الشيخ شعيب الأرنؤوط شيخي الذي افتقدته

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم:24-25].

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبيَّ بعده، وبعد:

فقد طُويِت في أيَّامنا هذه صفحةٌ مِن صفحات العلم ما كان أغزرها وأنفعها، وهوى شهابٌ مِن شُهبِ المعرفة ما كان أسطعه وألمعه، وصَوَّحت دوحةٌ في دنيا التَّحقيق والتَّدقيق ما كان أدقَّها وأجلَّها.. وأحكمها وأسدَّها، وانهدَّ ركنٌ مِن أركان التَّربية والبناء ما كان أعظمه وأنفعه، وذَوَتْ ورقةٌ مِن ورقات الفضل وثمرةٌ مِن ثمار الجود والكرم ما كان أينعها وأنضجها وأطيبها.

فقد مات الشيخ شعيب وكفى.

فكل هذي المعاني غيضٌ مِن فيضِ الرَّجل، وقُلٌّ من كُثْرِهِ، وقطرةٌ في بحره. 

عرفتُه في بداية السَّبعينيِّات مِن القرن الفائت، فما عرفت أعلمَ منه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أبصرَ منه في تفسير كلام الله عزَّ وجلَّ، أو أفقهَ منه في مذاهب الأئمَّة المعتمدين، أو أنفع منه لطالب علم متعطِّشٍ للبحث والمعرفة.

ونعمتُ بالعيش في دنياه أيامًا وشهورًا وأعوامًا، فكانت الأيامُ أيامَ خيرٍ وبركة، وكانت الشُّهورُ شهورَ علمٍ ومعرفةٍ، وكانت الأعوامُ أعوامَ انتفاعٍ واستبصار، وعرفتُ فيه معنى الصُّحبة، وأحبِبْ بها مِن صحبةٍ! صحبة التَّلميذ لشيخه، وصحبة الشَّيخ لتلميذه، صحبة لا يحجبها كِبرٌ أو غرورٌ، ولا ينال منها تكلُّفٌ أو تعسُّفٌ، ولا يؤثِّر فيها ضنٌّ أو شحٌّ، صحبةٌ تسمو على التَّكاليف والتَّعاريف، صحبةٌ يأنس فيها الطَّالب لشيخه فيحبه ويجلُّه، ويأنس فيها الشَّيخ لتلميذه فيقربه ويحبوه.

وقد غرس في نفسي ثقةً ما كان أحوجني إليها، إذ كثَّرَ قليلي، ولمَّ شَعْثي، وأقالَ عثاري، ونفخ فيَّ مِن روحه، وعَرَف مواضع القوَّة في نفسي فاستثارها، وأورى زَنْدَها، وجعل منها شيئًا مذكورًا.

وما كان أشدَّ عجبي منه حين علم بتوكيلي بتدريس العربية مكان أستاذ – أصبح اليوم ملء العين والبصر إدارةً وفتوًى وسلطةً – فقال لي: ليندمَنَّ هذا الأستاذ على توكيلك لأنَّك ستؤلِّب عليه الطَّلبة ، ولو استقبل من أمره ما استدبره لوكَّل مدرسًا دونه لا خيرًا منه!. 

وأعجب مِن ذلك أنَّه دفع إليَّ كتاب "جلاء الأفهام في الصَّلاة على سيِّد الأنام"، وكان قد فرغ من تحقيقه مع شيخنا الشَّيخ عبد القادر الأرنؤوط، لأقدم له!.

ثمَّ طلب إليَّ أن أقدِّم لكتابٍ آخرَ أطوي الحديث عنه خشية أن يثير كلامي أشجانًا وأشجانًا.

لا تبع عقلك لأحد

وأعجب مِن ذا وذا أنَّه كان يستمع إليَّ ويناقشني ويحاورني، ويفسح لي المجال لأحاوره وأخالفه مرددًا دائمًا عبارته المشهورة: "لا تبع عقلك لأحد".

وبلغ الشَّيخ عندنا معشر طلابه وأصحابه مرتبةَ الصدِّيقين حين اصطفى واحدًا مِن خيار طلابه ليكون زوجًا لابنته، دون أن يطلب منه شيئًا أو يكلِّفه شيئًا.

وعذرًا ثمَّ عذرًا أن قدمتُ خصوصياتي على ما عُرف به الشَّيخ في عالم الحديث والتَّحقيق، مِن إحسانٍ وإتقانٍ وتجويدٍ، وإخراج أسفارٍ تنوء بحملها العصبة أولو القوَّة، بَـلْهَ قراءتها، بل بَـلْهَ تحقيقِها وبعثها مِن مراقدها، تزدان في حلِّتها، وتزهو في مشيتها.

وقد بلغ مجموع ما حقَّق، وأخرج مِن كتب السُّنة والحديث والرِّجال والتَّاريخ ثلاثمئة مجلد! فخبِّرْني بربك مَن يقوى على قراءتها من نشراتها، فضلًا عن نسخها مِن مخطوطاتها، وتحقيقها وتدقيقها وإخراجها.

وإنما قدمتُ ما قدمت – مِن حديث النَّفس والخصوصيات - ليُعْلَمَ أيُّ مُعلِّمٍ كان وأيُّ إنسانٍ!

وأمَّا ما وراء ذلك من علمٍ بالحديث، وخدمةٍ للسُّنةِ، وبصر بالرِّجال، وحذق بالتَّحقيق، ومكنةٍ مِن الفقه، وباعٍ طويلٍ في العربيَّة والأدب والشِّعر، وتفنُّنٍ في كلِّ علمٍ وفنٍ، فأمرٌ سارت به الركبان، وعرفه النَّاس في كلِّ مكان.

في الظَّاهرية عرفتُه ركنًا مِن أركانها

وتعود بي خيوط الذَّاكرة إلى أوَّليتي مع الشَّيخ - رحمه الله -، فتتراءى لي تلك الأعوام، أعوام الخير التي انقضت في صحبته، فأجدني أدوِّن شيئًا من ذكرياتي معه.

في الظَّاهرية عرفتُه ركنًا مِن أركانها، وعمودًا مِن أعمدتها، بل جزءًا مِن تاريخها، ورجلًا مِن رجالاتها... كان يشغل مع كتبه ومصادره ومراجعه صدر القاعة، وإلى يمينه صنوه وخدينه الشَّيخ عبد القادر الأرنؤط رحمه الله، وإلى يساره رجل حليق لم أكن أعرفه، ثمَّ عرفت أنَّه أخوه الأستاذ إبراهيم الأرنؤوط.

أمَّا جانب القاعة الغربي فكان للمحدِّث الشَّيخ ناصر الألباني رحمه الله، يجلس فيه ناشرًا مخطوطاته وأوراقه وكنَّاشاته حوله كما تُنشر الملابس إثر غسلها، متوسطًا كتبه ومخطوطاته كما يتوَّسط الشَّيخ طلابه ومريديه. وعليه ملامح الجدِّ والاجتهاد والوقار والجلال. 

كان ذلك في أوائل السبعينيَّات مِن القرن الفائت – أعني القرن العشرين – وكنَّا نختلف إلى الظَّاهرية لإنجاز موضوعٍ ما، أو استعارة كتابٍ ما، ويكثر ترددنا إليها أيام الامتحانات ويا لها مِن أيَّام! تزدحم بالطَّلبة فتغصُّ بهم قاعة المطالعة الكبيرة، والرَّابح منهم مَن يفوز بكرسي في الثَّامنة صباحًا، مع فتح باب المكتبة، ولذا كنتَ ترانا مزدحمين على بوابتها الخارجيَّة قبل الموعد المحدد، حتَّى إذا ما فُتِحَتْ البوَّابة دلفنا مسرعين مُصعِدين نحو القاعة لا نلوي على شيءٍ.

فإذا استوينا في مقاعدنا، شرعنا في الدِّراسة والقراءة باذلين كلَّ الوسع في تحصيل أكبر قسطٍ منها، ولكن هيهات فما أكثر ما كان يصرفنا عنها، ويسرقنا منها، حتَّى إنَّنا كنَّا نتعاهد ألا نأخذ قسطًا مِن الرَّاحة إلَّا بعد ساعةٍ أو بعض السَّاعة، وما أبطأ الوقت الذي يمضي حتَّى يحين موعد تلك الراحة.. كل ذلك والمشايخ في صدر القاعة وطرفها الغربي على جلستهم وجِدِّهم واجتهادهم، لا يصرفهم عن ذلك إلَّا صوت جماعة المؤذنين مِن مسجد بني أمية الكبير يصدحون بأذان الظهر. عندها! وعندها فحسب يبرح المشايخ مجلسهم متوجِّهين لأداء الصَّلاة، وكذا يفعل الشيخ ناصر... ولكنْ كلٌّ على حدة!.

كنَّا ننظر إلى هؤلاء الشُّيوخ نظرةً ملؤها الإكبار والإجلال، والتَّوقير والاحترام، موقنين أنَّ ما بيننا وبينهم بُعْدَ المشرقين! فأين نحن في دراستنا مِن دراستهم؟ وأين نحن في قراءتنا من قراءتهم؟ بل أين نحن في لهونا ولعبنا من جِدِّهم ووقارهم، لقد وَقَرَ في أذهاننا أن دنيانا غير دنياهم، وأن مِن الصَّعب أن نصل إليهم، بِلْهَ أن نصاحبهم أو نجالسهم!

معجم تهذيب اللغة واسطة العقد بيننا 

إلى أن جاء ذلك اليوم، يوم اضطررت لاستعارة معجم تهذيب اللُّغة للأزهري – وكنت في سنتي الأولى من سنِيْ الجامعة - فلم أجده في مستودع الكتب، وأشار عليَّ مسؤول القاعة أن أسأل عنه الشَّيخ شعيب الأرنؤوط، وما أصعب ما أشار به! إذ كيف أقتحم على المشايخ صومعتهم هذه، وأنَّى لمثلي أن يقطع عليهم عكوفهم على مصادرهم ومراجعهم، وتبتُّلَهم في محاريب العلم ومنابره؟!

ولكنّي مع ذلك كلِّه استعنت بالمولى عزَّ وجلَّ، وتقلَّدتُ شيئًا مِن رباطة الجأش وقوَّة القلب، ويمَّمتُ شَطْرَ صدر القاعة أبغي سؤال الشَّيخ شعيب، تَعْلُوني الرَّهبة، وتعتريني القَشْعَريرةُ! ويشفع لي معرفة والدي - رحمه الله - بالشَّيخ، وما كان أشدَّ عجبي إذ تلقاني الشيخ - برَّد الله مضجعه - بمحياه الطلْق، وبسمته المحببة، وكلماته العذبة، بما أزال عني كلَّ وَحْشَةٍ ونفى عني كلَّ رهبةٍ، وأغراني بالمزيد مِن السُّؤال.. والمزيد مِن الكلام.. والمزيد مِن اللِّقاء، ثمَّ التَّردد عليه.. ثمَّ ملازمته.. ثمَّ التتلمذ بين يديه.. ثمَّ صحبته، أجل! كان ذلك السؤال مفتاح ملازمةٍ وصحبةٍ امتدت أعوامًا وأعوامًا إلى أن فارق الشَّيخ دنيانا، رحمه الله وأحسن إليه.

الشيخ ومحبة طلابه له

ولم يتَّسع صدر الشَّيخ لي وحدي فحسبُ، بل اتسع لي ولأصدقائي وأحبابي وإخوتي، وكان في مقدمتهم الصَّديق الدكتور يحيى مير علم، ثمَّ الأصدقاء الأحباب الأساتذة أحمد الحمامي ومأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه وأديب الجادر وإبراهيم الزيبق ومحمود الأرنؤوط وأخواي الشَّقيقان رضوان وعبد الله الطَّيان وجمعٌ لا أُحصيه مِن أصحابنا...

فكم أكرمنا الشَّيخ بجلسات، وكم دعانا إلى نزهاتٍ، وكم قضينا معه مِن سهراتٍ.. على أنَّه خصَّنا بمجلسين اثنين كلَّ أسبوع، كنا نقرأ في أولهما تفسير النَّسفي، وفي الآخر فقه السُّنة للسيد سابق، أحدهما في بيت الأخ التَّاجر الدمشقي الصدوق أكرم الطواشي حفظه الله، والآخر في بيت الأخ الشيخ أبي عبد الرحمن الحموي رحمه الله.

 وأشهد أني ما عرفت فيما عرفت، ولا شهدت فيما شهدت، مجلسًا علميًّا أرقى أو أعظم أو أدق أو أشمل أو أنفع منهما، ذلك أنَّ الشَّيخ رحمه الله كان يحتشد لهما، ويهيئ ما سيقول فيهما، فلا يدع صغيرةً ولا كبيرةً تمرُّ دون تعليق أو شرح أو ترجيح أو مناقشة أو تدليل أو استشهاد، وكنا نسجِّل ما يجود به علينا مِن فوائد ودررٍ، حتَّى تضيق به صفحات الكتاب، فنلجأ إلى إلحاق صفحات أخرى تكمل ما بدأنا مِن تعليقاتٍ نتلقَّفها من فِـلْـقِ فيْ شيخِنا أحسن الله جزاءه. 

أمَّا سهرات الشَّيخ ونزهاته فحدِّث عنها ولا حرج، إذ كان الشَّيخ فيها ينشرح أيَّ انشراح، ويستأنس أيَّ استئناس، فينشدنا مِن كريم الشِّعر وحرِّه ونسيبِه وغزلِهِ ما قلَّ أن تسمع مثله، ويحدثنا مِن حديث النَّفس وجميل الذكريات ما يجلو عن القلب الحَـزَن، ويسرد لنا من مواقف الرِّجال وكريم الفعال ما يَشدُّ إليه كلَّ رجلٍ وكريمٍ.

ثمَّ يسألني أن أنشد بصوتي بعض الأناشيد، على أن أتخيَّر منها ما لا شطحَ فيه أو غلو أو شِرْك.. فكنتُ أنشده وكان يستزيدني ويطرب، بل كان شديد الطَّرب لبعض الأناشيد ولاسيما قصيدة شاعر الإسلام محمد إقبال:

الدِّين لنا والحقُّ لنا والعدل لنا والكلُّ لنا

أضحى الإسلام لنا دينًا وجميعُ الكون لنا وطنًا

توحيد الله لنا نورٌ أعددنا الرُّوح له سكنًا

زيارته للعلامة أحمد راتب النفاخ

وكنَّا كثيرًا ما نصحبه – أنا والأخ يحيى – لزيارة أستاذنا العلَّامة أحمد راتب النَّفاخ، وكان صديقًا له، فنحظى بحوار بين الشَّيخين – أعني النَّفاخ والأرنؤوط – لا عهد لنا بمثله، ونلتقط منهما فوائد قلَّ أن يجود العلماء بأمثالها، ونسمع آراء بالرِّجال ما كان يدور في خلدنا أن نسمع بها.

احتدَّ النِّقاش بينهما مرَّةً في الإمامين أبي حنيفة والشَّافعي رحمه الله، وكان لدى النَّفاخ عصبية للشافعي واعتداد بفصاحته وبلاغته وعروبته، ولم تكن لدى الشَّيخ شعيب عصبية لأبي حنيفة برغم أنَّه حنفيٌّ، فكم سمعنا منه ترجيح حكمٍ أو رأيٍّ أو قولٍ على ما قال أبو حنيفة، ولما أسرف الأستاذ النَّفاخ في النيل مِن أبي حنيفة ابتدره الشيخ شعيب قائلا: إن حسان – يعنيني - حنفي المذهب!.

مع الشَّيخ شعيب عرفنا معنى تواضع العلماء، وذقنا حلاوة النِّقاش مع العلماء، وعشنا روعة صحبة العلماء.

ومع الشَّيخ شعيب عرفنا فيه صدق مقولة القائل: "مَنْ تَكَبَّرَ بِعِلْمِهِ وَتَرَفَّعَ وَضَعَهُ اللهُ بِهِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ بِعِلْمِهِ رَفَعَهُ اللهُ بِهِ".

ومع الشَّيخ شعيب تعلَّمنا أن نفكر بحريَّة، ونتخذ قرارنا بعد رويةٍ وتثبت وتيقنٍ، وألَّا نبيعَ عقلنا لأحدٍ، وألَّا نكونَ تبَعًا لأحدٍ.

مع الشيخ تعلمنا كل شيء

ومع الشَّيخ شعيب تعلمنا أنَّ كُلَّ عِزٍّ لَا يُوَطِّدُهُ عِلْمٌ مَذَلَّةٌ، وَكُلَّ عِلْمٍ لَا يُؤَيِّدُهُ عَقْلٌ مَضَلَّةٌ.

ومع الشَّيخ شعيب تعلَّمنا الوسطيَّة واليسر والسَّعة والسَّماحة، ونبذ الغلوِّ والتَّطرف والشَّطط والشَّطح والدَّجل والتَّنفير والتَّكفير.

ومع الشَّيخ شعيب تعلمنا أن نتثبَّت مِن صحِّة الحديث، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألَّا نروي إلَّا ما صحَّ مِنه، وألَّا نخدع بما نسمع مِن بعض الخطباء والوعُّاظ والأدعياء مِن أحاديثَ ضعيفةٍ أو موضوعةٍ ومِن شطحات ما أنزل الله بها مِن سلطان، يستميلون بها قلوب العامَّة مِن النَّاس، وكان كثيرًا ما يردد مقولة: لو أنَّ العامَّة عبيدي لأعتقتهم وتبرأت مِن ربقتهم. 

وكان بيني وبين الشَّيخ رحمه الله بعض المناكفات والمناقشات والخلافات – وما أحيلاها مِن خلافات - وكان صدره يتَّسع لها، بل كان يتعمَّد استثارتها في كثير من الأحيان، رغبةً في تأكيد حكم أو قضية، أو حرصًا على تصحيح مفهوم خاطئ، أو طلبًا للمؤانسة والمفاكهة والمزاح.

وحين يجدُّ الجِدُّ كان الشَّيخ يمنحنا مِن الثَّقة والتَّشجيع ما كنَّا نفتقده عند كثيرٍ ممن أخذنا عليهم أو صحبناهم مِن مشايخنا وأساتيذنا، فقد حثَّني والأخ الدكتور يحيى في مقتبل حياتنا العلمية على تحقيق مخطوط سر صناعة الإعراب لابن جني، ووضع نسخة الظَّاهرية بين أيدينا بغية تعرفها والبدء بنسخها! ولكن تهيّـبَـنا للأمر وتثبيطَ بعض أساتيذنا حال دون ذلك!

سير أعلام النبلاء وبداية الشروع به

ثمَّ دفع إلينا الجزء الأوَّل مِن كتاب سير أعلام النبلاء للذَّهبي حين شرع في تحقيقه مع نخبة تخيرها مِن أصحابه وطلابه، وكان لنا شرف معارضة المخطوط معه، والمضي في تحقيق بعض مسائله، ولكن عملنا في مركز الدِّراسات والبحوث العلمية حال أيضًا دون إتمام العمل، وكان وقع ذلك على شيخنا رحمه الله شديدًا، إذ كان يعوِّل على مشاركتنا، وقد أبى أن نرشح له مَن يقوم مقامَنا في تحقيق ذلك الجزء.

وفارقنا الشيخ في أوائل الثمانينيّات إلى عمان، ليتابع مسيرته العلمية الطيبة هناك، ولكن تشجيعه وثقته أبت أن تفارقنا، بل كانت دومًا تصل إلينا زكيَّةً طيبةً يفوح منها المسك والعنبر وتدلُّ على كريم أصله وعظم شأنه وسمو خلقه.

ولولا مُسْكةٌ مِن حياء لذكرتُ بعض كلماته التي ردَّدها على مسمع بعض أصحابنا، وأتحفوني بها، فصفَّق لها قلبي، وطرب لها وجداني، وعلمت منها مبلغ محبَّة الشَّيخ لي واعتزازه بي، فطويت الصدر عليها، حبًّا لها، وضنًّا بها.

ثمَّ لقيتُ الشَّيخ بعد طول بُعدٍ

ثمَّ لقيتُ الشَّيخ بعد طول بُعدٍ، في عمَّان أوَّلًا، وفي الكويت ثانيًا، فما اختلف عليَّ شيءٌ فيه.. همَّةً وجِدًّا.. وعلمًا وفضلًا.. وعطاءً ونفعًا.. ومحبةً وودًّا. 

لقد كان الشَّيخ شعيب - أغدق الله له العطاء - لنا مدرسةً، عشنا فيها زمنًا رغدًا.. وتقلَّبنا في نُعماها.. وارتوينا مِن معينها.. تعلَّمنا فيها الكثير، ونهلنا منها الكثير، وعرفنا فيها الكثير. وبفقده أوصدت أبواب كثيرة مِن أبواب العلم والخير والنَّفع.. بل لقد  ثُلِمَت من الإسلام ثُلْمَة..

 إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى    فَقَدْ ثُلِمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَهْ

أسأل الله العلي العظيم أن يجعل ما قدَّم وحقَّق، وعلَّم ودقَّق، وربَّى وبنى، زلفى له عند ربه، ونورًا يلقاه في قبره، وشفيعًا يشفع له. وأن يجزيه عنا وعن الأمة خير ما جزى عالما عن قومه، وداعيا عن أمته، وشيخا عن تلامذته. ولله الحمد من قبل ومن بعد، إليه يرجع الأمر كله وإليه المصير.

المصدر: المجلة الحميدية