاّ إن عرفت من الطارق وسمعت صوته. إن هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة، والمسلّم هو الله.

ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان، سيهدّد جارتها بمسدسه حتى تكلّمها هي، فتطمئنّ فتفتح لها الباب.

ومرّت الساعة فقُرع جرس الهاتف، وسمعت من يقول لي: كلّم وزارة الخارجية. قلت: نعم؟ فكلّمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردّد، كأنه كُلّف بما تعجز عن الإدلاء به بُلَغاء الرجال، بأن يخبرني... كيف يخبرني؟ وتردّد، ورأيته بعين خيالي كأنه يتلفّت يطلب منجى من هذا الموقف الذي وَقَفوه فيه، ثم قال: ما عندك أحد أكلّمه؟ وكان عندي أخي، فقلت لأخي: خذ اسمع ما يقول.

وسمع ما يقول، ورأيته قد ارتاع ممّا سمع وحار ماذا يقول لي، وكأني أحسست أن المخابرة من ألمانيا وأنه سيُلقي عليّ خبراً لا يسرّني، وكنت أتوقّع أن ينال عصاماً مكروه، فسألتُه: هل أصاب عصاماً شيء؟ قال: لا، ولكن... قلت: ولكن ماذا؟ عجّل يا عبد الغني فإنك بهذا التردّد كمن يبتر اليد التي تَقَرّر بترُها بالتدريج، قطعةً بعد قطعة، فيكون الألم مضاعَفاً أضعافاً. فقُل وخلّصني مهما كان سوء الخبر.

قال: بنان. قلت: ما لها؟ قال، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبقَ في يده شيء. وفهمت وأحسست كأن سِكّيناً قد غُرس في قلبي، ولكني تجلّدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً والنار تتضرّم في صدري: حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت. فحدّثَني. وثقوا أنني لا أستطيع -مهما أوتيت من طلاقة اللسان ومن نفاذ البيان- أن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعتُ.

*   *   *

وانتشر في الناس الخبر، ولمست فيهم العطف والحبّ والمواساة. وأغلقت عليّ بابي، وكلّما سألوا عني ابتغى أهلي المعاذير يصرفونهم عن المجيء. ومجيئهم فضل منهم، ولكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع؛ لم أُرِد أن تكون مصيبتي مضغة الأفواه ولا مجالاً لإظهار البيان. إنها مصيبتي وحدي فدعوني أتجرّعها وحدي على مهل.

إني لأتصور الآن حياتها كلّها مرحلة مرحلة ويوماً يوماً، تمرّ أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني. ولمّا صار عمرها أربعَ سنوات ونصف السنة أصرّت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها، فسعيت أن تُقبَل من غير أن تُسجَّل رسمياً. فلما كان يوم الامتحان ووُزّعت الصحف والأوراق جاءت بورقة الامتحان وقد كُتبَت لها ظاهرياً لتُسَرّ بها ولم تسجّل عليها. قلت: هيه؟ ماذا حدث؟ فقفزَت مبتهجة مسرورة، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات المتلاحقة الألفاظ: بابا كلها أصفار، أصفار، أصفار... تحسب الأصفار هي خير ما يُنال!

وماذا يهمّ الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفاراً أم كانت عشرات؟ وماذا ينفع المسافر الذي ودّع بيته إلى غير عودة وخلف متاعه وأثاثه، ماذا ينفعه طراز فرش البيت ولونه وشكله؟ رحمها الله.

[المقالة كاملة في الجزء السادس من ذكريات علي الطنطاوي]

نشرت 2017 وأعيد نشرها وتنسيقها 31/8/2021